مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

حروف الجر في القرآن الكريم: دراسة في الشبه والنظير «في» و«على» أنموذجا «الحلقة الأولى»

تقديم:

لمعاني حروف الجر وتعاقبها أهمية بالغة في اللغة العربية لما فيها من بيان بلاغي وبديع في النثر

والنظم؛ ومن معرفة غامض المعاني ولطيفها عند تفسير القرآن الكريم، ذلك أن دراسة أي جزء من أجزاء لغة القرآن تعد كشفا عن سمة من سمات إعجازه، ومن هنا تضافرت جهود العلماء في العناية به، والاستفادة منه، واتخذت هذه العناية أشكالا مختلفة، وصورا متعددة، تجلت في جمعه وتدوينه، وبيان محكمه ومتشابهه، وناسخه ومنسوخه…

ومن المعلوم أن استعمال حروف الجر في القرآن الكريم، ووضعها في مواضعها من الأمور الدقيقة المغزى، اللطيفة المأخذ، ومن يدرس هذه الحروف في القرآن الكريم يجد لها من المعاني والأغراض السامية ما لا يستطيع أن يحصيه أو يقف على نهايته، ولذلك جاء كل حرف في موضعه اللائق به، ولا جرم في ذلكَ فالقرآن الكريمُ« لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيد».[فُصِّلَت:42]

وفي هذا المقال سنقتصر على الحديث عن حروف الجر «في» و«على» في نماذج من القرآن الكريم انطلاقا مما قاله ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه الفريد «بدائع الفوائد».

وفي البداية لابد من مقدمة مختصرة نستعرض فيها معاني حروف الجر «في» و«على» وذلك لمعرفة دلالتهما الأصلية والفرعية مع شواهد من القرآن الكريم، ذلك أن القرآن الكريم قد استخدم حروف الجر بأنواعها المختلفة في حالتيها الأصلية والزائدة.

– حرف الجر «في»:وظيفته ومعناه.

فأما «في» فهي للوعاء أي الظرف، تقول: هو في الجراب، وفي الكيس، وهو في بطن أمه، وكذلك: هو في الغل، لأنه جعله إذ أدخله فيه كالوعاء له. وكذلك: هو في القبة، وفي الدار، وإن اتسعت في الكلام فهي على هذا، وإنما تكون كالمثل يجاء به يقارب الشيء وليس مثله.[1]وقال السيوطي: في للظرفية زمانا ومكانا [2] وهي حرف جر ولها عشرة معان:

أحدها: الظرفية:حقيقيّةً كانت، نحو «الماءُ في الكوز. سرتُ في النّهار». [3] وقد اجتمعت الظرفيّتانِ الزمانيّة والمكانيّةُ في قولهِ تعالى «الم غُلبتِ الرُّومُ في أَدنى الأرض، وهم مِن بَعْدِ غَلَبِهمَ سَيَغلِبونَ في بِضعِ سنينَ» [الروم1-3] ، أَو مجازيَّةً، كقوله سبحانه «ولَكُم في رسول اللهِ أُسوةٌ حسنةٌ» [الأحزاب:21] ، وقولهِ «ولَكُم في القصاصِ حياةٌ»، [البقرة:179]ومن المكانية«أدخلت الخاتم في أصبعي والقلنسوة في رأسي» فهو من المقلوب لأن المراد: أدخلت أصبعي في الخاتم فــ «في» باقية على موضوعها من الوعاء، والقلب في كلام العرب على معنى المجاز كثير، كقولهم في معنى ما نحن بسبيله:«أدخلت القلنسوة في رأسي» أي: رأسي في القلنسوة [4].

قال الرضي: وفي للظرفية إما تحقيقا نحو: زيد في الدار، أو تقديرا، نحو: نظر في الكتاب، وتفكر في العلم، وأنا في حاجتك، لكون الكتاب، والعلم والحاجة شاغلة للنظر والفكر والمتكلم، مشتملة عليها اشتمال الظرف على المظروف، فكأنها محيطة بها من جوانبها، وكذا قوله عليه الصلاة والسلام: «في النفس المؤمنة مائة من الإبل»، لي: في قتلها فالسبب الذي هو القتل متضمن للدية تضمن الظرف للمظروف، وهذه هي التي يقال إنها للسببية.[5]

فالرضي في هذا النص أدلى فأروى، ورمى فأصاب، حيث رد كل ما قيل عن تناوب هذا الحرف مع غيره، وأرجعه إلى معنى الظرفية في صورتيها الحقيقية والمجازية.

وجاء في الجنى الداني الحديث عن معاني «في» أن الظرفية هي الأصل فيها ولا يثبت البصريون غيره.[6]

الثاني: المصاحبة، نحو: «ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ» [الأعراف:38] أي معهم، وقيل التقدير: ادخلوا في جملة أمم، فحذف المضاف «فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ»[القصص:79][7].وقد تكونُ للحال في هذا السياق، أي خرجَ على هيئة خاصة من التّزيُّن.

الثالث: التعليل،نحو:« فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ»[يوسف:32] وقوله تعالى:« لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ »[النور:14] وفي الحديث «أن امرأة دخلت النار في هرة حبستها»[8]

الرابع: الاستعلاء: نحو«وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ»[طه:71][9]وهنا جاءت بمعنى «على» كقوله: علقته في جذع، أي على جذع، ألا ترى أن معنى في جذوع النخل«الوعاء» وإن كان فيها العلو، فالجذع وعاء للمصلوب، لأنه لابد له من الحلول في جزء منه، ولا يلزم في الوعاء أن يكون خاويا من كل جهة.[10]

الخامس: مرادفة الباء كقوله:

وَيَرْكَبُ يَوْمَ الرَّوْعِ مِنَّا فَوَارِس /// بَصِيرُونَ فِي طَعْنِ الأَبَاهِرِ وَالْكُلَى

وليس منه قوله تعالى:« يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ »[الشورى:11] خلافا لزاعمه، بل هي للتعليل، أي يكثركم بسبب هذا الجعل، وبمعنى باء الإستعانة ، أي يكثركم به، [11] والأظهر قول الزمخشري إنها للظرفية المجازية، قال: جعل هذا التدبير كالمنبع أو المعدن للبث والتكثير مثل: «وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ »[البقرة:179][12].

السادس: مرادفة إلى، نحو: « فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ »[إبراهيم:9][13]أي إلى أفواهه، لأن «رد» كقوله تعالى: « إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ » [القصص:7]، لكن إذا تحققت هذا ردوا أيديهم إلى أفواههم، فقد أدخلوها فيها [14].

السابع: مرادفة من كقوله:

أَلَا عِمْ صَبَاحًا أَيُّهَا الطَّلَلُ البَالِي /// وَهَلْ يَعِمْنَ مَنْ كَانَ فِي العُصُرِ الخَالِي

وَهَلْ يَعِمَنْ مَنْ كَانَ أحدثُ عَهْدِهِ ///  ثَلَاثِينَ شَهْرا فِي ثَلَاثَةِ أَحْوَالِ

قال ابن جني: التقدير في عقب ثلاثة أحوال، ولا دليل على هذا المضاف، وهذا نظير إجازته«جلست زيدا» بتقدير«جلوس زيد» مع احتماله لأن يكون أصله إلى زيد، وقيل: الأحوال جمع حال لا حول، أي ثلاث حالات: نزول المطر، وتعاقب الرياح، ومرور الدهور، وقيل: يريد أن أحدث عهده خمس سنين ونصف، فــ«في» بمعنى «مع». [15] وقال بعضهم أراد من ثلاثة أحوال، وهذا أيضا وإن كانت فيه بمعنى«من»،فإن «من » للتبعيض، وبعض الشيء داخل في كله فهي بمعنى الوعاء المجازي.[16]

الثامن: المقايسة: وهي الداخلة بين مفضول سابق وفاضل لاحق، نحو: «فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيل»[التوبة:38] [17] وهي الداخلة على تال، يقصد تعظيمه وتحقير متلوه. [18]

التاسع: التعويض، وهي الزائدة عوضا من أخرى محذوفة كقولك: «ضربت في من رغبت» أصله: ضربت من رغبت فيه. [19]

العاشر: التوكيد، وهي الزائدة لغير تعويض كقوله تعالى: « ارْكَبُواْ فِيهَا» [هود:41] أي اركبوها.[20] وقال أبوحيان: «في» زائدة للتوكيد أي: اركبوها [21].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

[1]سيبويه، الكتاب،4/226

 [2] همع الهوامع في شرح جمع الجوامع، جلال الدين السيوطي، 2/445

[3] جامع الدروس العربية، مصطفى بن محمد سليم الغلايينى3/180

[4]مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، ابن هشام الأنصاري جمال الدين، المجلد الأول ص:231، أنظر رصف المباني في شرح حروف المعاني، أحمد بن عبد النور المالقي، ص:389-390

[5] شرح الرضي على كافية ابن الحاجب، رضي الدين الأستراباذي،4/278

[6] الجنى الداني في حروف المعاني، المرادي1/250

[7] مغني اللبيب  عن كتب الأعاريب، المجلد الأول، ص:231،أنظر همع الهوامع في شرح جمع الجوامع، 2/445.

[8] مغني اللبيب عن كتب الأعاريب،المجلد الأول ص:231

[9] مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، المجلد الأول،ص:231

[10] أنظر رصف المباني في شرح حروف المعاني، أحمد بن عبد النور المالقي، ص: 389-388

[11] الجنى الداني، المرادي1/251

[12] مغني اللبيب، المجلد الأول، ص 232، انظر الكشاف للزمخشري 4/212

[13] مغني اللبيب عن كتب الأعاريب،المجلد الأول ص:232

 [14] رصف المباني في شرح حروف المعاني،أحمد بن عبد النور المالقي ص:388.

[15] مغني اللبيب عن كتب الأعاريب،المجلد الأول، ص:232، الخصائص،ابن جني 2/315-316

[16] رصف المباني في شرح حروف المعاني،أحمد بن عبد النور المالقي ص:391

[17] مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، المجلد الأول ص:232،الإتقان في علوم القرآن، جلال الدين السيوطي2/250.

[18] الجنى الداني في حروف المعاني، المرادي1/251

[19] مغني اللبيب عن كتب الأعاريب،المجلد الأول، ص232-233

[20] الإتقان في علوم القرآن، جلال الدين السيوطي 2/250، أنظر مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، المجلد الأول، 232-233

[21] البحر المحيط في التفسير، أبو حيان محمد بن يوسف بن حيان أثير الدين الأندلسي 6/155

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق