وحدة المملكة المغربية علم وعمرانمعالم

جوانب من التاريخ العلمي لجامعة القرويين

الحديث عن الحركة العلمية بجامعة القرويين حديث ذو شجون، ذلك أن النبوغ والإبداع ما انقطع يوما في رحاب هذا الجامع المبارك.. ستقتصر هذه المقالة على العلوم الدينية واللغوية والأدبية بجامعة القرويين، بينما تخصص مقالة أخرى-ضمن هذا الملف- للعلوم التطبيقية في جامعة القرويين  ..ومعلوم أن الإشعاع العلمي للقرويين امتد منذ العصر الإدريسي إلى العصر الحاضر..وقد انتشرت في أرجاء القرويين كراسي العلم وخصصت لها أوقاف، واعتبر كرسي العلم في جامعة القرويين مؤسسة ذات نفوذ معرفي كبير، يقول الكتاني في “فاس عاصمة الأدارسة” : “ذكر مترجمو محمد بن إدريس العراقي ـ إمام النحاة في عصره ـ عنه أنه ولي تدريس كرسي سيبويه بالقرويين..وقالوا عن عبد الواحد الونشريسي أنه جمع بين خطط الولايات الثلاثة : الفتيا بفاس والقضاء بها والتدريس بالقرويين.. وعن فاس أخذت الدنيا بعد ذلك نظام كراسي العلم والأستاذ الجامعي الكبير”. واضطلع الإمام المنجور بمهام جسام على مستوى العلم والأخلاق، وتفرغ للتدريس بالقرويين وملحقاتها كالعطارين والمصباحية ومساجد فاس الأخرى التي تتحرك وفق الخطة المرسومة من القرويين.

وقد كانت دروس القرويين يحظرها الطلاب، والحرفيون وأرباب المهن، وعقدت بها المحاضرات يحضرها الرجال والنساء، والولاة والقضاة والموسيقيين.. وترسخ المذهب المالكي في أحضان القرويين بدأ بالعمل المؤسس الذي قام به سيدي دراس يوم كان ابن أبي زيد القيرواني يزوره بفاس لتلقي العلم فتأمّل.. وقد تبلور المذهب المالكي عبر ما كتبه أعلامه  الكبار الذين احتفظوا بالأعراف والعوائد المكونة لشخصية المجتمع المغربي في كتب النوازل والفتاوى والفهارس والكنانيش التي تعتبر بحق وثائق سوسيولوجية شاهدة على العصر،  ولم يقتصر الإشعاع العلمي للقرويين على الرجال، بل نبغت عالمات وأديبات وفقيهات وقارئات ومحدثات، وعالمات بالطبيعة… ويذكر الأستاذ عبد العزيز بن عبد الله في كتابه “معطيات الحضارة المغربية”، ج2 (1963) ثلة من العالمات اللواتي نبغن بفاس كأم الحسن بنت سليمان بن أصبغ المكناسي تلميذة بقي بن مخلد، وأم عمرو بنت أبي مروان بن زهر طبيبة دار المنصور، ولها بنت هي ابنة أبي العلاء كانت عالمة بصناعة الطب والولادة، وورقاء بنت ينتان الفاسية الأديبة الشاعرة، توفيت بفاس عام 540ه كما في “جذوة الاقتباس” لابن القاضي. وأم العلاء العبدرية نزيلة فاس، كانت قبل ذلك عالمة بغرناطة، وست العرب بنت عبد المهيمن الحضرمي السبتي، أجاز لها ابن رُشيد السبتي عام وفاته سنة 721ه كما في “أزهار الرياض” للمقري..

وكان من علماء المغرب في هذه الحقبة أبو عمران الفاسي المتوفى سنة 430 هجرية، ومن أعلامها أيضاً عبد اللَّه بن محمد بن إبراهيم الأصيلي نسبة إلى أصيلا، مالكي المذهب، له كتاب في اختلاف الأئمة (مالك والشافعي وأبي حنيفة) سماه “الدلائل على أمهات المسائل” توفي سنة 392 كما ذكر ابن الفرضي في تاريخ علماء الأندلس (ج الأول ص 208)، ونقلها ياقوت الحموي في معجم البلدان ( ج 1ص 278). كما برز نجم الفقيه المالكي الكبير أبو عبد اللَّه محمد بن محمود الهواري قاضي فاس، المعلق على المدونة، المتوفى سنة 401 هـ.

وأصبحت فاس كما وصفها  عبد الواحد المراكشي في “المعجب في تلخيص أخبار المغرب”  “حاضرة المغرب وموقع العلم منه، اجتمع فيها علم القيروان وعلم قرطبة… وحل من هذه وهذه من فيهما من العلماء من كل طبقة فراراً من الفتنة، فنزل أكثرهم بفاس فهي اليوم على غاية الحضارة وأهلها في غاية الكيس والظرف ولغتهم أفصح اللغات في ذلك الإقليم، ومازلت أسمع المشايخ يدعونها بغداد المغرب.” وعرفت فاس في عصورها الأولى مئات المساجد والمدارس والسقايات العمومية والحمامات ودور الوضوء كما في “زهرة الآس” لأحمد المقري ( المطبعة الملكية، ص 33)..

من علماء القرويين الكبار الذين عاصروا الدولة المرابطية وبداية الدولة الموحدية أبو بكر خلف المواق قاضي فاس مؤلف “كتاب المكاييل والأوزان”، توفي سنة 599ه، ومنهم أبو حسن علي الكتاني، المحدث الحافظ المتوفى سنة 569. ومنهم أبو خرز الأورَبي، حافظ وفقيه ومدرس، توفي سنة 572ه، ومنهم ابن الرمانة محمد بن علي القلعي قاضي فاس، المتوفى سنة 567ه، ومنهم يوسف بن عبد الصمد بن يوسف بن علي، كان مؤرخاً وأصولياً يُدَرِّسُ بالقرويين سنة 613 ه بفاس، كما في “جذوة الاقتباس” لابن القاضي و”الذخيرة السنية” لمؤلف مجهول…

من أعلام العصر المرابطي أيضا عبد اللَّه بن محمد بن زغبوش المكناسي، كان يأخذ العلم بفاس لما هاجمها الموحدون في  أواخر العهد المرابطي، وممن رحل لفاس ـ آنذاك من تلمسان ـ حسن بن إبراهيم بن عبد اللَّه بن أبي سهل التلمساني، المعروف بابن زكون، والمتوفى عام  553 ه، وكتب بها عن عيسى بن يوسف الملجوم الفاسي المتوفى عام 543ه. ومنهم عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن صقر الأنصاري البلنسي ثم المري، المتوفى بمراكش عام 523 هـ، ومنهم إبراهيم بن يوسف بن محمد بن دهاق الأوسي المالقي ،المتوفى عام 611 هـ، روى بفاس عن أبي الحسن بن جبير و عن العارف أبي الحسن علي بن إسماعيل بن حرزِهِم الفاسي، المتوفى عام 559 هـ

وأصبح جامع القرويين جامعة علمية تشد الرحلة إليه، ويدل على ذلك ما جاء في ترجمة  سيدي علي ابن حرزهم الفاسي، أنه كان يقصد من البلدان للقراءة عليه. ودليل آخر على مركز فاس العلمي بالمغرب في صدر المائة الخامسة ما ذكره أحد علماء الأندلس الواردين على المغرب وهو أبو عبد اللَّه محمد بن جامع الأنصاري الجياني، المعروف بالبغدادي لطول سكناه بها، (ترجمته في “الذيل والتكملة” لابن عبد الملك) من أنه لما قفل من المشرق في حدود سنة 515 هـ نزل أول قدومه مدينة فاس وقعد بغربي جامع القرويين منها يدرس الفقه مدة، ثم تحول إلى بلده جيان وبقي فيها إلى عام 539 هـ، ثم خرج من بلده وقصد مدينة فاس ونزلها عام 544 هـ وأقام بها يدرس الفقه وأصوله ومسائل الخلاف، ولم يزل بها مقبلاً على نشر العلم وإفادته إلى أن توفي يوم الجمعة لخمس بقين من ذي الحجة عام 546 ه..

ويبدو أن التعليم خلال العصر الموحدي كان يبتدئ في سن مبكرة، لذلك كان نوابغ هذا العصر وعلماؤه من الشباب أمثال  عبد الواحد المراكشي، والمزدغي، و أبي جعفر ابن عطية، وابن رشد الحفيد، وابن زهر الطبيب ، وابن غالب البلنسي، وجلّهم درسوا ودرّسوا برحاب القرويين..واشتهر في العصر الموحدي كثير من العلماء منهم محمد بن إبراهيم ابن عيســـى المتوفـــى سنــــة 546ه ، وأحمد بن عبد الصمد القرطبي المتوفى سنة 582ه، ويوسف بن عبد الصمد بن يوسف المتوفى سنة 613 ه، والمفسر المحدث ابن القصري المتوفى سنة 615 ه..

وأشهر علماء النحو في المغرب-خلال العصر الموحدي- عيسى بن عبد العزيز الجزولي المراكشي المتوفى سنة 607ه مؤلف المقدمة الجزولية الذائعة الصيت كما في “وفيات” ابن خلكان، وأبو القاسم المتوفى سنة 619ه المترجم له في “بغية الوعاة” للسيوطي، ومن مشاهير علماء العربية أبو ذر الخشني الجياني المتوفى سنة 604ه كما في “التكملة” لابن الأبار، والذي استوطن فاسا وعلم بها..

كانت الدراسة مركزة بجامع القرويين في العصر الموحدي بدليل ما ورد في ترجمة أحمد بن عبد الصمد بن أبي عبيدة الأنصاري الخزرجي القرطبي ثم الفاسي مستوطنها المتوفى سنة 582ه، قال ابن فرحون في “الديباج المذهب” : ” ولما قدم مدينة فاس أُلزم إسماع الحديث والتكلم على معانيه بجامع القرويين واستمر على ذلك صابراً محتسباً ونفع اللَّه به خلقاً كثيراً”، أما النص الثاني فتقرأه عن أبي الحجاج يوسف بن عبد الصمد بن يوسف الفاسي الذي جاء في أثناء ترجمته من “جذوة الاقتباس” :” ثم عاد إلى بلده عام ثلاثة عشر وقعد للإقراء بعد عوده في شرقي جامع القرويين إلى أن توفي في الثاني من شهر رجب عام أربعة عشر وستمائة”.

ولست متفقا مع من قال أن المهدي بن تومرت لما قدم إلى المغرب وجده خالياً من العلم النظري ولم يقدر علماء فاس ولا علماء مراكش على مناظرته، ولم يكن فيهم من يعرف ما يقول إلا “مالك بن وهيب الفاسي” كما ذكر صاحب المعجب، بدليل ما ذكرناه من ازدهار الحركة العلمية بفاس ومراكش خلال عصر الأدارسة والمرابطين، سواء في العلوم النقلية أو العقلية. وستكون لنا عودة للتفصيل في هذا الموضوع في دراسة لاحقة..

في العصر المريني برز علماء كبار كانت لهم علاقة وطيدة بالقرويين، منهم ابن الخطيب وابن خلدون، ولما سقطت سبتة في يد البرتغاليين سنة 1415م، لاذ علماؤها بالقرويين، وتعددت بها كراسي العلوم الدينية واللغوية والتطبيقية، وتعددت المدارس حيث زاد المرينيون على ما بقي منها في عهد المرابطين والموحدين، وكان لكل مدرسة أستاذان فأكثر، كما تعددت الخزائن الكتبية بها ،ولذلك ازدهرت القرويين في عصر بني مرين ازدهاراً كبيراً، يقول ليفي بروفنصال حول هذه المسألة : أن بفضل ملوك بني مرين لم تكن عاصمة فاس في القرن الرابع عشر لتحسد العواصم الإسلامية الأخرى”

خلال العصر المريني بنى أبو يوسف يعقوب المريني المدارس والمعاهد ورتب لها وأجرى المرتبات على العلماء، والطلبة في كل شهر، كما بنى الزوايا في المناطق المجاورة وأوقف عليها الأوقاف، وسار المرينيون على منواله فأنشأ أبو الحسن في كل بلد من بلاد المغرب مدرسة في فاس وتازة ومكناس وسبتة وطنجة وآنفا وأزمور وأسفي ومراكش والقصر الكبير وتلمسان كما جاء في (المسند الصحيح الحسن في مآثر مولانا أبي الحسن لابن مزوق ص 35 من مجلة هيسبيرس عام 1952)، وقد حبست أوقاف من أجل تشجيع العلوم؛ ففي “نشر المثاني” للعلامة القادري أن من أحباس جامع الأندلس قراءة التفسير وقراءة صحيح مسلم وكراسي العلم في التفسير وقراءة صحيح مسلم وابن الحاجب وصغرى السنوسي والرسالة ونظم ابن زكري، وفي “نيل الابتهاج” لبابا التمبوكتي أن من أحباس فاس وقف على استيفاء ابن حجر على الصحيح. ودُرس التفسير بالقرويين بعدة شروح، وبالأخص الطبري وألف فيه من المغاربة  أبو الحسن الحرالي : “مفتاح اللب المقبل على فهم القرآن”،  والمزدغي المتوفى سنة 655ه، وابن فرتون السلمي (ت 660ه) ومن المتأخرين الإمام  الصاعقة أبو الحسن اليوسي..

أما علوم القرآن من تجويد وقراءات ورسم، فقد اهتم  بها المرينيون كثيرا، وأسسوا للدراسة بفاس مدرسة السبعين أي القراءة بالروايات السبع، وهي بازاء مدرسة الأندلسيين، وألف في هذا الفن محمود بن الحسن الفاسي المتوفى سنة 656 شرحاً على الشاطبية.. أما الفقه فقد درسوه بعدة كتب أهمها “النوادر” لابن أبي زيد، وكتاب ابن يونس وتهذيب البرادعي ورسالة وأبي زيد القيرواني.. ودرسوا الأصول بالبرهان لإمام الحرمين و”المحلى” فيما بعد، وفي العصور المتأخرة ألف المهدي بن سودة حاشية على المحلى.حسبما  يخبرنا به الحسن السائح في كتابه “الحركة العلمية بجامعة القرويين” (منشورات الإسيسكو).

ودرس الأدب بالقرويين بكتاب الحماسة وبمقصورة ابن دريد، وبصفوة الأديب للجراوي وشرح ابن زاكور للحماسة في العصور المتأخرة، وقد حافظ المغاربة على قوة التعبير باللغة العربية وسلامة الأسلوب العربي، ويقول العلامة بيرم  في صفوة الاعتبار : إن صناعة الإنشاء في الدول باللغة العربية كادت تكون الآن مقصورة على مراكش، وجاء في كتاب “التعاشيب”  للعلامة عبد الله جنون (الصفحة 95 ): أن المغرب نبغ فيه أدباء كبار مثل الأديب الشاعر يحيى ابن زيدون ومثل ابن حبوس ومثل ابن رقية وابن الملجوم الفاسي سليل الملهب بن أبي صفرة، وله كتاب في الشعر توفى سنة 690ه.

 وبرز خلال العصر المريني أعلام كبار مثل العبدوسي وابن الصباغ الذي أملى في حديث أبي عمير أربعمائة فائدة، وصرف العلماء في هذا العصر همتهم إلى التلخيصات والاختصارات، وهذا عمل منهجي على درجة عالية من الأهمية، ولعل من أبرز الأعمال في هذا الإطار ما كتبه العلامة ابن آجروم في ذلك المختصر الصغير لدراسة النحو العربي، وكتابه يعتبر تجربة للتبسيط والاختصار والأخذ بمختلف المذاهب النحوية..

ولعل عناية العلماء المغاربة بالفقه فاقت العناية بأي علم آخر من العلوم الدينية، وأصبح مختصر خليل بمثابة مدونة جديدة ، وقد أدخل مختصر خليل ابن إسحاق المتوفى سنة 767 هـ إلى فاس الفقيه محمد الفتوح التلمساني المتوفى سنة 818ه بمكناس، وكتبت عليه عشرات الشروح والحواشي والتعليقات واستنبطت منه الفتاوى والأحكام، وأصبح كتاب “العمل الفاسي” للإمام الزقاق الفقه الرسمي في شمال إفريقيا  كلها، وأخذ القرشي نفس الطريقة عن العلامة الزّقاق..

ويشير العلامة الحسن السائح في كتابه (الحركة العلمية بجامعة القرويين، منشورات الإسيسكو) أنه وجدت “وثيقة مهمة جداً عن سير الدراسة وبرامج التعليم ومناهجه في القرويين على عهد الوطاسيين وهي (الرسالة المجازة في معرفة الإجازة) التي ألفها الصوفي المغربي الكبير أبو الحسن علي بن ميمون المولود سنة (854 هـ) الذي درس بفاس سنة (887 هـ)، ويذكر المؤلف أنه أقام بفاس أيام الوطاسيين ذاكراً أنه أقام بفاس بقصد الدراسة في القرويين طيلة أربعة عشرة سنة، حيث أقام في بعض مدارسها ثم خرج قاصداً الحجاز وجال في الشام واستوطن في الأخير مدينة بورصة بتركيا، وكان صوفياً سنياً  واشتهر بهذه السيرة وهذا المذهب وتصدى للرد على خصومه في عصره، ثم رجع إلى الشام حيث توفي بها سنة (917هـ) وترك مؤلفات أهمها “الرسالة المجازة” وكتاب “بيان غربة الإسلام”..  ويظهر من هذه الرسالة أن العلوم الشائعة في هذا العهد بالقرويين هي الفقه المالكي والحديث والتفسير والنحو والفرائض والحساب والتوقيت والتعديل والتوحيد والمنطق والبيان والطب وباقي العلوم العقلية، وأن الدراسة كانت تعتمد على حفظ النصوص، ولا يقدرون من الطلبة والأساتذة من لا يحفظ النصوص، وكان شعارهم “من لم يحفظ النص فهو لص”، ويروي العلامة الكتاني في “سلوة الأنفاس” عن هذه الرسالة التي اقتطف شذرات منها بأن مؤلفها ابن ميمون جال في تلمسان وبجاية وتونس والحجاز ومصر فلم ير في علماء هذه المدن وأشياخها من يصل إلى درجة علماء  القرويين بفاس، ويستفاد من هذه الرسالة بأن التلميذ قبل الدخول إلى القرويين كان لابد أن يكون حافظاً للقرآن والرسم والتجويد حافظاً المصنفات والمنظومات وهي ذلك منظومة في الفرائض والحساب ورسالة أبي زيد القيرواني…”

 وكان الشروع في الدراسة يبتدئ من الفجر إلى ما بعد العشاء، ويذكر ابن ميمون –في شهادته- أنه كان يشرع في وقت مبكر ولا يستطيع العودة إلى المدرسة لتناول الغذاء، بل لا يتناول إلا وجبة العشاء فقط، وكان الأسلوب المتبع في درس الحديث هو النقل الغزير ودراسة رواية العلماء وأنسابهم مع ضبط المتن لغوياً ونحوياً وفقهياً، واشتهر كتاب الجزولي على الرسالة في الفقه أما المدونة فكانت تدرس بالنقل الكثير من كلام مشايخ المدونة من أولهم إلى آخرهم، وكان التجويد بالمدخل للإمام الجرومي المصمودي والفقيه ابن مالك. وقبل وقت العصر كان الطلاب ينصرفون عادة إلى خزانة الكتب. حيث يطالعون الكتب التي يوزعها عليهم الوكيل، ويذكر المؤلف أن الخزائن بفاس لدى عهد كانت ثلاثة تشتمل على كتب كثيرة لا تكاد تحصى، أما الحساب والفرائض فكانا يعلمان يوم الخميس والجمعة، وهكذا يقضي الطلبة أيامهم الدراسية إلى أن يحصلوا على العلم الوافر ويصبحوا في عداد الأساتذة..

وكان بالقرويين كرسي خاص بالنحو، وكان من أصحاب هذا الكرسي الونشريسي قاضي فاس ومفتيها وصاحب التدريس بالقرويين المتوفى سنة 955 هـ (العصر السعدي) ، كما كان من هؤلاء محمد بن إدريس العراقي الذي انتصب أيضاً لتدريس كتاب سيبويه على الكرسي الخاص بمن يدرس النحو (توفي سنة 1142ه)… ويفيدنا العلامة الحسن السائح في كتابه عن” الحركة العلمية بجامعة القرويين” أنه كان “قد رحل في القرن العاشر علي بن ميمون لتلمسان وبجاية وتونس والشام والحجاز وقال مقارناً بين علماء القرويين وعلماء غيرها : ما رأيت في سائر المغرب لا في مدينة تلمسان ولا بجاية، ولا تونس ولا إقليم الشام بأسره، ولا بلاد الحجاز، فإني “رأيت ذلك كله بالمشاهدة” ولا بمصر على ما تقرر عندي من العلم اليقين بمشاهدة أناس من أهلها، وبرؤيتي لبعض كتب أرباب الوقت، ما رأيت مثل فاس، ومثل علمائها في حفظ ظاهر الشرع العزيز بالقول والفعل، وهذا الحفظ لنصوص إمامهم الإمام مالك وحفظ سائر العلوم الظاهرة، من الفقه والحديث والتفسير وحفظ نصوص كل علم مثل النحو والفرائض والحساب والتوقيت، والتعديل والتوحيد والمنطق، والبيان والطب، وسائر العلوم العقلية، ثم لابد فيه عندهم من حفظ نص ذلك الفن، ومن لم يستحضر النص عن مسألة ما في علم العلوم لا يلتفت إلى كلامه، ولا يعبأ به، ولا يحسبونه من طلبة العلم” ..

وتعتبر مصادر الثقافة خلال العصر السعدي، من زاوية أنثربولوجية وسوسيوثقافية، بالغة الأهمية في التأريخ للحركة الفكرية، منها كتب الفقه كالمعيار للونشريسي، ومعيار الوزاني، وكتب التاريخ “كدرة الحجال” لابن القاضي، و”مناهل الصفا” للفشتالي، و”نزهة الحادي” لليفرني، وكتب الرحلات كمحاضرة اليوسي، ورحلة أبي سالم العياشي، وكتب التراجم، “كمرآة المحاسن” لمحمد المهدي الفاسي، والدرر المرصعة، و”نشر المثاني” للقادري، و”الدر الثمين” للشيخ ميارة، وفهارس العلوم كالقانون لليوسي والأقنوم لعبد الرحمن الفاسي.

وخلال العصر العلوي حاول السلطان محمد بن عبد اللَّه (ت 1790م) أن يطور المناهج الدراسية، وينتقي الكتب التعليمية ، وأصدر مرسوماً بذلك جاءت تفاصيله في كتاب “مفاخر الدولة العلوية” للمؤرخ عبد الرحمن بن زيدان وتنحصر دعوته الإصلاحية في الرجوع إلى الكتاب والسنة، وألف هذا الملك العالم كتاباً في الحديث هو “الفتوحات الإلهية”، وكان الهدف من تكوين لجنة إصلاح البرامج التعليمية، تطوير التعليم من الحرفية والحفظ إلى تكوين المَلَكة، واختيار الكتب الصالحة، وتأليف كتب لمختلف المواد وشرح كتب أخرى، وكان هدفه إصلاح التعليم المغربي، وإخراج الأسلوب الدراسي من الجمود والحرفية إلى تربية الملكة والقدرة على التصرف في المعلومات، ويعتبر مرسومه أقدم وثيقة في إصلاح التعليم في هذا العصر، وكانت له مجالس خاصة، وندوات للمذكرات والتأليف، وحسب ما ذكره أبو القاسم الزياني في ” الترجمانة الكبرى”، فقد كانت هذه المجالس تضم نخبة المفكرين في عصره كالعلامة أحمد الغربي دفين محروسة الرباط وابن المسير وأبو خريص وابن عمرو والمنجرة، وابن عثمان وذكر  المؤرخ أكنسوس في “الجيش العرمرم الخماسي” أن هذه الندوات كانت يناقش فيها الحديث، والسير، والأخبار وضروب من الفنون الأدبية، ولخص المؤرخ ابن زيدان عن الفقيه التاودي ابن سودة مرسوم إصلاح القرويين في هذا العصر، مفصلاً العلوم المقترح دراستها، والكتب المنتقاة وطريقة الدراسة، وكان المولى عبد الرحمن ينظم حفلاً بحضور الأساتذة والطلاب، وكان المولى إسماعيل لاحظ جهل بعض رجال القضاء بالدين فأمر بعضهم ممن امتحنوا وظهر جهلهم كما في “الدرر الفاخرة” لابن زيدان. وحافظ المولى سليمان من بعده على الإصلاحات التي جاء بها والده مشجعاً حركة التأليف المغربي، ثم تابــع عملــه بعده المولى عبد الرحمن.

ومن أطرف ما ذكر في تاريخ جامع القرويين على عهد الدولة العلوية ما أورده العلامة محمد عبد الحي الكتاني في “ماضي القرويين ومستقبلها”، دار الكتب العلمية، بيروت. 2006، ص 79) إذ يقول عن العلامة أبا الحسن اليوسي لما استوطن فاس بعد سقوط زاوية الدلاء “أقبلت عليه طلبة العلم مثنى وثلاث، وتزاحمت على بابه الركب، فتصدر للتدريس بجامع القرويين، ووقع له الإقبال ما لم يعهد لغيره، فتخلف عن حضور درسه جماعة من أعيان طلبتهم وغلبهم ما هو مألوف من الطبع الآدمي، فقال أبو علي:

ما أنصفت فاس ولا أعلامها                  علمي ولا عرفوا جلالة منصبي

لو انصفوا لصبوا إلي كما صبا              راعي السنين  إلى الغمام الصيب

وقد أجاب عن البيتين أبو زيد عبد الرحمان بن عبد القادر الفاسي :

بل أنصفت فاس ومن إنصافها                        أبدا سقوط المدعي والمعجب

نفي الدجاجل عاجلا أو آجلا                            عنها فهي طريدة من يثرب

والأبيات موجودة في “نشر المثاني” للقادري. ولما طولع والد عبد الرحمن الشيخ العلامة سيدي عبد القادر الفاسي بجواب ابنه على الإمام اليوسي قال : البادي أظلم، وأنت أزلت عنك جلباب الوقار، وأبخست مقدارك بتصديك لمعارضة الأحداث وإصغائك لمقال من لم يساوك في علم ولا سن.. رحمة الله عليهم أجمعين..

د. جمال بامي

  • رئيس مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلامية، ومركز علم وعمران بالرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق