مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

توطين النفس على المواطنة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا  محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين

إن كل أمة لا بد لهم من وطن[1]، والوطن محل الإنسان ومسكنه، والموطن كل مقام أقام به الإنسان[2]، ونتج عن هذه الإقامة التزامات متبادلة بين الأشخاص والدولة، ومفاهيم المواطنة والوطن عند الأمم تكاد تكون متطابقة، وعاش النبي صلى الله عليه وسلم في وطن، وهو مكة المكرمة مكرما، حتى بعثه الله تعالى،  وأمر بنشر الإسلام، فنصبوا له العداء مواطنو مكة، وعشيرته الأقربون، وهموا بإخراجه من وطنه الذي ترعرع فيه، كما أعلمه ورقة بن نوفل: ولتخرجنه، فتعجب من الأمر: أو مخرجي هم؟[3].

فكان الأمر كذلك فأخرجوه، وترك وطنه بأسف وأسى، وكان يمتلك فؤاده فأحبه وألفته نفسه، فاشتد عليه الأمر لما فارقه، وانتقل مهاجرا إلى المدينة، فعاش في وطن جديد، وهو مهد الدولة الإسلامية، فأرسى قواعدها، ووضع دستورا ونظاما اجتماعيا، يعيش تحت ظله جميع أطياف المجتمع بعدل ومواساة، وأصبح الحنين يغامره صلى الله عليه وسلم إلى وطنه الأم: مكة، فلما قويت شوكة الإسلام، عاد إليها فاتحا لا محاربا، فأمكن الله تعالى له ما تمنى بالأمس، فعاد إلى وطنه الأحب إلى قلبه صلى الله عليه وسلم.

ونحن على هدي نبينا صلى الله عليه وسلم سالكون، فوطننا المغرب أحب البلاد إلى قلوبنا، فتجد المهاجرين يغادرون البلاد فيتفرقون في الأصقاع والبقاع، كل متجه إلى قبلته وغايته، إما لدنيا يصيبها، أو علم ينتفع به، لكن يحن القلب إلى مسقط الرأس، فيهرعون أفواجا داخلين إلى بلادهم، لتدفئ قلوبهم بعبير الوطن، وتأنس نفوسهم بحنين المحبين.

ولله در القائل:

كم منزل للمرء يألفه الفتي***وحنينه أبدا لأول منزل[4]

ولبعضهم:

فحي على جنات عدن فإنها***منازلك الأولي وفيها المخيم

ولكننا سبي العدو فهل تري***نعود إلى أوطاننا ونسلم[5]

لبيت نداء الخاطر فكتبت هذه الكلمات عن الوطن، وللعلماء قدم السبق في هذا الموضوع، فأرتأيت أن أنتقي بعض أقاويل أولئك أئمة أعلام الحديث المبثوثة في كتبهم عن حب الوطن والحنين إليه.

فقد قال العلامة ابن بطال (المتوفى رحمه الله تعالى عام: 449هـ) في شرحه لحديث أنس رضي الله عنه: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر، فأبصر درجات المدينة، أوضع ناقته، وإن كانت دابة حركها»[6]: “وقد جبل الله النفوس على حب الأوطان والحنين إليها ، وفعل ذلك عليه السلام، وفيه أكرم الأسوة، وأمر أمته سرعة الرجوع إلى أهلهم عند انقضاء أسفارهم”[7].

وقال الإمام السهيلي (المتوفى رحمه الله تعالى عام: 581هـ): “في حديث ورقة أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لتكذبنه، فلم يقل له النبي صلى الله عليه وسلم شيئا، ثم قال: ولتؤذينه، فلم يقل النبي صلى الله عليه وسلم شيئا، ثم قال: ولتخرجنه، فقال: أو مخرجي هم ؟

ففي هذا دليل على حب الوطن وشدة مفارقته على النفس”[8].

وقال القاضي ناصر الدين البيضاوي (المتوفى رحمه الله تعالى عام: 685هـ) في شرحه لحديث عائشة رضي الله عنها: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى الإنسان الشيء منه، أو كانت به قرحة أو جرح قال النبي صلى الله عليه وسلم بإصبعه: هكذا، ووضع سفيان سبابته بالأرض، ثم رفعها: باسم الله تربة أرضنا، بريقة بعضنا، ليشفى به سقيمنا بإذن ربنا»[9]: “لتراب الوطن تأثير في حفظ المزاج الأصلي، ودفع نكاية المغيرات، ولهذا ذكر في تدبير المسافرين أن المسافر ينبغي أن يستصحب تراب أرضه إن عجز عن استصحاب مائها، حتى إذا ورد ماء غير الماء الذي تعود شربه ووافق مزاجه، جعل شيئا منه في سقايته، ويشرب الماء من رأسه، ليحفظه عن مضرة الماء الغريب، ويأمن تغير مزاجه، لها آثار عجيبة تتقاعد العقول عن الوصول إلى كنهها”[10].

وقال العلامة بدر الدين العيني (المتوفى رحمه الله تعالى عام: 855هـ) في شرحه لحديث أنس رضي الله عنه المتقدم: “فيه: دلالة على فضل المدينة وعلى مشروعية حب الوطن والحنة إليه”[11].

وقال في تفسيره لترجمة البخاري في صحيحه: باب السرعة في السير عند الرجوع إلى الوطن من كتاب الجهاد والسير: “هذا باب في بيان جواز السرعة في السير عند الرجوع إلى الوطن”[12].

وقال العلامة الكوراني ( المتوفى رحمه الله تعالى عام: 893 هـ) في شرحه للباب الذي ترجم له البخاري في صحيحه: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لولا الهجرة لكنت من الأنصار»: “(لولا) هذه امتناعية، تدل على امتناع الثاني لوجود الأول، أي: لولا أني مهاجر لا يمكنني أن أكون من الأنصار، لجعلت نفسي معدودًا منهم، ؛وفيه دلالة على فضل المهاجرين على الأنصار، وكذلك وقع في كلامه تعالى، قدم المهاجرين على الأنصار حيث ذكرهم، ومن حيث المعنى أيضًا فإن ترك الوطن أشق شيء على النفس”[13].

إن حب الوطن لا يلتمس إحساسه إلا المغترب، لأجل ذلك سن في الشريعة عقوبة النفي، وهو مفارقة الوطن، وهي عقوبة أشد وقعا على قلب المعاقَب.

*****************

هوامش المقال:

[1] ) مقدمة ابن خلدون ص: 265.

[2] ) مشارق الأنوار على صحاح الآثار 2/ 285.

[3] ) الإشارة إلى حديث عائشة رضي الله عنها الذي رواه الشيخان: البخاري في صحيحه 9 /29؛ كتاب التعبير، باب أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة، رقم الحديث: 6982، ومسلم في صحيحه 1 /139؛ كتاب الإيمان،  باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم الحديث: 160.

[4] ) جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم 2 /379.

[5] ) جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم 2 /379.

[6] ) رواه البخاري في صحيحه 3 /7-8: أبواب العمرة، باب: من أسرع ناقته إذا بلغ المدينة، رقم الحديث: 1802.

[7] ) شرح صحيح البخاري 4/ 453.

[8] ) الروض الأنف في شرح السيرة النبوية 2 /421.

[9] ) رواه الشيخان: البخاري في صحيحه 18 /27-28؛ كتاب: الطب، باب: رقية النبي صلى الله عليه وسلم، رقم الحديث: 5304-5305، ومسلم في صحيحه 11/ 191؛ كتاب: السلام،  باب: استحباب الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة، رقم الحديث: 4069.

[10] ) تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة 1 /420.

[11] ) عمدة القاري شرح صحيح البخاري 10/ 135.

[12] ) عمدة القاري شرح صحيح البخاري 14/ 248.

[13] ) الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري 7/ 17.

*************

جريدة المراجع

تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة لناصر الدين عبد الله بن عمر البيضاوي، تحقيق: لجنة مختصة بإشراف نور الدين طالب، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الكويت، إدارة الثقافة الإسلامية، 1433/ 2012.

جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم لزين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب البغدادي، ثم الدمشقي، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، إبراهيم باجس، مؤسسة الرسالة، بيروت- لبنان، الطبعة السابعة: 1422/ 2001.

الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري الجعفي، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، بيروت-لبنان، دار المنهاج، جدة-السعودية، الطبعة: الأولى: 1422، طبعة مصورة عن الطبعة الكبرى الأميرية، بولاق- مصر، 1311.

الروض الأنف في شرح السيرة النبوية لأبي القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد السهيلي، تحقيق: عبد الرحمن الوكيل، مكتبة ابن تيمية، مكتبة العلم بجدة، دار النصر للطباعة، دار الكتب الحديثة، دار الكتب الإسلامية، 1410-1387 /1967-1990.

شرح صحيح البخاري لأبي الحسن علي بن خلف بن عبد الملك ابن بطال، تحقيق: ياسر بن إبراهيم، مكتبة الرشد، الرياض- السعودية، الطبعة الثالثة: 1425/ 2004.

عمدة القاري شرح صحيح البخاري لأبي محمد محمود بن أحمد بدر الدين العيني، إدارة الطباعة المنيرية، مصر، 1348.

الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري لأحمد بن إسماعيل بن عثمان بن محمد الكوراني، تحقيق: أحمد عزو عناية، دار إحياء التراث العربي، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى: 1429/ 2008.

المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت-لبنان (د-ت).

مشارق الأنوار على صحاح الآثار لأبي الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبي السبتي، المكتبة العتيقة، تونس، دار التراث، القاهرة- مصر، 1333.

المقدمة لأبي زيد عبد الرحمن بن محمد ابن خلدون، المطبعة البهية المصرية، مصر (د-ت).

*راجعت المقال الباحثة: خديجة ابوري.

Science

يوسف أزهار

  • باحث بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسير ة النبوية العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق