توجيه القراءات من لدن جار الله الزمخشري (ت:538هـ) في تفسيره الكشاف – الحلقة الأولى –
إن من قَواعد التفسير وشروط المفسّر معرفة القراءات ودرجاتِها، والعلم بلغات العرب ولهجاتها؛ فلا يليق بمن لم يكن وافر الحظّ منها الإقدامُ على تفسير كلام الله تعالى، والإقبالُ على كشف معانيه، بل لا تعنو نواصي القرآن الكريم ومعانيه، ولا تسلس أزمة فحاويه، إلا لأرباب النهى والفهوم، الذين استجمعوا شتى المعارف والعلوم، يقول الإمام مالك - رحمه الله -: «لا أوتى برجل يفسر كتاب الله غير عالم بلغة العرب إلا جعلته نكالا»(1)، ويقول مجاهد - رحمه الله -: «لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله إذا لم يكن عالما بلغات العرب»(2).
ويقول الراغب - رحمه الله - في معرض ذكره لما يحتاج إليه المفسر من العلوم: «والرابع بما يتعلق بذات التنزيل، وهو معرفة القراءات»(3).
وذكر الزركشي - رحمه الله - معرفة القراءات ضمنَ العلوم التي يحتاج إليها المفسر، وقال: «النوع الثالث والعشرون: معرفة توجيه القراءات وتبيين وجه ما ذهب إليه كل قارئ، وهو فن جليل وبه تعرف جلالة المعاني وجزالتها»(4)، فبإحكام المفسر لهذه الصنعة يتمكن من توجيه القراءات، لاسيما الشاذة؛ لأن «توجيه القراءة الشاذة أقوى في الصناعة من توجيه المشهورة»(5).
وكذلك ذكر جلال الدين السيوطي - رحمه الله - ذلك في «إتقانه»، وقال: «الثامن: علم القراءات لأن به يعرف كيفية النطق بالقرآن وبالقراءات يترجح بعض الوجوه المحتملة على بعض»(6).
وقد كان جار الله الزمخشري - رحمه الله - آية من آيات الله، جمع في برديه علوم العربية، وبرَّز فيها على أقرانه، قال عنه الإمام الذهبي - رحمه الله -: «وَكَانَ رَأْساً فِي البلاغَةِ وَالعَرَبِيَّةِ وَالمَعَانِي وَالبيَانِ، وَلَهُ نَظْمٌ جَيِّدٌ»(7).
وتشهد مؤلفاته الفائقة، ومصنفانه الرائقة، على جلالة قدره، ونباهة ذكره، منها: «أساس البلاغة»، و«الفائق في غريب الحديث والأثر»، و«المفصل في صنعة الإعراب»، ومن أشهرها تفسيره «الكشاف» الذي لم يؤلَّف مثلُه، قال الإمام السبكي - رحمه الله -: «الكشاف كتاب عظيم في بابه، ومصنفه إمام في فنّه»(8)، » قال الإمام الطيبي - رحمه الله -: «مصنف لا يخفى مقداره، ولا يشق غباره. اتضح بيانه، وأضاء برهانه، وعمت أضواؤه، وانجلت سماؤه، تغرق الأفكار في بحار عباراته، ولا تنتهي الأوهام إلى ساحل إشاراته، هزت أريحية الفضل من أعطاف الفضلاء، لاعتلاء ذروته الشامخة، وابتغاء غاياته الباذخة، فكل غاص في تياره لاستخراج درر معان أبهج من نيل الأماني في ظل صحة وأمان، فإن من أراد عظيماً خاطر بعظيمته، ومن رام جسيماً راهن بكريمته، ومن هاب خاب، ومن أحجم أخفق»(9).
وللارتباط الوثيق الذي بين القراءات ولغات العرب وللاقتران القوي الذي بينهما حرص جار الله الزمخشريّ - رحمه الله - على القراءات القرآنية، وعني بتتبعها تتبُّعَ العالم الخبير، واللغويّ النحرير، الذي يميزّ بين الغث والسمين، ويفرق بين القوي والضعيف، فهو غير مدافع «المعرب العالم بوجوه الإعراب والقراءات العارف باللغات ومعاني الكلمات البصير بعيب القراءات المنتقد للآثار»(10)، وهو أيضاً البصير باختلاف القراءاتِ، وأنها ليست على سمتٍ واحدٍ؛ فمنها المشهور والشاذّ، والصحيح والفاذّ، والصحيح المقبول، والمردود المرذول.
قال ابن الجزري - رحمه الله -: «كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا وصح سندها، فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها ولا يحل إنكارها، بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن ووجب على الناس قبولها، سواء كانت عن الأئمة السبعة، أم عن العشرة، أم عن غيرهم من الأئمة المقبولين، ومتى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة أو شاذة أو باطلة، سواء كانت عن السبعة أم عمن هو أكبر منهم، هذا هو الصحيح عند أئمة التحقيق من السلف والخلف، صرح بذلك الإمام الحافظ أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني، ونص عليه في غير موضع الإمام أبو محمد مكي بن أبي طالب، وكذلك الإمام أبو العباس أحمد بن عمار المهدوي، وحققه الإمام الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة، وهو مذهب السلف الذي لا يعرف عن أحد منهم خلافه»(11).
وقال أبو شامة - رحمه الله -: «فلا ينبغي أن يغتر بكل قراءة تعزى إلى واحد من هؤلاء الأئمة السبعة ويطلق عليها لفظ الصحة، وإن هكذا أنزلت إلا إذا دخلت في ذلك الضابط، وحينئذ لا ينفرد بنقلها مصنف عن غيره ولا يختص ذلك بنقلها عنهم، بل إن نقلت عن غيرهم من القراء، فذلك لا يخرجها عن الصحة. فإن الاعتماد على استجماع تلك الأوصاف، لا عمن تنسب إليه.
فإن القراءات المنسوبة إلى كل قارئ من السبعة وغيرهم منقسمةٌ إلى المجمع عليه والشاذ، غير أن هؤلاء السبعة لشهرتهم وكثرة الصحيح المجتمع عليه في قراءتهم تركن النفس إلى ما نقل عنهم، فوق ما ينقل عن غيرهم»(12).
وقال أيضاً: «كل قراءة اشتهرت بعد صحة إسنادها وموافقتها خط المصحف ولم تنكر من جهة العربية فهي القراءة المعتمد عليها، وما عدا ذلك فهو داخل في حيز الشاذ والضعيف، وبعض ذلك أقوى من بعض»(13).
وقال أبو عمرو الداني - رحمه الله -: «وأئمة القراءة لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة، والأقيس في العربية، بل على الأثبت في الأثر، والأصحّ في النقل، والرواية إذا ثبتت لا يردّها قياس عربية ولا فشوّ لغة؛ لأن القراءة سنّة متّبعة يلزم قبولها والمصير إليها»(14).
ومن أجل ذلك كان جار الله الزمخشريّ - رحمه الله - يختار من القراءات، وجرى على سنن العربية وقوانينها، ويذر ما كان خارجا عن مهيع القياس، وقد يشنّ غارة شعواء على من يعوّل في تفسير بعض الآيات على الوجوه الضعيفة والاحتمالات السقيمة والاختيارات السخيفة، التي لا يعضدها نقل، ولا يؤيدها أثر، ومن أمثلة ذلك:
- قوله في معرض تفسيره لقوله تعالى: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ...) [البقرة:178]، قال - رحمه الله -: «فإن قلت: هلا فسرت "عُفيَ" بـ"ترك" حتى يكون شيءٌ في معنى المفعول به؟ قلت: لأن "عفا الشيء" بمعنى تركه، ليس بثبتٍ، ولكن أعفاه، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «وأعفوا اللحى». فإن قلت: فقد ثبت قولهم: عفا أثره؛ إذا محاه وأزاله فهلا جعلت معناه: فمن محى له من أخيه شيء. قلت: عبارة قلقة في مكانها، والعفو في باب الجنايات عبارة متداولة مشهورة في الكتاب والسنة واستعمال الناس، فلا يعدل عنها إلى أخرى قلقة نابية عن مكانها. وترى كثيراً ممن يتعاطى هذا العلم يجترئ إذا أعضل عليه تخريج وجهٍ للمشكل من كلام اللَّه على اختراع لغة وادعاء على العرب ما لا تعرفه، وهذه جرأة يستعاذ باللَّه منها».
- وقوله في معرض تفسيره لقوله تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ...) [البقرة: 34]، قال: « وقرأ أبو جعفر (للملائكةُ اسجدوا) بضم التاء للإتباع. ولا يجوز استهلاك الحركة الإعرابية بحركة الإتباع إلا في لغة ضعيفة، كقولهم: (الْحَمْدِ لِلَّهِ)».[2/437]
- وقوله في معرض تفسيره لقوله تعالى: (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [البقرة: 126]، قال: «وقرأ ابن محيصن: (فأطره) بإدغام الضاد في الطاء، كما قالوا اطجع، وهي لغة مرذولة؛ لأن الضاد من الحروف الخمسة التي يدغم فيها ما يجاورها ولا تدغم هي فيما يجاورها، وهي حروف: ضم شفر»[3/86] (3/ 86)
وقد تعقّبه أبو حيان في حكمهِ على هذه القراءة بالرذالةِ، وقال: « فظاهر كلام سيبويه أنها ليست لغة مرذولة، ألا ترى إلى نقله عن بعض العرب مطجع، وإلى قوله: ومضجع أكثر، فيدل على أن مطجعا كثير؟ وألا ترى إلى تعليله، وكون الضاد قلبت إلى الطاء وأدغمت، ولم يفعل ذلك بالصاد، وإبداء الفرق بينهما؟ وهذا كله من كلام سيبويه، يدل على الجواز»[البحر المحيط (1/617].
- وقوله في معرض تفسيره لقوله تعالى:(قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ ) [يوسف: 5]، قال: «وقرئ: "روياك" بقلب الهمزة واواً. وسمع الكسائي: "رُيَّاك" و"رِيَّاك" بالإدغام وضم الراء وكسرها، ....... وهي ضعيفة؛ لأنّ الواو في تقدير الهمزة فلا يقوى إدغامها كما لم يقو الإدغام في قولهم «اتزر» من الإزار، و «اتجر» من الأجر»[8/253].
- وقوله في معرض تفسيره لقوله تعالى: (وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ) [يوسف: 31]، قال: « وقرئ "حاشْ لِلَّهِ" بسكون الشين، على أن الفتحة تبعت الألف في الإسقاط، وهي ضعيفة؛ لما فيها من التقاء الساكنين على غير حدّه»[8/321]، وقال ابن جني في «المحتسب» على ما نقله عنه الطيبي -: «وأما "حاشْ لله" بسكون الشين، فضعيف من موضعين:
- أحدهما: التقاء الساكنين: الألف، والشين، وليست الشين مدغمة.
- والآخر: إسكان الشين بعد حذف الألف، ولا موجب لذلك؛ وطريقه في الحذف أنه لما حذف الألف تخفيفًا أتبع ذلك حذف الفتحة إذ كانت كالعَرَض اللاحق مع الألف؛ فصارت كالتكرير في الراء، والتفشي في الشين، والصفير في الصاد والسين والزاي، والإطباق في الصاد والضاد والطاء والظاء، ونحو ذلك. فمتى حَذفت حرفًا من هذه الحروف ذهب معه ما يصحبه من التكرير في الراء، والصفير في حروفه، والإطباق في حروفه»[المحتسب (1/341)، وحاشية الطيبي (8/ 321)]
- وقوله في معرض تفسيره لقوله تعالى: (مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ) [إبراهيم: 22]، قال: «وقرئ: "بمصرخيِّ" بكسر الياء، وهي ضعيفة، واستشهدوا لها ببيت مجهول:
قَالَ لَهَا هَلْ لَكِ يَا تَـــــا فِىِّ
قَالَتْ لَهُ مَا أنْتَ بِالمَرْضِيِّ
وكأنه قدّر ياء الإضافة ساكنة وقبلها ياء ساكنة، فحرّكها بالكسر لما عليه أصل التقاء الساكنين، ولكنه غير صحيح، لأنَّ ياء الإضافة لا تكون إلا مفتوحة، حيث قبلها ألف في نحو "عصاي"، فما بالها وقبلها ياء؟
فإن قلت: جرت الياء الأولى مجرى الحرف الصحيح لأجل الإدغام، فكأنها ياء وقعت ساكنة بعد حرف صحيح ساكن، فحرّكت بالكسر على الأصل.
قلت: هذا قياس حسن، ولكن الاستعمال المستفيض الذي هو بمنزلة الخبر المتواتر تتضاءل إليه القياسات»[8/583].
قال الطيبي محشّيا: « قوله: (ولكن الاستعمال المستفيض)، أي: فتح الياء، فالياء الأولى: ياء الجمع، والثانية: ضمير المتكلم، وفتحت لئلا تجتمع الكسرتان والياءان.
قال الزجاج: "قرأ حمزة والأعمش: "بمصرخي" بكسر الياء، وهي عند جميع النحويين مرذولة، وأجازها الفراء، لأن أصل التقاء الساكنين الكسر، وأنشد: قال لها: هل لك يا تا في".
قال الزجاج: "هذا الشعر مما لا يلتفت إليه، وقائله ممن لا يعرف، فلا يحتج به في كتاب الله".......» إلى آخر كلامه[8/584]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
(1) البرهان (1/292)
(2) البرهان (1/292)
(3) تفسير الراغب (1/38)
(4) البرهان (1/339)
(5) البرهان (1/341)
(6) الإتقان (4/215)
(7) سير أعلام النبلاء ط الرسالة (20/ 154)
(8) سير أعلام النبلاء ط الرسالة (20/ 154)
(9) فتوح الغيب (1/610)
(10) السبعة في القراءات (ص:45)
(11) النشر (1/9)
(12) المرشد الوجيز (1/174)
(13) المرشد الوجيز (1/178)
(14) جامع البيان في القراءات السبع (2/ 860