توجيه القراءات من لدن جار الله الزمخشري (ت:538هـ) في تفسيره الكشاف – الحلقة الثانية –

كان جار الله الزمخشريّ –رحمه الله تعالى - دقيق الذهن، قوي الحجة، وذكرنا في الحلقة الأولى اطلاعه الواسع على لغات العرب ولهجاتها، ومعرفته بالقراءات، وقدرته العجيبة على التمييز بين صحيحها وسقيمها، فهو بلا منازع «المعرب العالم بوجوه الإعراب والقراءات العارف باللغات ومعاني الكلمات البصير بعيب القراءات المنتقد للآثار»، ومن النماذج والأمثلة الدالة على حرصه بالقراءات أيضا:
- قوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة: 5]، قال الزمخشري –رحمه الله تعالى -: « وقرأ ابن حبيش: (نستعين) بكسر النون»، وقال الطيبي –رحمه الله تعالى -: «قوله: ("نستعين" بكسر النون)، قيل: هي لغة بني تميم، فإنهم يكسرون حروف المضارعة إذا لم ينضم ما بعدها، سوى الياء لاستثقال الكسرة عليها»(1/ 753).
- قوله تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة: 6]، قال الزمخشري – رحمه الله تعالى -: «(السراط): الجادة، من سرط الشيء؛ إذا ابتلعه؛ لأنه يسترط السابلة إذا سلكوه،كما سمي لقماً؛ لأنه يلتقمهم، والصراط، من قلب السين صاداً؛ لأجل الطاء، كقوله: (مصيطر) في (مسيطر)، وقد يشم الصاد صوت الزاي، وقرئ بهن جميعاً، وفُصحاهن إخلاص الصاد، وهي لغة قريش، وهي الثابتة في الإمام»، قال الطيبي – رحمه الله تعالى -: «قوله: (وقرئ بهن)، الضمير عائد على قراءة "سراط" بالسين، وإلى قلبها صاداً، وإلى إشمام الصاد الزاي. قال في "الشعلة": قرأ قنبل بالسين على الأصل، وغيره بإبدالها صاداً لتجانس الطاء في الاستعلاء والإطباق، فإنهم كرهوا أن يخرجوا من السين وهو مهموس مستفل منفتح إلى الطاء وهو مجهور مستعل مطبق. وقرأ خلف بإشمام الصاد الزاي، بالغ في طلب المشاكلة بين الزاي والطاء؛ لأنها تزيد على الصاد في الموافقة للطاء بالجهر»[1/756]
- قوله: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) [الفاتحة: 7]، قال الزمخشري – رحمه الله تعالى -: « وقرأ أيوب السختياني: (ولا الضأَلِّين) بالهمزة، كما قرأ عمرو بن عبيد: (ولا جأَنّ) [الرحمن: 39، 56، 74]، وهذه لغة من جد في الهرب من التقاء الساكنين، ومنها ما حكاه أبو زيد من قولهم: شأَبّة ودأَبّة»[1/766]، قال الطيبي – رحمه الله تعالى -: « قوله: (جد في الهرب)؛ لأن التقاء الساكنين فيما إذ كان أولهما حرف لين والثاني مدغماً فيه مغتفر، فإذا هرب عن هذا الجائز فقد جد في الهرب، قال ابن جني: ذكر أن أيوب سئل عن هذه القراءة فقال: هي بدل من المدة لالتقاء الساكنين، وحكى اللحياني في الباز: البأز بالهمزة. ووجهه: أن الألف ساكنة ومجاورة لفتحة الباء قبلها. وقد ثبت أن الحرف الساكن إذا جاور الحركة فإنهم ينزلونه منزلة المحتمل بها كما في الوقف على بكر هذا بكر» [1/766].
- قوله: (يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ) [البقرة: 20]، قال الزمخشري – رحمه الله تعالى -: «وقرأ مجاهد (يخطِف) بكسر الطاء، والفتح أفصح وأعلى، وعن ابن مسعود: (يختطف) وعن الحسن: (يَخَطّف)، بفتح الياء والخاء، وأصله يختطف. وعنه: (يخطف) بكسرهما على إتباع الياء الخاء. وعن زيد بن علي: يخطف، من خطف. وعن أبيّ: يتخطف، من قوله: (يُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت: 67]»[2/276]،
قال الطيبي – رحمه الله تعالى -: «قوله: (قرأ مجاهد: يخطف). القراءات كلها شواذ. قال ابن جني: "حكى الفراء عن بعض القراء: "يخطف" بنصب الياء والخاء والتشديد، ثم قال ابن جني: أصله: يختطف فأدغم التاء في الطاء؛ لأنهما من مخرجٍ واحد، ولأن التاء مهموسة، والطاء مجهورة، والمجهور أقوى صوتًا من المهموس. ومتى كان الإدغام يقوي الحرف المدغم حسن ذلك، وعلته: أن الحرف إذا أدغم خفي فضعف، فإذا أدغم في حرفٍ أقوى منه، استحال لفظ المدغم إلى لفظ المدغم، فيه، فقوي. لقوته، وكان في ذلك تدارك وتلافٍ لما جني على الحرف المدغم، فأسكن "التاء" لإدغامها، و"الخاء" قبلها ساكنة، فنقلت الفتحة إليها، وقلبت التاء طاء، وأدغمت في الطاء فصارت "يخطف". ومنهم من إذا أسكن "التاء" ليدغمها، كسر الخاء لالتقاء الساكنين، فاستغنى بكسرتها عن نقل الفتحة إليها، فيقول: يخطف. ومنهم من يكسر حرف المضارعة إتباعًا لكسرة فاء الفعل بعده فيقول: يخطف"».
- قوله: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة: 38]، قال الزمخشري – رحمه الله تعالى -: « وقرئ: (فمن تبع هُدَيَّ)، على لغة هذيل، (فلا خوفَ) بالفتح »[2/451]، قال الطيبي: «قوله: (هدي على لغة هذيل) حكى ابن جني: هي قراءة أبي الطفيل وعيسى بن عمر الثقفي، وهي لغة فاشية في هذيل وغيرهم؛ أن يقلبوا الألف من آخر المقصور إذا أضيف إلى ياء المتكلم يَاءً، وأنشد قطرب:
يطوِّف بي عكبٌّ في معدٍّ ... ويطعن بالصُّملَّة في قَفيَّا
قال أبو علي: إن وقوع ياء المتكلم بعد الألف موضع ينكسر فيه الصحيح نحو: هذا غلامي، ولما لم يتمكنوا من كسر الألف قلبوها ياء، وشبهوا ذلك بقولك: مررت بالزيدين، لما لم يتمكنوا ن كسر الألف للجر قلبوها ياء».
قلتُ: قال ابن مالك – رحمه الله تعالى -: «إن هذيلا يقلبون ألف المقصور ياء ويدغمون، كقراءة الحسن: (يا بُشْرَيّ هذا غلام) وكقول الشاعر:
سَبَقوا هَوَيَّ وأعْنَقوا لهواهم ... فَتُخُرِّموا ولكل جنب مَصرعُ
وفي دعاء بعض العرب: يا سيديّ، ويا موليّ»[شرح التسهيل 3/283]
- قوله: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) [البقرة: 133]، قال الزمخشري – رحمه الله تعالى -: «وقُرئ: (حضر) بكسر الضاد وهي لغة».
قلتُ: قال الفيروزآبادي – رحمه الله تعالى -: «حَضَرَ، كنَصَرَ وعلِمَ، حُضُوراً وحضارَةً: ضِدُّ غابَ»[ القاموس المحيط (ص: 376)]، قال الزبيدي: « قَالَ شَيخُنا: واللُّغَةُ الأُولَى هِيَ الفَصِيحَةُ المشْهُورَةُ، ذَكَرَها ثَعْلَبٌ فِي الفَصِيحِ وَغَيره، وأَوردَهَا أَئمّة اللُّغَةِ قَاطِبةً. وأَمّا الثانيةُ فأَنكَرَهَا جَمَاعَةٌ وأَثبتَها آخرونَ، وَلَا نِزاعَ فِي ذلك. إِنَّما الكلامُ فِي ظاهِر كلامِ المُصَنِّف أَو صَريحِه فإِنَّه يَقتَضِي أَنَّ حَضِرَ كعَلمَ، مضارعه على قياسِ ماضيه فيكونُ مَفْتُوحاً كيَعْلَم، وَلَا قائِلَ بِهِ، بل كُلُّ مَنْ حَكى الكَسْرَ صرَّحَ بأَنّ الْمُضَارع لَا يَكُونَ على قياسِه، انْتهى.
وَفِي «اللِّسَان»: قَالَ اللَّيْثُ: يُقَال: حَضَرَت الصّلاةُ، وأَهْلُ المَدِينَة يَقُولُونَ: حَضِرَتْ، وكلّهم يَقُولُونَ: تَحْضَر. وَقَالَ شَمِرٌ: حَضِرَ القاضِيَ امرأَةٌ، (تَحْضَر) قَالَ: وإِنما أُندِرَت التَّاءُ لوُقُوعِ القاضِي بَين الفِعْل والمَرْأَة. قَالَ الأَزهَرِيّ: واللّغَة الجَيّدة حَضَرَت تَحْضُر، بالضَّمّ. قَالَ الجَوْهَرِيُّ: قَالَ الفَرّاءُ: وأَنشَدَنا أَبو ثَرْوَانَ العُكْلِيُّ لجرِيرٍ على لُغَةَ حَضِرَتْ.
مَا مَنْ جَفَانا إِذَا حاجاتُنا حَضِرَتْ كَمَنْ لَهُ عندنَا التَّكْرِيمُ واللَّطَفُ
قَالَ الفَرّاءُ: وكُلُّهُم يَقُولُونَ تَحْضُر بالضَّمِّ.
وَفِي «الْمِصْبَاح»: وحَضِرَ فلانٌ، بالكَسْر، لُغَة، واتّفَقُوا على ضَمِّ المُضَارع مُطْلَقاً، وَكَانَ قِيَاس كَسْرِ المَاضي أَن يُفْتَح المُضَارع، لَكِن استُعْمِل المَضْمُوم مَعَ كَسْر الْمَاضِي شُذُوذاً، ويُسَمَّى تَداخُلَ اللُّغَتَيْن، انتهَى.
وَقَالَ اللَّبْليّ فِي شَرْح الفَصيح حَضَرَنِي قَومٌ، وحَضِرَنِي، بِكَسْر الضّاد حَكاه ابنُ خالَوَيه عَن أَبي عَمْرٍ و، وَحَكَاهُ أَيضاً القَزَّاز عَن أَبي الحَسَن، وحَكَاه يَعْقُوب عَن الفَرّاءِ، وَحَكَاهُ أَيضاً الجَوْهَرِيُّ عَنهُ.
وَقَالَ الزّمخشَرِيّ عَن الخَليل: حَضِرَ، بِالْكَسْرِ، فإِذا انتهَوْا إِلَى الْمُسْتَقْبل قَالُوا يَحضُر، بالضّمّ، رُجُوعاً إِلى الأَصل، وَمثله فَضِل يَفْضُلُ.
قَالَ شَيخنَا: وَقد أَوضحْتُه فِي شَرْح نَظْم الفَصيح، وأَوضَحَتُ أَن هاذا من النَّظَائِر، فيزاد على نَعِمَ وفَضِلَ. ويُسْتَدرك بِهِ قولُ ابنِ القُوطِيَّة أَنَّه لَا ثالثَ لهُمَا، والكَسْرُ الَّذِي ذكره الجماهيرُ حَكَاهُ ابْن القَطّاع أَيضاً فِي أَفعاله» [التاج: مادة حضر]
- قوله تعالى: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) [البقرة: 205] (، قال الزمخشري – رحمه الله تعالى -: «وقرئ: (ويَهلِك الحرث والنسل) على أن الفعل لـ"الحرث والنسل"، والرفع للعطف على (سعى). وقرأ الحسن بفتح اللام، وهي لغةٌ، نحو: أبى يأبى. وروي عنه: (ويهلك)، على البناء للمفعول».(3/ 318)
- قوله تعالى: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [البقرة: 248])، قال الزمخشري – رحمه الله تعالى -: «وقرأ أبيّ وزيد بن ثابت: (التابوه) بالهاء وهي لغة الأنصار. فإن قلت: ما وزن التابوت؟ قلت: لا يخلو من أن يكون فعلوتا أو فاعولا، فلا يكون فاعولا، لقلةٍ، نحو: سلس وقلق، ولأنه تركيب غير معروف فلا يجوز ترك المعروف إليه، فهو إذاً «فعلوت» من التوب، وهو الرجوع لأنه ظرف توضع فيه الأشياء وتودعه، فلا يزال يرجع إليه ما يخرج منه، وصاحبه يرجع إليه فيما يحتاج إليه من مودعاته. وأمّا من قرأ بالهاء فهو «فاعول» عنده، إلا فيمن جعل هاءه بدلاً من التاء، لاجتماعهما في الهمس، وأنهما من حروف الزيادة، ولذلك أبدلت من تاء التأنيث»[3/463].
وقال: «وقرأ أبو السمال: (سكينة) بفتح السين والتشديد وهو غريب. وقرئ: (يحمله) بالياء».
قال الطيبي – رحمه الله تعالى -: « قوله: (لقلة نحو: سلس) أي: قل في كلام العرب لفظ فاؤه ولامه من جنس واحد، فلا يجوز القياس على هذا، وإذا لم يجز فلا يقال: تابوت من تبت، وأما من قرأ بالهاء فهو فاعول؛ لأن فعلوة غير موجود، قال الجوهري: التابوت: أصله تابُوَة كتَرْقُوَةٍ، وهو فَعْلُوَةٌ، فلما سكنت الواو انقلبت هاء التأنيث تاء. روى صاحب "جامع الأصول"، عن رزين، عن علي قال: أرسل عثمان إلى زيد بن ثابت وسعيد بن العاص رضي الله عنهم فقال: ليكتب أحدكم آي القرآن وليمل الآخر، فإذا اختلفتم فارفعاه إلي، فاختلفا في هذا الحرف، قال سعيد: التابوت، وقال زيد: التابوه، فرفعاه إلى عثمان، قال: اكتبوه التابوت. قال علي: لو وليت الذي ولي عثمان لصنعت مثل الذي صنع»[3/464].
- قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [البقرة: 278]، قال الزمخشري – رحمه الله تعالى -: « وقرأ الحسن: (ما بقَى) بقلب الياء ألفاً على لغة طيئ، وعنه: (ما بَقِيْ) بياءٍ ساكنة، ومنه قول جرير:
هُوَ الْخَلِيفَةُ فَارْضَوْا مَا رَضِي لَكُمُ ... مَاضِى الْعَزِيمَةِ مَا فِى حُكْمِهِ جَنَفُ» [3/546]
- قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) [آل عمران: 81])، قال الزمخشري – رحمه الله تعالى -: «وقرئ: (أُصْري)، بالضم. وسمى إصراً؛ لأنه مما يؤصر، أي يشدّ ويعقد، ومنه الإصار، الذي يعقد به. ويجوز أن يكون المضموم لغة في أصر كعِبْر وعُبْر، وأن يكون جمعَ إصار»[4/166]. قال الطيبي – رحمه الله تعالى -: « قوله: (كعبر وعبر)، الجوهري: جمل عبر أسفار وجمال عبر أسفار، وناقة عبر أسفار، يستوي فيه الواحد والجمع والمؤنث، مثل: الفلك، أي: لا يزال يسافر عليها، وكذلك عبر أسفار بالكسر، والعبر أيضاً بالضم: الكثير من كل شيء» (4/ 166).
- قوله تعالى: (وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) [النساء: 11]، قال الزمخشري – رحمه الله تعالى -: «وقرأ زيد بن ثابت (النُّصْفُ) بالضم. »، قال الطيبي – رحمه الله تعالى -: «وهو شاذ، قال المصنف: الضم في النصف لغة أهل الحجاز، وهذا أقيس؛ لأنك تقول الثمن والعشر»[4/457]
-قوله تعالى: (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا) [النساء: 148]، قال الزمخشري – رحمه الله تعالى -: « وقرئ: (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) على البناء للفاعل للانقطاع، أي: ولكن الظالم راكب ما لا يحبه اللَّه فيجهر بالسوء. ويجوز أن يكون (مَنْ ظَلَمَ) مرفوعاً، كأنه قيل: لا يحب اللَّه الجهر بالسوء إلا الظالم على لغة من يقول: ما جاءني زيد إلا عمرو، بمعنى: ما جاءني إلا عمرو، ومنه: (قل لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) [النمل: 65]»، قال الطيبي – رحمه الله تعالى -: «قوله: (على لغة من يقول)، أي: لغة بني تميم، وعليه قول الشاعر:
عشية ما يُغني الرماح مكانها ... ولا النبل إلا المشرفيّ المصمّم
أي: لا يغني إلا المشرفي.
قوله: (ما جاءني زيدٌ إلا عمرو)، ونقل عن سيبويه أنه قال: أصل قولك: ما جاءني زيدٌ إلا عمرو: ما جاءني إلا عمرو، فهو استثناء مفرغ يلزم منه نفي المجيء عن كل من عدا عمراً، ثم أدخل فيه زيداً تأكيداً لنفي المجيء عن زيد، فقوله: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ} تقديره: لا يحب الجهر بالسوء أحدٌ إلا الظالم، فأدخل لفظة {اللَّهُ} تأكيداً لنفي محبته، يعني: لله سبحانه وتعالى اختصاص في عدم محبته ليس لأحد غيره ذلك، وكذا قوله: لا يعلم الغيب أحدٌ إلا الله، ثم أدخل {مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النمل: 65] تأكيداً.
قال صاحب "الانتصاف": وجه تنظير المصنف بالآية أن الظالم لا يندرج في المستثنى منه كما أن الله تعالى مقدس أن يكون في السماوات أو الأرض. وكلامه في هذا الفصل لا يظهر ولا يتحقق لي منه ما يسوغ مجاراته لانغلاق عباراته. وقلت: عليه أن ينظر في حل تركيبه في سورة النمل ليتحقق له»[5/210].
- قوله تعالى: (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ) [الأعراف: 93]، قال الزمخشريّ – رحمه الله تعالى -: «وقرأ يحيى بن وثاب: "فكيف إيسى"، بكسر الهمزة»، قال الطيبيّ – رحمه الله تعالى -: «يعني: على لغة من يقول: "تعلم"»، قال الرضي – رحمه الله تعالى -: « واعلم أن جميع العرب، إلا أهل الحجاز، يُجَوِّزُونَ كسر حرف المضارعة سوى الياء في الثلاثي المبني للفاعل، إذا كان الماضي على فِعل بكسر العين، فيقولون: أنا إعْلَم ونحن نِعْلَم وأنت تِعْلَم، وكذا في المثال والأجوف والناقص والمضاعف، نحو إيجَل وإخَال وَإِشْقَى وَإِعَضّ، والكسرة في همزة إخال وحده أكثر وأفصح من الفتح، وإنما كُسرت حروف المضارعة تنبيهاً على كسر عين الماضي، ولم يُكسر الفاء لهذا المعنى، لأن أصله في المضارع السكون، ولم يكسر العين لئلا يلتبس يفعَل المفتوح بيفعِل المكسور، فلم يبق إلا كسر حروف المضارعة، ولم يكسروا الياء استثقالاً، إلا إذا كان الفاء واواً، نحو ييجَل، لاستثقالهم الواو والتي بعد الياء المفتوحة وكرهوا قلب الواو ياء من غير كسرة قبلها، فأجازوا الكسر مع الواو في الياء أيضاً لتخف الكلمة بانقلاب الواو ياء. فأما إذا لم يكسروا الياء فبعض العرب يقلب الواو ياء، نحو ييجَل، وبعضهم يقلبه ألفاً؛ لأنه إذا كان القلب بلا علة ظاهرة فإلى الألف التي هي الأخف أولى، فكَسر الياء لينقلب الواو ياء لغةُ جميع العرب إلا الحجازيين، وقلبُها ياء بلا كسر الياء وقلبها ألفاً لغةُ بعضهم في كل مثال واوي، وهي قليلة»[شرح الشافية (1/141)].
- قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ) [الأعراف: 145]، قال الزمخشري – رحمه الله تعالى -: «وقرأ الحسن: "سأوريكم"، وهي لغةٌ فاشيةٌ بالحجاز. يقال: أورني كذا، وأوريته. ووجهه أن تكون من: أوريت الزند، كأن المعنى: بينه لي وأنره لأستبينه، وقرئ: "سأورثكم"، وهي قراءةٌ حسنةٌ يصححها قوله: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ) [الأعراف: 137]»[6/ 575].
- قوله تعالى: (وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا) [الأعراف: 160]، قال الزمخشري – رحمه الله تعالى - : «فإن قلت: مميز ما عدا العشرة مفرد، فما وجه مجيئه مجموعاً؟ وهلا قيل: اثني عشر سبطاً؟ قلت: لو قيل ذلك لم يكن تحقيقاً لأنّ المراد: وقطعناهم اثنتي عشرة قبيلةً، وكل قبيلةٍ أسباطٌ لا سبط، فوضع (أَسْبَاطاً) موضع "قبيلة"، ونظيره: .... بين رماحي مالك ونهشل
و(أُمَماً) بدلٌ من (اثنتي عشرة) بمعنى: وقطعناهم أمماً، لأنّ كل أسباطٍ كانت أمةً عظيمةً وجماعةً كثيفة العدد، وكل واحدةٍ كانت تؤمُّ خلاف ما تؤمّه الأخرى، لا تكاد تأتلف. وقرئ: "اثنتي عشرة" بكسر الشين»[6/620]
قال الطيبي – رحمه الله تعالى -: «قوله: (وكل قبيلةٍ أسباط لا سبط): توضيح ذلك ما ذكره في "الحجرات": "القبيلة تجمع العمائر، والعمائر تجمع البطون، والبطن تجمع الأفخاذ، والفخذ تجمع الفصائل، كنانة: قبيلة، قريش: عمارة، وقصى: بطن، وهاشم: فخذ، والعباس: فصيلة".
فلو قيل: اثنا عشر سبطاً، لأوهم أن المجموعة قبيلة واحدة، والمراد اثنتا عشرة قبيلة. فوضع "أسباطاً" موضع قبيلة.
ذهب الجوهري والزجاج وأبو البقاء إلى أن (أسباطاً): بدل من (اثنتى عشرة)، وليس تفسيراً لها، لأن التفسير لا يكون إلا واحداً منكوراً، كقولك: اثني عشر درهماً، ولا يجوز: دراهم.
وقلت: نص المصنف في قوله تعالى: (ثالث مائةٍ سنين) [الكهف: 25] في قراءة حمزة والكسائي على الإضافة، أنه "وضع الجمع موضع الواحد في التمييز، كقوله تعالى: (بالأخسرين أعمالاً) [الكهف: 103] "
وقال ابن الحاجب في "شرح المفصل": "ذهب الزجاج على أن (سنين) في هذه القراءة: بدل لا تمييز، لما يلزم على التمييز أن يكونوا قد لبثوا تسع مئة سنة، قال: "ووجهه أنه فهم من لغة العرب أن مميز المئة واحد من مئة، فإذا قلت: مئة رجل، فمميزها رجل، وهو واحد من المئة. وإذا قلت: مئة سنين، فيكون "سنين" واحداً من المئة، وهي ثلاث مئة، وأقل السنين ثلاثة، فيجب أن يكون لبثهم تسع مئة سنة. وهذا يطرد في (اثنتى عشرة أسباطاً) فيلزم على التمييز أن يكونوا ستة وثلاثين سبطاً".
ثم قال ابن الحاجب: "ما ذكره الزجاج غير لازم، لأن ذلك إنما يلزم إذا كان المميز مفرداً، وأما إذا كان جمعاً، فيكون القصد فيه كالقصد في وقوع التمييز جمعاً، في نحو: ثلاثة أثواب، على أنه قد تقرر أن الأصل في جميع المميزات الجمع، وإنما عدل إلى المفرد لغرض، فإذا استعمل على الأصل في جميع المميزات، لا على الوجه الذي ألزمه الزجاج"».(6/620)
وقال: « قوله: (بين رماحي مالكٍ ونهشل): أوله: (تبقلت في أول التبقل)
تبقلت الماشية: إذا رعت النبات أول ما نبت. ومالك: هو ابن ضبيعة. ونهشل: هو ابن دارم، من أمراء العرب. يصف رمكةً مرتاضة، اعتادت ممارسة الحرب.
إنما ثنى الرماح، وهي جمع، لأن كل فرد من هذه التثنية يراد به جماعة من الرماح، كما يراد بكل فردٍ من أفراد هذا الجمع - وهو (أسباطاً) - قبيلة»(6/622)
- قوله تعالى: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ) [الأنفال: 9]، قال الزمخشري – رحمه الله تعالى - :«وعن أبى عمرو أنه قرأ: (إِنِّي مُمِدُّكُمْ) بالكسر؛ على إرادة القول، أو على إجراء استجاب مجرى "قال" لأنّ الاستجابة من القول».[7/32]
وقال أيضا في (مُرْدِفِينَ): « وقرئ (مُرْدِفِينَ) بكسر الدال وفتحها، من قولك: ردفه: إذا تبعه، ومنه قوله تعالى: (رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) [النمل: 72] بمعنى: ردفكم. وأردفته إياه: إذا أتبعته، ويقال: أردفته، كقولك: أتبعته: إذا جئت بعده، فلا يخلو المكسور الدال من أن يكون بمعنى: متبعين أو متبعين، فإن كان بمعنى "متبعين": فلا يخلو من أن يكون بمعنى: متبعين بعضهم بعضاً، أو متبعين بعضهم لبعض، أو بمعنى: متبعين إياهم المؤمنين، أي يتقدمونهم فيتبعونهم أنفسهم، أو متبعين لهم يشيعونهم ويقدمونهم بين أيديهم، وهم على ساقتهم، ليكونوا على أعينهم وحفظهم، أو بمعنى متبعين أنفسهم ملائكة آخرين، أو متبعين غيرهم من الملائكة، ويعضد هذا الوجه قوله تعالى في سورة آل عمران: (بِثَلثَةِ ءالف مِنَ الْمَلكَةِ مُنْزَلِينَ). [آل عمران: 124]. (بِخَمْسَةِ ءالف مِنَ الْمَلكَةِ مُسَوِّمِينَ) [آل عمران: 125].
ومن قرأ: (مُرْدِفِينَ) بالفتح: فهو بمعنى: متبعين أو متبعين. وقرئ: (مردّفين)، بكسر الراء وضمها وتشديد الدال، وأصله: مرتدفين، أي: مترادفين أو متبعين، من: ارتدفه، فأدغمت تاء الافتعال في الدال، فالتقى ساكنان، فحرّكت الراء بالكسر على الأصل، أو على إتباع الدال، وبالضم على إتباع الميم»[7/36].
- قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [الأنفال: 24])، قال الزمخشري – رحمه الله تعالى -: «وقرئ: "بين المَرِّ" بتشديد الراء، ووجهه: أنه قد حذف الهمزة، وألقى حركتها على الراء، كالخب، ثم نوى الوقف على لغة من يقول: مررت بعمرّ»[7/66].
- قوله تعالى: (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) [التوبة: 12]، قال الزمخشري – رحمه الله تعالى -: «فإن قلت: كيف لفظ (أئمة)؟ قلت: همزة بعدها همزة بين بين، أي: بين مخرج الهمزة والياء، وتحقيق الهمزتين قراءة مشهورة، وإن لم تكن بمقبولة عند البصريين. وأما التصريح بالياء فليس بقراءة، ولا يجوز أن تكون. ومن صرح بها فهو لاحن محرف»[7/190].
قال الطيبي: «قوله: (قراءة مشهورة وإن لم تكن مقبولة): في "التيسير": "قرأ الكوفيون وابن عامر: (أَئِمَّةَ الْكُفْرِ)، بهمزتين حيث وقع، وأدخل هشام بينهما ألفاً، والباقون بهمزة وياء مختلسة الكسرة من غير مد".
وفي "الكواشي": أصل "أئمة": أءممة؛ أفعلة، جمع إمام، كعماد وأعمدة، نُقلت كسرة الميم الأولى إلى الهمزة، ثم أدغمت في الثانية، فصارت: أئمة، ثم قلبت الهمزة ياء فصارت: أيمة، وزعم بعضهم أن النحاة لا يجيزون اجتماع همزتين للثقل، وفي زعمه نظر؛ لصحة نقلها عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل لتواتره، فيجب لذلك أن تُجعل لغة للعرب استعملت على الأصل، وهو أقيس وإن ثقل!
وزعم أيضاً أن التصريح بالياء ليس بقراءة، ولا يجوز أن يكون قراءة، ومن صرح بها فهو لاحن محرف! وفي زعمه نظر؛ لأن أكثر القراء يقرؤون بهمزة بعدها ياء مكسورة.
وقلت: وفي النظر نظر، لأن قوله: "فليس بقراءة" معناه: أن أحداً من القراء السبعة لم يقرأ بها، وهو كذلك، كما نقلناه عن صاحب "التيسير"، ولكن النظر من وجه آخر، وهو أنه ذكر في "المفصل": "إذا اجتمعت همزتان في كلمة فالوجه قلب الثانية إلى حرف لين، كقولهم: آدم وأيمة".
وقال ابن الحاجب في "شرحه": "يجب عند النحويين أن تُقلب الثانية حرف لين، وقلبها حرف لين على حسب حركتها إن أمكن ذلكن كقولك: أيمة، بياء محضة".
وقال أبو شامة في شرح قوله: "وفي النحو أبدلا": أي: رأى أهل النحو إبدال الهمزة ياء في "أيمة"، نص عليه أبو علي في "الحجة"، ووجهه: النظر إلى أصل الهمزة، وهو السكون، وذلك يقتضي الإبدال مطلقاً، وتعينت الياء للكسرة، ولم يوافق أبو القاسم الزمخشري أهل النحو، واختار مذهب القراء في "الكشاف". وأما في "المفصل" فهو حكاية قول النحويين»[7/190]
قوله تعالى: (قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [يونس: 16]، قال الزمخشري – رحمه الله تعالى -:«(وَلا أَدْراكُمْ بِهِ): ولا أعلمكم به على لساني، وقرأ الحسن: "ولا أدراتكم به"، على لغة من يقول: أعطاته وأرضاته، في معنى أعطيته وأرضيته، وتعضده قراءة ابن عباس: "ولا أنذرتكم به". ورواه الفراء: "ولا أدرأتكم به"، وبالهمزة، وفيه وجهان، أحدهما: أن تقلب الألف همزة، كما قيل: لبأت بالحج، ورثأت الميت وحلأت السويق، وذلك لأنّ الألف والهمزة من واد واحد، ألا ترى أنّ الألف إذا مستها الحركة انقلبت همزة. والثاني: أن يكون من: درأته إذا دفعته، وأدرأته إذا جعلته دارئا، والمعنى: ولا جعلتكم بتلاوته خصماء تدرؤونني بالجدال وتكذبونني.
وعن ابن كثير: "ولأدراكم به" بلام الابتداء، لإثبات الإدراء، ومعناه: لو شاء الله ما تلوته أنا عليكم ولأعلمكم به على لسان غيري، ولكنه يمنّ على من يشاء من عباده، فخصني بهذه الكرامة ورآني لها أهلا دون سائر الناس»[7/447]
قال الطيبي – رحمه الله تعالى -: «قوله: (وقرأ الحسن: "ولا أدراتكم به"): قال ابن جني: "قراءة ابن عباس والحسن وابن سيرين، وهي قراءة قديمة التناكر لها والتعجب منها، ولعمري إنها في بادئ أمرها على ذلك، غير أن لها وجهاً، وإن كانت فيه صنعة وإطالة، وطريقه: أنه أراد: "ولا أدريتكم به"، ثم قُلبت الياء لانفتاح ما قبلها- وإن كانت ساكنة - ألفاً، كقولهم في ييأس: ياءس، وقالوا: عاعيت وهاهيت، والأصل: عيعيت وهيهيت، فقلبت الياء الساكنة فيها ألفاً، وكذلك قلبت ياء "أدريتكم" ألفاً، فصارت "أدراتكم"، وروينا أيضاً عن قُطرب أن لغة عقيل في قولك: أعطيتك: أعطاتك، فلما صار من "أدريتكم" إلى "أدراتكم"، هُمز على لغة من قال في الباز: البأز، وفي العالم: العألم، وفي الخاتم: الخأتم، ولها نظائر، وقد أوردناها في "الخصائص" في باب [ما] همزته العرب ولا أصل له في همز مثله"».
- قوله تعالى: (يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) [هود: 105]، قال الزمخشري – رحمه الله تعالى -: «قرئ: (يَوْمَ يَاتِ) بغير ياء. ونحوه قولهم: لا أدر، حكاه الخليل وسيبويه. وحذف الياء والاجتزاء عنها بالكسرة كثير في لغة هذيل. فإن قلت: فاعل يأتى ما هو؟ قلت: الله عز وجل»، قال الطيبي: «قوله: (قرئ: (يَوْمَ يَاتِ) بغير ياء): أثبت الياء في الحالين: ابن كثير، وأثبتها لمجيء الوصل: نافع وأبو عمرو والكسائي، والباقون: يحذفونها في الحالين. قال الزجاج: "الذي يختاره النحويون: إثبات الياء، والذي أختاره في المصحف وعليه القراءات: بكسر التاء وهذيل تستعمله كذا، وقد حكى سيبويه: أن العرب تقول: لا أدر، وتجتزئ بالكسرة لكثرة الاستعمال، والذي أختاره إنما أختاره لمتابعة المصحف"»[8/195]
- قوله تعالى: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ) [هود: 113]، قال الزمخشري – رحمه الله تعالى -: «قرئ: (ولا تركنوا)، بفتح الكاف وضمها مع فتح التاء. وعن أبي عمرو: بكسر التاء وفتح الكاف، على لغة تميم في كسرهم حروف المضارعة إلا الياء في كل ما كان من باب "علم يعلم". ونحوه قراءة من قرأ "فَتِمَسَّكُمُ النَّارُ" بكسر التاء. وقرأ ابن أبي عبلة: "ولا تركنوا"، على البناء للمفعول، من أركنه إذا أماله»[8/216].
- قوله تعالى: (وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَابُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) [يوسف: 19]، قال الزمخشري – رحمه الله تعالى -: «(يا بُشْرى) نادى البشرى، كأنه يقول: تعال، فهذا من آونتك. وقرئ: "يا بشراى" على إضافتها إلى نفسه. وفي قراءة الحسن وغيره: يا بشري بالياء مكان الألف، جعلت الياء بمنزلة الكسرة قبل ياء الإضافة، وهي لغة للعرب مشهورة سمعت أهل السروات يقولون في دعائهم: يا سيدي وموليّ. وعن نافع: يا بشراي بالسكون، وليس بالوجه لما فيه من التقاء الساكنين على غير حدّه، إلا أن يقصد الوقف.».[8/279]
- قوله تعالى: (ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) [يوسف: 35]، أي إلى زمانٍ، قال الزمخشريّ – رحمه الله تعالى -: «وفي قراءة ابن مسعود: "عتى حين"، وهي لغة هذيل. وعن عمر رضي الله عنه: أنه سمع رجلاً يقرأ «عتى حين» فقال: من أقرأك؟ قال: ابن مسعود. فكتب إليه: "إن الله أنزل هذا القرآن فجعله عربيا وأنزله بلغة قريش، فأقرئ الناس بلغة قريش ولا تقرئهم بلغة هذيل، والسلام"»[8/331].