تقرير مناقشة أطروحة الدكتوراه للطالب: منتصر الخطيب (الباحث بمركز أبي الحسن الأشعري)

نوقشت أطروحة الطالب: منتصر الخطيب (الباحث بمركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوث العقدية بتطوان) لنيل شهادة الدكتوراه في كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة عبد المالك السعدي بتطوان، شعبة الدراسات الإسلامية: (عقيدة وعلوم وتراث)، تحت عنوان: "البعد العقدي في الفكر الصوفي الإصلاحي بالمغرب (ابن عجيبة نموذجا)"، بإشراف: الدكتور جمال علال البختي، وذلك صبيحة الخميس 13 يونيه 2024، وتكونت لجنة المناقشة من السادة الأساتذة: الدكتور أحمد مونة، والدكتور جمال علال البختي، والدكتور هشام تهتاه، والدكتور محمد إلياس المراكشي، والدكتور عبد الله التوراتي، والدكتور محمد أوغانم.
ومما جاء في التقرير الإجمالي الذي تلاه الطالب أمام لجنة المناقشة: أن موضوع أطروحته يجمع بين التأريخ للمواقف الفكرية التي تبنَّاها التيار الصوفي الإصلاحي بالمغرب، والنظرِ في الطريقة التي نهجها نحو مهمة إصلاح الجانب العقدي، ردا للناس إلى سواء السبيل على هدي تعاليم الدين القويم؛ عقيدة وفقها وسلوكا – بحسب اعتقادهم-، في نطاق خصوصية مغربية جمعت بين الاعتقاد الأشعري والفقه المالكي والتصوف السني الجنيدي.. هذا، وذكر الطالب أنه إذا كان المؤرخون يسجلون للمشهد التاريخي العام لبلاد المغرب ذلكم الظهور البارز لرجال التصوف والإصلاح بدءا من زمن المرابطين والموحدين حيث كان الصوفية أصحاب رباطات وحراس ثغور، ثم تطور حالهم أيام المرينيين زمن ما تكاثرت الزوايا وانتشرت بجل ربوع المغرب وساهم رجالها في بلورة الحركة العلمية وتطورها، ثم زاد الأمر ظهورا زمن السعديين والعلويين فكان أقطاب التصوف ومريدوه أصحاب علوم ومدارس، ساهموا بحظ وافر في التقلبات الاجتماعية والسياسية لهذين العهدين، كان آخر مظاهرها أن أصدر المولى سليمان خطبته الشهيرة المعبرة عن دور التيار الإصلاحي بالمغرب الأكثر ارتباطا بالفترة الزمنية التي نبحث فيها وهي فترة القرنين 12-13 الهجريين الموافق لـ 18-19 الميلاديين، فكانت المناسبة مواتية لصدور الأمر العزيز لمواجهة مظاهر الطرقية التي انتشرت بحواضر المغرب وقراه ومغالاتها في إقامة المواسم والبدع.
وبين الطالب أنه – تبعا لذلك- ظهرت شخصيات بارزة أثَّرت بشكل أو بآخر في توجيه الناس وجهة صحيحة – بنَظرِها-، ويتعلق الأمر في هذا البحث بأحد أعلام التصوف بشمال المغرب، مجسَّداً في شخصية أحمد ابن عجيبة (1161-1224هـ/1746-1809م)، والذي اعتُبر أعجوبة زمانه في مواجهة سلبيات عصره الفكرية والأخلاقية والسياسية، وبعد البحثِ في عدة مداخل ارتأى الباحث الوقوف عندها؛ من حيث التأريخ للمواقف الفكرية، والنظرِ في النموذج الإصلاحي الذي سلكه كممثل للطريقة الدرقاوية الشاذلية بالمغرب، تجسيدا لما عرف به المغاربة من الجمع بين العقيدة والفقه والتصوف كمداخل أساسية ثابتة في المعرفة تلقيا وتلقينا.. اعتمد الباحث على المنهج التاريخي في الجانب التوثيقي لفحص المعطيات التاريخية المتعلقة بنشأة المدرسة الدرقاوية الشاذلية بالمغرب عموما وبحاضرة تطوان على وجه الخصوص، وعلى المنهج التحليلي لبحث واستخلاص ورصد تطور الوقائع والأحداث (الفكرية والاجتماعية والسياسية) التي أفرزتها مواقف الرجل الإصلاحية التي قامت لتواجه الفساد الكبير الذي أحدثته بعض الطوائف الصوفية بتطوان، وعلى المنهج الاستقرائي وقوفا على مؤلفاته باعتباره من المكثرين في التأليف والكتابة من أجل تتبع منهجه الإصلاحي المنطلق من الجانب العقدي، لأنه في نظره ونظر العديد من أقرانه: "أن الفساد العقدي يُؤدِّي بالضرورة إلى تسرب الخلل والفساد إلى جميع مكونات المجتمع".
وبناء على المدخل الُمؤَطِّر لمحتويات هذا العمل، حدَّد الباحث إشكاليته في البحث في تجربة ابن عجيبة لإصلاح الفكر الصوفي المغربي وارتكازها على الجانب العقدي: تربية وسلوكا، وذلك من خلال على مجموعة من العناصر، وذلك بالوقوف على مدى تأثير التوجه الصوفي الدرقاوي الشاذلي في حياة ابن عجيبة العلمية والعملية من حيث التوجه الفكري والأدوار الاجتماعية والمشاركة السياسية. وبضبط منطلقات التوجه العقدي لتجربته الإصلاحية، ومقارنتها بمثيلاتها وخاصة عند أحمد زروق كأحد المنادين كذلك بإصلاح الطريق الصوفي خلال القرن التاسع الهجري. وبإبراز كيفية تجسد علاقة التكامل المعرفي بين العقيدة والفقه والتصوف في تاريخ الفكر المغربي، وفق ما شملته المؤلفات الجامعة بين المقدمات العقدية والمباحث الفقهية وهوادي التعرف إلى حقائق التصوف. وبرصد كيفية ارتكاز تجربته الإصلاحية على العقيدة كمنطلق في سبيل إصلاح المجتمع وفق مقامات وأحوال معينة؛ تبدأ بالتوبة وتنتهي ببلوغ مرتبة الإحسان. وبكيفية تقييم تجربته الصوفية في ضوء الأحداث التاريخية لتلك الفترة بما عرفته من احتدام الصراع بين التيار الصوفي المتجذر والتيار السلفي الناشئ، وهكذا وبتتبع الباحث لهذه الإشكالات، توَزَّع عمله في الأطروحة على بابين:
- أولهما بعنوان: ابن عجيبة؛ التاريخ والحضور العلمي، واشتمل على فصلين اثنين؛ اهتم الأول بعرض ملخص الحالة العامة لعصر ابن عجيبة ضمن المباحث التالية: مبحث: التوصيف السياسي، ومبحث: المشهد الثقافي، ومبحث: الطرق الصوفية والزوايا بتطوان. واشتمل الثاني على ملخص ترجمة ابن عجيبة وعرض إنتاجه العلمي وفق مبحث: الترجمة، ومبحث: ذكر ما حصله من العلوم والمعارف، ومبحث: ثناء العلماء عليه وذكر إجازاته، ومبحث: ذكر محنته، وذكر أبنائه وتلاميذه، وتاريخ وفاته، ثم مبحث: التعريف بمؤلفاته، وخاتمة بأهم نتائج الباب الأول.
- والثاني بعنوان: التجربة الصوفية لابن عجيبة وأبعادها العقدية، خصصه لعرض تجربته الصوفية، واشتمل على تقديم وفصلين اثنين: الفصل الأول في الفكر الصوفي ومقصده الإصلاحي، وشمل مبحث: المناهج الإصلاحية للطرق الصوفية بالمغرب، ومبحث: ابن عجيبة ومنهجه الإصلاحي، والفصل الثاني في التجربة الصوفية وتجليات البعد العقدي فيها، واشتمل على مبحث: التأسيس لتكامل مباحث (الاعتقاد والفقه والتصوف)، ومبحث: الاعتقاد عند ابن عجيبة في الإلهيات والنبوات والسمعيات. ومبحث: تجليات البعد العقدي في منهجه الإصلاحي.
ثم أنهى البحث بوضع خاتمة إجمالية؛ عرض فيها لمجمل الخلاصات والاستنتاجات التي توصَّل إليها، وذيَّله بفهارس تقنية اشتملت على فهرس للآيات القرآنية، وآخر لأطراف الأحاديث النبوية، وفهرس القوافي والأشعار، وقائمة المصادر والمراجع، ثم فهرس الموضوعات.
كما ذكر الباحث أنه وبالنظر إلى الدراسات السابقة حول شخصية ابن عجيبة، التي لا نكاد نقف فيها على الجانب الذي اختاره لهذه الأطروحة وهو البحث والتتبع لأسس ومنطلقات ابن عجيبة نحو مهمة الإصلاح من الجانب العقدي، فإنه قد وقف على تتبع شروط وآداب اختيار هذا الطريق القائم على تجديد التوبة، والتزام الذكر، واختيار شيخ التربية، والسياحة، وخرق عوائد النفس.. كأسس للترقي بالإنسان في مراتب الدين الثلاثة: الإسلام والإيمان والإحسان، وتقسيم عمل الفرد وفقها ما بين المراتب الثلاث للعمل، وهي مراتب تتفاوت درجاتها: شريعة وطريقة وحقيقة.، ليستعين بها على استخلاص تجلياتها في الفصل الموالي. مشيرا إلى أنه إذا كانت مواضيع العقيدة الإسلامية تشتمل على الاعتقاد الصحيح في وجود الله تعالى وتنزيه ذاته عن المثيل والشبيه والتَّعرف على صفاته وما يجب في حقه تعالى وما يجوز وما يستحيل في باب الإلهيات، مع ما يستتبع ذلك من معرفة خصائص بابَيْ النبوات والسمعيات، وكانت مواضيع الفقه تختصُّ بالعبادات والمعاملات والحدود، فإن التصوف يشتغل على تلك المواضيع جميعها وتحقُّقِها في سلوك الإنسان المسلم بدءاً من التعلق بالصفات الإلهية، والتلبُّس بمعاني أسماء الله الحسنى، والذِّكر بالاسم المفرد أو بكلمة الإخلاص، وكان هدفُ المتصوفة الأول رفعُ التناقض بين المعرفة والممارسة، ومن ثمَّ فإن هذه الأنماط التعبدية والسلوكية جسَّدَتها - وفق ما خلص إليه الباحث –مجموعة من العناصر، اعتبرها تجليَّاتٍ للبعد العقدي في تجربة الرجل الإصلاحية، وهي التي مثَّلها في العناصر التالية: الرؤية التوحيدية أو التمسك بالاعتقاد الصحيح، الجامع بين طرفي: العبودية والربوبية. اعتماده على الاستدلال النقلي والبرهنة العقلية، فلا تؤخذ العقائد عنده إلا بالاستوثاق (نقلا وعقلا). والاهتداء إلى التخلق بمعاني الأسماء الحسنى القائم على مراتبها الثلاثة: التعلق والتخلق والتحقق؛ فيتعلق الشخص بمعانيها، ويتحقق بها مشاهدة ووصفا، ويتخلق بها ظاهرا وباطنا. والاعتماد على عنصر التزكية؛ باعتبار أن الخُلق هو أساس الدين، وأن الزيادة في الخُلق زيادة في الدين، والعكس. والتَّوق للوصول إلى مقام الإحسان، الذي هو كمال الإسلام، وما يتطلبه من مراقبة.
وهكذا خلص الباحث في ختام قراءته لتجربة ابن عجيبة الإصلاحية إلى جملة من النتائج لخصها في: أنه لا يمكننا فهم شخصية الرجل إلا في إطار اعتباره وحدة ضمن سلسلة وحدات تنتظم في بوتقة واحدة هي الزاوية الدرقاوية الشاذلية، ومدى تأثيرها في تاريخ المغرب في جوانبه المتعددة الدينية والاجتماعية والسياسية. واعتبار خصوصية الرؤية المغربية للتصوف كرافد من روافد التديُّن القائم على الجمع بين الاعتقاد والفقه والسلوك أو الأخلاق.. ما جعل المدرسة الصوفية المغربية تتبنَّى البعد الخُلقي وتعتمده أسلوبا في التربية أملا في إصلاح المجتمع بجميع أطيافه. ثم إنه لا يمكننا أن نُقيِّم هذه التجربة الإصلاحية أو أن نُصدِر حكماً حولها بالنجاح أو الفشل، بل تبقى تجربته مرهونةً بزمانها ومكانها، وذلك بالنظر إلى ما جسَّدتْهُ من وظيفيَّةٍ في جوانب الحياة المتعددة: إن في الجانب الديني بتوجيه العامة نحو التدين الصحيح، أو الجانب الاجتماعي بالمساهمة في التعليم والإيواء والإطعام، أو الجانب السياسي من خلال الانخراط في حراسة الثغور ومجاهدة العدو الأجنبي.. فبقدر ما ساهمت هذه التجربة في تحقيق وظيفيتها، يكون الحكم عليها إيجابا أو سلبا. ثم ختم تقريره بكونه قد سعى في البحث إلى التعريف بهذا العالم العابد، وتقريب تصوُّره المعرفي عقيدة وعبادة وسلوكا، وبسط تجربته الصوفية التي جسَّدت رؤية الطريقة الدرقاوية الشاذلية للتصوف بالمغرب في جانبها الإصلاحي فكرا وممارسة، ليكون شاهدا على نهضة علمية وخلقية على أساس وسطية في الاجتهاد الديني وتعايش مع باقي النظم الاجتماعية والسياسية في هذا البلد الأمين، درءً لكل تطرف أو غلو، وفي نفس الآن يعترف بأنه مهما ما بذل من جهد في هذا العمل، فإنه لن يفلح في بلوغ تمام مراد هذا العالم الجهبيذ وتقدير جهوده في سبيل إصلاح مجتمعه، ولعلَّه يكون مفتاحا لبحوث أخرى ترصُدُ تقييم التجربة الصوفية المغربية عنده أو عند غيره من رجالات التصوف..
وبعد أربع ساعات من المناقشة، حاز الطالب الباحث: منتصر الخطيب شهادة الدكتوراه بميزة: مشرف جدا.