مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةأخبار

تقرير عن مناقشة دكتوراه بعنوان: “فَاتِــقُ الرَّتْـــقِ عَلَــى رَاتِــــقِ الفَتْـــقِ”

إعداد: د. محمد الهاطي

نوقشت برحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة سيدي محمد بن عبد الله، أطروحة جامعية لنيل شهادة الدكتوراه بعنوان: ” فَاتِقُ الرَّتْقِ عَلَــى رَاتِقِ الفَتْقِ” للشيخ المصطفى ماء العينين بن محمد فاضل بن مامين الحسني الإدريسي(ت 1328 هـ/ 1910م) تحقيق و دراسة.

 أعدها الطالب الباحث: حمزة الرشيد، تحت إشراف الأستاذين: الدكتور خالد سقاط والدكتور عبد الوهاب الفلالي، وذلك يوم الخميس 04 دجنبر2014، على الساعة الثالثة عشية.

  استُهِلت المناقشة بكلمة السيد رئيس اللجنة الأستاذ الدكتور المفضل الكنوني، الذي أكد على أهمية كتاب فَاتِــقُ الرَّتْقِ عَلَى رَاتِقِ الفَتْقِ من الناحية التاريخية والأدبية والصوفية خاصة وأنه من تأليف أحد أعلام التصوف بالجنوب المغربي الشيخ المصطفى ماء العينين، وقبل أن يُحيل الكلمة على الطالب الباحث لتلاوة تقريره، قدم الرئيس أعضاء اللجنة العلمية التي ستناقش العمل والمشكلة من الأساتذة: الدكتور خالد سقاط مقررا، والدكتور عبد الوهاب الفيلالي عضوا، والدكتور محمد الظريف عضوا.

وقد حاول الطالب الباحث من خلال تحقيقه لهذا الكتاب تسليط الضوء على المشروع التربوي والإصلاحي للشيخ ماء العينين الذي يتأسس –حسب الباحث- على مبدأ توحيد المجتمع بمختلف أطيافه، لتجتمع الأمة وتنصهر في إطار مرجعي متين وثوابت موحدة، فتذوب مع هذه الوحدة الروحية جميع الاعتبارات العرقية والقبلية والطبقية والطائفية، وتتعمق تبعا لذلك الروابط الاجتماعية ويتقوى التماسك والتمازج بين مختلف أطياف المجتمع.

كما أكد صاحب العمل على أن العالم المجدد الشيخ أبو الأنوار ماء العينين قد بلغ مرتبة الاجتهاد الروحي الذي هو صنو الاجتهاد التشريعي، فلم يكن مقلدا لمذهب تربوي معين بل آخذا بجميعها، فشكل مدرسة للانبعاث الروحي والتربوي الإصلاحي، حيث مزج بين الاجتهاد من أجل التأهيل الروحي والأخلاقي، وسلوك دروب التعليم والتحصيل، وضروب التأليف والتصنيف، والجهاد والمجاهدة للدفاع عن الدين والوطن… مما أهله للاضطلاع بوظيفة التربية والتزكية في أكمل صورها، فسد بذلك وظيفة مركزية من وظائف التجديد في الدين.

كما تحققت فيه المعرفة والتنوير، والعلم بالأحكام والتمكن من مقتضيات وشروط تنزيل هذه الأحكام، وهذا لا يتم إلا لمن رزق نورا يعرف به النفوس ومراميها، وتفاوت إدراكها وقوة تحملها للتكاليف، مما ميزه عن غيره، وأهله للانخراط بفاعلية في إصلاح مجتمعه بوعي وتبصر، متوخيا إصلاح الفرد والمجتمع، بإصلاح الظاهر والباطن في تواشج وتكامل. فاستكمل بذلك شروط العالم الرباني.          

فوتح الشيخ ماء العينين بمعاني ولطائف رَتَقَها في منظومته البديعة “راتق الفتقِ”، ونسج معانيها ومبانيها على مقام الجمع والفرق، وحال الرتق والفتق، فرأى أن أحوال العباد جارية بين متسبب ومتوكل، ومجتمع ومفترق، فظهرت أحوالهم بمظاهر التفرقة، وهي في حقيقة الأمر مجتمعة، وهذا مقام جمع الجمع الذي تظهر فيه الاشارات الكونية، كأنها شيء واحد لا فرق فيها ولا بعد، فتفنى الفوارق والتلونات، وتنمحي الكثرة والتفصيلات، مثل الشجرة في النواة. وجاء شرحه لهذه المنظومة فتقاً وفتحا لمغاليق معاني المنظومة ومفرداتها، ففَتَقَ معاني المنظومة “راتق الفتق” بشرحه “فاتق الرتق”، واستعرض الوجوه الدلالية لمكونات المعجم اللغوي لمفردات المنظومة، وتوسع في تشقيق دلالات أبياتها ومعانيها، التي جاءت غريبة المعاني، وبديعة المباني؛ لعدم تلاصق حروفها.

وذكر الباحث أن من بين البواعث التي دفعته إلى اختيار هذا كتاب ” فَاتِق الرَّتْقِ عَلَى رَاتِقِ الفَتْقِ ” مشروعا للبحث:

1- اقتناعه بأن الاشتغال بالتحقيق يشكل أحد أهم مقومات حفظ الذاكرة، وحفظ الهوية المغربية، من خلال حفظ رموز الأمة والاعتناء بتراثها، خاصة في زمن العولمة وتنميط الفكر البشري، ومحو الخصوصيات الفكرية والدينية للأمم، مما يتسبب في ضياع الإنسان أمام التسيب الفكري وإطلاق العنان للأفكار الهدامة، باسم الحرية الفكرية وحرية المعتقد، التي تفتك بالمجتمعات وتقطع أواصره وروابطه، وتفتت لحمته وسداه.

2- محاولة حمل هم اكتشاف بعض ذخائر الحركة العلمية في المدرسة المعينية من خلال فن التحقيق، ومما شحذ همتي وأذكى نشاطي للاشتغال بهذا الموضوع، أن كثيرا من مؤلفات رواد هذه المدرسة لا تزال مغمورة على الرغم من باعهم الطويل في شتى العلوم، بعد أن طال جزءا كبيرا من تراث الأقاليم الصحراوية الضياعُ، فخزانة زاوية الشيخ ماء العينين بالسمارة كانت تضم عشرة آلاف كتاب، علما بأنه لا يمكن إنجاز أي دراسة تأصيلية تأسيسية للفكر التربوي المغربي، دون استحضار الرصيد التي يمثله هذا التراث المخطوط.

3- أهمية الموضوع الذي يعالجه كتاب” فَاتِق الرَّتْقِ عَلَى رَاتِقِ الفَتْقِ “، والذي يصنف ضمن مصادر التصوف المعيني، حيث أثار فيه الشيخ ماء العينين قضايا إصلاحية تربوية وتوجيهية سلوكية، في تناءٍ عن الأفكار التجريدية الغارقة في المثل الصعبة التطبيق، وإقبال على المبادئ التربوية ذات الصبغة العملية والواقعية، مبرزا بجلاء أهمية البعد التربوي في البناء المجتمعي، وتحقيق تلاحمه الروحي ووحدته المذهبية وسلامته وأمنه النفسي والعقدي.

وقد اعتمد الطالب الباحث في تحقيق هذا المتن على ثلاث نسخ، وهي كالآتي:

أ-مخطوط الخزانة الحسنية :

مسجل تحت رقم 5033، يوجد ضمن مجموع يضم كتاب” فاتق الرتق “و كتاب “نعت البدايات وتوصيف النهايات”، يبتدئ كتاب فاتق الرتق من الصفحة الأولى من المجموع، وينتهي في الصفحة 224.

    انتهى الشيخ أحمد بن الشمس بن المختار من نسخ الكتاب يوم الأربعاء السابع عشر من رمضان سنة تسع وتسعين ومائتين وألف للهجرة. وقد جعلت هذه النسخة أصلا ورمزت لها بحرف “أ “ـ

ب- طبعة حجرية خاصة :

النسخة الثانية وهي طبعة حجرية، حصلت عليها من الخزانة الخاصة للشيخ أحمد الهيبة بن محمد اﻹمام بتزنيت، ورمزت لها بحرف “ب”ـ

ج- طبعة حجرية بخزانة القرويين:

النسخة الثالثة هي طبعة حجرية بخزانة القرويين، مسجلة تحت رقم 11064 ، رمزت لها بحرف “ج”ـ

طبعت هذه النسخة بمطبعة الحاج الطيب الأزرق، في أواخر ذي الحجة الحرام عام تسع وثلاثمائة وألف للهجرة.

كما سلك الباحث منهجية في التحقيق اتبع من خلالها الخطوات الآتية:

–        نقل محتوى الكتاب من المخطوط إلى المطبوع معتمدا على النسخة “أ”، مع تحديد أرقام الصفحات ليسهل الرجوع إلى الأصل.

–        مقابلة النسخة المعتمدة بالنسخ الأخرى، بتتبع الفروق والتحريفات والتصحيفات الفاحشة والزيادة والسقط، والإحالة في ذلك على الهامش، كما تمت الاستفادة من المصادر التي اعتمدها المؤلف.

–  في مرحلة التخريج تم التحقق من الآيات القرآنية الكريمة، ببيان موضعها وإثبات اسم السورة ورقم الآية.

–   تخريج الأحاديث النبوية الشريفة، والإحالة على مصادرها من مظان الحديث المعتمدة.

–  توثيق المادة الشعرية بالتأكد من نسبة الأبيات لقائلها، بالتخريج من دواوين الشعر، أوالمصادر الأدبية مع الوقوف على اختلاف الروايات.

–   توثيق النقول والمرويات والإحالة على مصادرها وأصولها.

–  شرح المصطلحات الصوفية والمفردات المبهمة، اعتمادا على كتب المصطلح الصوفي، التي من بينها كتاب “الإيضاح لبعض الاصطلاح” للشيخ ماء العينين.

–  أثناء التوثيق تم تقديم اسم الكتاب على اسم المؤلف، ليتبع باسم المحقق، ودار النشر ومكان النشر، ورقم الطبعة والتاريخ، ثم رقم الجزء والصفحة.

أما عن المنهجية المتبعة في الدراسة فيمكن تلخيصها في الأتي:

بعد عملية الإخراج والتحقيق انتقل الطالب في عمله إلى قسم الدراسة، الذي اشتمل على بابين: الباب الأول خصصه للتعريف بالمؤلف، والسياق التاريخي والسياسي والثقافي والديني للطريقة المعينية، وقسمه  هذا الباب إلى فصلين:

الفصل الأول قسمه إلى ثلاثة مباحث، اختصت بدراسة عصر الشيخ ماء العينين من الناحية السياسة التاريخية والثقافية الدينية، وتولى الفصل الثاني التعريف بالشيخ المصطفى ماء العينين، وبسط سيرته ومساره العلمي والتربوي، والتعريف بمنجزاته وآثاره العلمية وبيان مكانته، وجاء ذلك في مبحثين مقسمين إلى ثلاثة مطالب.

وفي سياق تقريب كتاب: ” فَاتِق الرَّتْقِ عَلَى رَاتِقِ الفَتْقِ ” من القارئ منظومة وشرحا، فقد تولى الباب الثاني بيان معالم المنهج التربوي والإصلاحي في فكر الشيخ ماء العينين، من خلال الكتاب موضوع التحقيق، وجاء ذلك في ثلاثة فصول، ومن أجل وضع موضوع البحث في سياقه العام، فقد تناول المبحث الأول من الفصل الأول ظاهرة الشروح الصوفية ومقصديتها التوجيهية التربوية، في حين فصل المبحث الثاني الحديث عن بعض ملامح المنهج التربوي الإصلاحي، مستعرضا أسسه وخصائصه، ليتناول الفصل الثالث الحديث عن عنوان المؤلَّف ودوافعِ التأليف، وقيمته الدينية والأدبية واللغوية، ومنهج المؤلِّف ومحتويات الكتاب ومصادره.

 كما أرفق الطالب الباحث هذه الدراسة بملحق الوثائق التاريخية والصور، وفي الأخير تم تذييل النص بجملة من الفهارس قصد تيسير التداول العلمي للمعطيات.

ومن بين النتائج التي خلص إليها هذا العمل:

-إبراز جوانب من تاريخ المنطقة الديني والاجتماعي والثقافي والسياسي بالتركيز على الإسهامات العلمية والتربوية والوطنية، التي اضطلعت بها المدرسة المعينية في شخص مؤسسها، نهاية القرن 19 وبداية القرن العشرين.

-التعريف بتراث الشيخ ماء العينين الذي أسهم بشكل كبير ومتميز في حقل المعرفة الإسلامية بمصنفات بلغت الأربع مئة توليف، كان ومازال لها بالغ الأثر في الحفاظ على الهوية الدينية والثقافية والوطنية للمغاربة، وكذا التعريف ببعض أعلام الصحراء الذين تخرجوا من مدرسته التربوية.

-استقصاء بعض ملامح ومعالم المنهج التربوي الإصلاحي في فكر الشيخ، الذي كان أساس قيام مشروعه، والذي امتاز ببعده العملي الواقعي واتسم بالتكامل والانسجام، بجمعه بين العلم والعمل والجهاد والمجاهدة والإصلاح والتصالح والتجرد والتسبب وفقه الظاهر وفقه الباطن، وبعده عن التجزيء والتجريد والإغراق في الحكمة العرفانية الإشراقية، بالوقوف عند آداب الشريعة والتربية على مكارم الأخلاق، فشكل بذلك مدرسة أخلاقية تربوية إصلاحية سنية، ومركزا ثقافيا وعلميا يرتاده التلاميذ والمريدون والعلماء والصوفية.

-إثراء الخزانة المغربية بهذا المتن من التراث الصوفي، الذي امتاز ببعده التربوي الأخلاقي والإبداعي الجمالي، رصد فيه المؤلف دفقا كبيرا من النصوص والأدلة والاستشهادات، لكي يكون وقعها على النفوس قويا، فأراد من خلال ذلك أن يقول أن ما أورده في قصيدته مؤسس على علوم برهانية ثابتة متفق عليه بين أهل العلم، كما استهدف بكلامه عامة الناس وخاصتهم، لأنه كان يرى أنه لا يخلو أحد من الناس في الغالب إلا ويحتاج إلى تقويم سلوكي وأخلاقي، إن لم يكن ظاهرا فسيكون باطنا. 

-تأليف هذه المنظومة جاء نتيجة لاستغراق الشيخ ماء العينين في مقام الجمع والفرق وقد تمكن من تنزيل معاني هذا المقام في قالبين:

قالب أدبي شعري إبداعي وجمالي متمثل في المنظومة “راتق الفتق” وهي المتأتية من عالم الملكوت أو مقام الجمع، وقالب تربوي تعليمي إصلاحي متمثل في الشرح الذي صدر من عالم الملك أومقام الفرق، ولا شيء من عالم الملك أقربُ إلى عالم الملكوت من مكارم الأخلاق، لأنها أسرار ملكوتية متجلية في مظاهر ملكية، والشيخ ماء العينين حينما دعا إلى الأخلاق فإنما دعا إلى هذه المعاني والأذواق. لذا احتاجت القصيدة إلى الشرح احتياج مقام الجمع للفرق، والرَّتق للفتق، والتوكل للتسبب.

  -كان تنزيل معاني مقام الجمع والفرق الذي عاشه المؤلف، مراعيا لخصوصيات واقع فكري وثقافي واجتماعي مخصوص، حضر فيه هاجس إصلاح المنظومة الفكرية والأخلاقية للمجتمع، فعالج هذا الواقع من  منظور أخلاقي وتربوي مستغنيا عن جميع الثنائيات الدائرة في فلك مقام الجمع والفرق، ليفرغ معاني هذا المقام في ثنائية التوكل والتسبب، حيث أن التوكل جمع، ومعاملة قلبية مع الحق، والتسبب فرق ومعاملة ظاهرية مع الخلق، ومن ثم تحكَّم مقام الجمع والفرق في شكل القصيدة وفحواها، فاجتمعت فيها الوظيفة الابداعية الجمالية التأثيرية بالوظيفة التربوية الأخلاقية التعليمية.

-وثق الشيخ ماء العينين تجربته الروحية، ونجح في ربط هذه التجربة بالكتابة بل وخلق علاقة تفاعلية بينهما، فالكتابة الصوفية جزء من التجربة، وإن كانت الكتابة لاتفصح عن حقيقة التجربة، ولا تعبر إلا عن جانب منها.

  من خلال هذا يمكن أن نقول أنه كانت لقوة نفوذ الشيخ أبي الأنوار ماء العينين الروحية، ومشاركاته العلمية، واضطلاعه بأدوار جهادية ووطنية، دور في سموق وسنو هذه الشخصية، فكان بحق محتسب العلماء والصوفية على السواء.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق