تقريب نظم ابن عاشر شذرات من شرح العلامة الشيخ أبي عبد الله محمد بن قاسم جسوس على توحيد ابن عاشر(11)

وقوله: "بالصفات"؛ أي لا بالكنه؛ إذ لا يَعرف الله إلا الله، وفي المراصد:
وليس يعرف حقيقة الإله على الأصح دون تقييد سواه
وقد أتى النهي عن التفكر فيها فحقق راشدا في الأثر
وأما قوله: "مما عليها نصب الآيات"؛ أي الكائنة من الصفات التي نصب الله عليها الآيات، فقوله: من الصفات، في محل النعت لقوله بالصفات، أو حال منها أي كائنة من الصفات إلخ. ومعنى نصب عليها الآيات؛ أقام عليها البراهين والأدلة العقلية أو النقلية، فالمراد الآيات المتلوة والآيات المجلوة وهي المصنوعات، وسيأتي في مبحث البراهين أقسام المكونات إن شاء الله تعالى.
وتَحَرَّز بقوله: "مما عليها" إلخ، من صفاته تعالى التي عجزنا عن معرفتها؛ لأنه لم يقم عليها دليل عقلي ولا نقلي، فإن معرفته تعالى بها مما لا يجب علينا، ولا نُؤاخذ به بفضل الله تعالى.
وقد قسم القرافي في قواعده الجهل إلى عشرة أقسام، أحدها لا نؤمر بإزالته أصلا ولا نؤاخذ ببقائه؛ لأنه لازم لنا لا يمكن الانفكاك عنه، وهو جلال الله تعالى وصفاته التي لم تدل عليها الصنعة، ولا يقدر العبد على تحصيلها بالنظر، فعُفِي عنه للعجز عنه، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك)، وقول الصديق رضي الله عنه: (العجز عن الإدراك إدراك). وانظر بقية الأقسام العشرة فيه، فإن معرفتها مما يتأكد على الطالب كما قال الإمام المنجور في حواشي الكبرى وقد نقلها.
وفي هذا إشارة إلى أن كمالاته تعالى لا تنحصر في الصفات التي ذكرها بعد، بل كمالاته لا نهاية لها كما قال في شرح الصغرى، وقال السيد أبو يحيى الشريف أنه الظاهر من الأحاديث.
قال سيدي عبد الرحمن الفاسي: يعني كحديث: (لا أحصي ثناء عليك)، وإلهامه محامد، وكذلك: (أسألك بكل اسم هو لك) [1] الحديث. وقا تعالى: ﴿قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي﴾[2] الآية، ﴿ولو أنما في الارض من شجرة أقلام﴾ [3] الآية.
وقال ابن زكري:
والعقل لا يحيط بالجلال وما لربنا من الكمال
يعلمه هو بلا نهايــــة لا العقل فالحد له والغاية
وقال في المراصد:
وليس كل واجب في حقه نعرفه هيهات علم خلقه
فليس للكمال من نهــــاية وللعقول منتهى وغاية
وقال ابن عرفة:
ألا إن إدراك الحقيقة معجز وإدراك نفس العجز عين الحقيقة
كما قاله الصديق أول قائل بفكر سديد أو بحسن بديهـــــــــة
لذا ثبت التكليف في متكرر وبالله أكبر فانتبه لمقالـــــــــــــة
فكل كمال بالحقيقة كائــــن له وانتفاء النقص قل باستحالة
وليس لأنواع الكمال نهاية في الآثار إمكان التسلسل حجة
والشاهد في قوله: وليس لأنواع إلخ. وبيان الحجة أنه إذا أمكن التسلسل وصح في الآثار مع كونه ملزوما لدخول ما لا نهاية له في الوجود دفعة واحدة، فكذا يصح نفي النهاية في الكمالات وإن كان ملزوما لذلك، وإذا قيل بصحة الأول مع كونه ملزوما لما ذكر، فليُقَل بصحة الثاني أيضا وإن كان ملزوما لذلك. انتهـى كلام سيدي عبد الرحمن.
لكن قال صاحب المراصد في محاذيه ما حاصله: غاية هذا إمكان ذلك، والمقام يقتضي دليل حصوله في الوجود، فلا بد من دليل سمعي فيما هذا سبيله، فإذا لم يوجد تعين الوقف، فلا يحكم بِتَنَاهٍ ولا عدمه لعدم الدليل في الجانبين، فإنه لا قاطع بعدم [التناهي]؛ ولأن دليل التناهي المقرر بلزوم التسلسل لا ينهض هنا، فإنها كلها قديمة موجودة وجودا واحدا من غير ترتيب، وذلك الدليل -كما قال ابن التلمساني ونقله في شرح الكبرى في مبحث وحدة الصفات- إنما قام على استحالة ما لا يتناهى من الحوادث، ولا يطرد في القديم، وإنما يطرد أيضا في العلل المترتبة، وأما ما لا ترتيب فيه فلا يجري فيه، والتسلسل في الآثار -وهو كون أمر يقتضي أمرا ويستلزمه- لاستحالة فيه ككون الذات ملزوما لما يتناهى من الكمالات الوجودية، والحاصل أن قولهم ليس للكمال نهاية إن كان المراد بحسب إدراك العقول، بمعنى أنها لا تنتهي في التعقل إلى حد لا يتصور أن يكون وراءه كمال آخر فلا إشكال؛ قال تعالى: ﴿ولا يحيطون به علما﴾[4]. وإن كان المراد أنها لا تتناهى في أنفسها بحسب نفس الأمر ففيه ما تقدم. انتهـى.
ثم قال سيدي عبد الرحمن متصلا بما تقدم عنه ما نصه: وفي بعض شروح الإرشاد ذهبت طائفة من المنتمين إلى التحقيق إلى أنه تعالى يخالف خلقه بصفات نفسية لا نهاية لها، وهو المعبر عنه بالجلال والعظمة، وقالوا إنما يمتنع أن يكون ما لا نهاية له إذا كانت موجودات، وأما إذا كانت أحوالا فإن ذلك غير ممتنع؛ ولذلك لا يجوز أن يقال أن جلال الله منحصر في عدد. انتهـى.
وصفات الجلال من الصفات الجامعة الصادقة بالثبوت وبالتنزيه، ولكن التنزيهات مندرجة في المخالفة، وإلا لم تُعَد المخالفة صفة واحدة، ثم المخالفة مندرجة في الوحدانية، والحاصل أن الذات واحدة، والتعدد باعتبار صفاتها النفسية ووجوه تجلياتها الأسمائية، وهي غير متناهية ولا منحصرة، وبسبب ذلك وقع التفاوت في المعارف، وامتنعت الإحاطة، وجاز الترقي في المعرفة أبد الآباد، والله أعلم. انتهـى.
فالعقول عاجزة عن إدراك معاني أسمائه كالخالق والرزاق والمعطي والمانع والمعز والمذل؛ لأنها معان غير متناهية ولا محدودة، فإن خَلقه لا يتم ولا يقف عند حد، ورزقه كذلك، وإعطاؤه لا ينفد ولا ينتهي إلى غاية، وقس على هذا، واحمل على هذا قوله تبارك وتعالى: ﴿تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام﴾[5]، و ﴿سبح اسم ربك الأعلى﴾[6]؛ أي تنزه ونَزِّهه عن إدراك الأفهام وإحاطة الأفكار والأوهام، وإذا عجزنا عن إدراك الاسم فكيف بالمسمى، هذه السماوات والأرضون والعرش والكرسي وما أحاطت به أثرُ قدرته وإرادته، فما ظنك بقدرته وإرادته، فما ظنك بذاته، فهو تعالى منزه عن معرفة كل عارف، وتوحيد كل موحد، وإدراك كل مدرك، ومشاهدة كل مشاهد بلا إحاطة، ولا ما يقرب من الإحاطة، ولا ما يقرب مما يقرب من الإحاطة، الحادث لا يُدرِك القديم، ما للتراب ورب الأرباب، ولما علم الحق سبحانه عجز خلقه عن معرفة جلاله وإدراك كماله أجمل الكل في قوله: ﴿وما قدروا الله حق قدره﴾[7]؛ أي ما عرفوه حق معرفته، ثم ردهم إلى شهود عظمته في مرآة الأفعال، فقال: ﴿والأرض جميعا﴾[8] الآية. فالحق تعالى لا ينعت على مقداره؛ لأن كل ناعت يُشرف على المنعوت، وجل ربنا أن يشرف عليه مخلوق.
وقد علم من هذا أن معرفة الله تعالى عامة وهي التي أشار إليها الناظم، وهي شاملة لسائر المؤمنين من الجن والإنس، وخاصة وهي للخواص، وهي كما قال الشيخ زروق سريان العلم بجلال الله أو جماله أو كل منهما في كلية العبد حتى لا تبقى له من نفسه بقية، فيشهد كل شيء منه وبه وله، فمعرفة الله تعالى عائدة لتعظيمه؛ إذ حجاب العزة مانع من معرفة حقيقته. انتهـى. أنظر نص كلامه فيما يأتي عند قول الناظم: فاشغل بها العمر.
وقول الناظم: "مما عليها نصب الآيات"، زائد على قول الصغرى: أن يعرف ما يجب إلخ، فإن قوله: "ما يجب" يقتضي أنه يجب معرفةُ جميع كمالاته تعالى، ولذلك أتى بمِن التبعيضية في قوله: مما يجب إلخ، وإن أجيب بأنه أراد ب "ما" الأولى الواجبات التي دل عليها الدليل وب "ما" الثانية ما هو أعم، ولذلك أتى بمِن معها.
الهوامش:
[1]- جزء من حديث في مصنف ابن أبي شيبة، كتاب الدعاء، باب ما قالوا في الرجل ما يدعو به إذا أصابه هم أو حزن، رقم: 29930. وجزء من حديث أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب الدعاء، والتكبير، والتهليل، والتسبيح والذكر، رقم: 1877.
[2] - سورة الكهف، الآية: 109.
[3] - سورة لقمان، الآية: 27.
[4] - سورة طه، الآية: 110.
[5] - سورة الرحمن، الآية: 78.
[6] - سورة الأعلى، الآية: 1.
[7] - سورة الزمر، جزء من الآية: 67.
[8] - سورة الزمر، جزء من الآية: 67.