تقريب نظم ابن عاشر شذرات من شرح العلامة الشيخ أبي عبد الله محمد بن قاسم جسوس على توحيد ابن عاشر(7)
ووجدت بخط شيخنا المحقق العلامة أبي عبد الله سيدي محمد بن زكري رحمه الله تعالى ما نصه: "ليس المقلد هو التارك للنظر في الأدلة العقلية خلافا لجمهور المتكلمين، وإنما هو التارك للنظر في ثبوت رسالة الرسول، كمن وُلد بين ظهراني قوم مؤمنين، وسمع اسم النبي صلى الله عليه وسلم وفضله على الجملة، ولم يخالط أهل العلم ولا من خالطهم، فلم يعرف معجزة من المعجزات المُثبِتة للرسالة، وأما من ثبتت عنده الرسالة بالمعجزات المتواترة فاستناده إلى قول الرسول المتواتر كاف له في عقائده، بل هو أقطع من كل برهان ذكره المتكلمون، فإن قيل: هذا ظاهر في غير ما تتوقف عليه دلالة المعجزة على صدق الرسول، أما هو كالوجود والقدم والبقاء والغنى ومصححات الفعل فلا للدور. قلت: هو وإن ذكروه غيرُ ظاهر؛ إذ المتوقف على اتصاف الفاعل للخارق بذلك هو وجود الخارق في نفس الأمر، لا دلالته على صدق الآتي به؛ فإن المشاهدين لانشقاق القمر مثلا يستفيدون من ذلك صدق المتحدي به قطعا، وإن فرضنا أنهم غافلون عن اتصافه تعالى بتلك الصفات غير مستحضرين له، والمتوقف على السمع العلم بتلك العقائد، فالجهة منفكة. فإن قيل: العلم كان حاصلا عندهم، ولو سئلوا عن فاعل هذا الخارق هل هو قادر لقالوا نعم، ولا يلزم من العلم حضوره. قلنا: ذلك العلم مع صدق الرسول مستفاد من الخارق دفعة واحدة". انتهى.
وفي البكي بعد كلام له في التقليد: "ثم إن محل النزاع كما نص عليه أبو منصور الماتريدي وسعد الدين ليس الذين نشأوا في ديار الإسلام من الأمصار والقرى والصحاري، وتواتَر عندهم النبي صلى الله عليه وسلم وما أتى به من المعجزات، ولا في الذين يتفكرون في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار؛ فإنهم كلهم من أهل النظر والاستدلال، بل فيما نشأ في شاهق جبل مثلا، ولم يتفكر في ملكوت السماوات والأرض، فأخبره إنسان بما افترض عليه اعتقاده، فصدقه فيما أخبره بمجرد إخباره من غير تفكر ولا تدبر". انتهى.
وقد أشار إلى هذا في المراصد بقوله:
ومذهب المحققين أنه مستنذر الوقوع والمظنة
له بلاد لم تصلها الدعوة أو لم تكن لها هناك قوة
وذلك الناشئ فيها ما اعتبر في خلق هذا الخلق يوما أو نظر
حتى إذا لقيه وأخبره بالحق صدق وشيك أخبره
فأعملَ الجزم وأهملَ النظر فذا محل ما مِن الخُلف اشتهر
قوله: "ومعرفةُ مدلول إلخ" بالرفع عطفا على اعتقاد، وهو خارج من اعتقاد المذكور في الحد. قال سيدي أحمد المنجور: "وقد يقال هو خارج بقوله: لقول غير معصوم؛ لأن معنى الحد أن التقليد أن يجزم بالشيء اتباعا لقول غير المعصوم وأخذا منه، ومعرفةُ مدلول الشهادتين بالدليل التفصيلي أو الإجمالي إنما اتبع فيها الدليل، ومنه أخذها لا من قول غيره، وكذا ما اعتقده من قول المعصوم من حيث هو معصوم ليس بتقليد بل معرفة؛ لأنه لما أخذه منه وجزم بصحته وصدقه من تلك الحيثية فبالحقيقة إنما اتبع فيه دليل الصدق الذي هو المعجزة، وقد يُقوّي هذا الاحتمال مَن وصف الاعتقاد بالجازم، فدل على أنه أراد ما يشمل الظن والعقد والعلم لا الاعتقاد المصطلح عليه؛ إذ لا يكون إلا جازما، ولسلامته من الإخراج بالجنس". انتهى. وقال قبل هذا: "وقد حقق ابن عرفة هذا الحد بزيادة قوله: غير معصوم، وغيره يقول في حده: هو أخذ قول الغير بغير دليل، أو اتباع الغير واعتقاد صحة ما يقوله من غير دليل ولا حجة، أو العمل بقول غيره من غير حجة، وهذه الحدود وإن كان يخرج بها قول الرسول والإجماع فيما لا تتوقف دلالة المعجزة عليه كما يخرج بحد ابن عرفة، لكن يَرِد عليها عمل العامي بقول المفتي في الفروع لاستناده إلى حجة، كقوله تعالى: ﴿فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون﴾[1]، فيقول العامي هذا أفتاني به المفتي، وكل ما أفتاني به المفتي فهو حكم الله في حقي، فينتج: حكم الله في حقي، والصغرى ضرورية، والكبرى إجماعية، فيلزم أنه ليس من التقليد، وهو مخالف لاصطلاح جميع الأصوليين والفروعيين؛ ولهذا قيل إن تلك التعاريف وشبهها للتقليد اللغوي لا الاصطلاحي. واعترض على ابن الحاجب تعريفه في أصوله بذلك؛ لكونه بصدد بيان الاصطلاح لا اللغة". انتهى.
الهوامش:
[1] - سورة النحل، الآية: 43.