مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات عامة

تقريب الحكم العطائية من خلال غيث المواهب العلية في شرح الحكم العطائية

تعتبر الحكم العطائية من المصادر المهمة التي لخصت لعلم التصوف حالا ومقاما، إذ ركزت بشكل كبير على البعد المقاصدي من الممارسة الصوفية بخصوصيتها، إذ لخص فيها ابن عطاء الله السكندري شروط سلوك الطريق إلى الله تعالى في دقة وإفادة، بجمالية متميزة، وقد كان الشيخ ابن عطاء الله السكندري مريدا للشيخ أبي الحسن الشاذلي رحمه الله تعالى، الذي عرفت طريقته بمقدرتها على توليد المعاني بشكل رائق، ويكاد يجمع علماء الأمة على فعالية الحكم العطائية في تسطير حدود السلوك السني الذي ينحو بنا إلى مقام الإحسان؛ مرتبة الكمال من مراتب الدين الإسلامي. وقد جاءت الحكم العطائية كما يعلمها الجميع جامعة مانعة ومختصرة في أسلوب رائق وراق، فمبناها ومعناها مؤصل من كتاب الله عز وجل ومن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومما يدل على ذلك تضمينه آيات بينات من الذكر الحكيم في حكم متعددة، مؤكدا بذلك على مرجعيته الملتزمة بالكتاب والسنة، كما أنها سابرة لأغوار النفس البشرية، منبهة لهفواتها بقصد الانتباه لها وتجاوزها وذلك بالترقي في مقامات خلقية غايتها التحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل، وتلك غاية الممارسة الصوفية التي تنبه إلى زلات النفس وتروم إصلاحها لبلوغ الترقي في الأخلاق وهو المراد من الدعوة المحمدية لقوله عليه الصلاة والسلام: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”[السنن الكبرى، البيهقي، كتاب الشهادات، باب بيان الأخلاق ومعاليها، رقم: 20782.]، لذلك فقد كان كتاب الحكم العطائية مقبولا عند متصوفة الزمان وغيرهم لما يحويه من بعد تربوي تحتاجه الأمة الإسلامية على مر العصور. ولأهمية هاته الشروح فقد ارتأيت أن أتطرق لشرح من هذه الشروح بالدراسة وهو شرح  الإمام الرندي رحمه الله منبهة بذلك على بعض جهود علماء القرويين في تقريب الحكم العطائية على اعتبار أن ابن عباد الرندي كان واحدا من أعلامها وعلمائها، وسيتم ذلك وفق الخطوات الآتية:

ــ التعريف بابن عباد الرندي

ــ التعريف بابن عطاء الله السكندري

ــ جرد لبعض شروح الحكم العطائية

ــ التعريف بمؤلف “غيث المواهب العلية في شرح الحكم العطائية مع قراءة في عنوانه

ـــ منهج ابن عباد الرندي في مؤلفه “غيث المواهب في شرح الحكم العطائية.”

ترجمة ابن عباد:[1] 

تعرض محقق غيث المواهب العلية في شرح الحكم العطائية لترجمة الشيخ ابن عباد الرندي، ولا بأس من أن أذكرها باختصار مكتفية بالقدر الذي يفي بالتعرف على هذا العالم الجليل، معتمدة في الآن ذاته على تأليف العلامة الزبادي رحمه الله” إفادة المرتاد بالتعريف بالشيخ ابن عباد”، وهو كتاب ضمنه صاحبه سبع تراجم وردت في حق ابن عباد رحمه الله، دون تلخيص أو تصرف، لما ارتآه من زيادة فوائد للمطلع عليها. وهي للعلماء الآتي ذكرهم:

ترجمة محمد الحضرمي، أحمد زروق، أحمد المقري، ابن قنفد، أبو يحيى السكاك، أبو مسعود الهراس، وأحمد الونشريسي.

مولده ونشأته:   

ولد رضي الله عنه ببلدة رندة سنة سبعمائة وثلاثة وثلاثين(733هـ)، ونشأ بها على أكمل طهارة وعفاف وصيانة، وحفظ عن أبيه القرآن وغيره وهو ابن سبع سنين، وعن خاله الشيخ الفقيه القاضي عبد الله اليفريسني العربية وغيرها، ثم تشاغل بعدُ بطلب العلوم النحوية الأدبية والأصولية والفروعية حتى رأس فيها وحصل معانيها، ثم أخذ  في طريق الصوفية والمباحثة عن الأسرار الإلهية حتى أشير إليه، وتكلم في علوم الأحوال والمقامات والعلل والآفات، وألف فيها تآليف عجيبة وتصانيف بديعة، وله أجوبة كثيرة في مسائل العلوم نحو مجلدين، ودرس كتبا أو حفظها أو جلها محفوظاته كمقامات الحريري و “فصيح تعلب” وقوت القلوب وغيرها.

شيوخه:

كان ابن عباد رحمه الله يحب طلب العلم حيث حط بمدينتي تلمسان وفاس، قرأ بهما الفقه والعربية والأصول، كما حظي بمحبة أهل فاس وبتقديرهم واحترامهم فتولى منصبي الإمامة والخطابة بجامع القرويين لمدة خمسة عشر عاما حتى اعتبر بمثابة الإمام الشافعي بمصر[2]. وبعد مكوثه في مدينتي فاس وتلمسان، عاد ابن عباد الرندي رحمه الله لمدينة سلا، فصحب أفضل أهل زمانه علما وعبادة، سيدي أحمد بن عاشر رحمه الله الذي كان يشيد بذكره، ويقدمه على سائر أصحابه، ويأمره بالأخذ عنه والانتفاع به، إذ يقول: “ابن عباد أمة واحدة.”[3] كما لقي الشيخ أبا مروان عبد الملك فلزمه كثيرا وقرأ عليه وسمع منه كثيرا، وانتفع به انتفاعا عظيما في التصوف وغيره وأجازه إجازة عامة، كما أخذ عن خاله الشيخ الفقيه عبد الله الفريسي العربية وغيرها، وعن الشيخ المقري كثيرا من المختصر الفرعي، وعن عبد النور العمراني الموطأ والعربية، كما أخذ علوما كثيرة على شيوخ أجلاء منهم أبو عبد الله الشريف التلمساني، والشيخ أبو المهدي المصمودي وغيرهم.[4]

أقوال العلماء في ابن عباد انطلاقا من المصدر السابق:

ثناء العلماء على ابن عباد

قال الشيخ زروق في بعض شروحه على الحكم ما نصه: ” لقد سام هذا الكتاب بالشرح جماعة وتكلموا عليه بقدر ما لهم من البضاعة، فكان أحقهم به وأولاهم وأقربهم لتحصيل مقاصده وأدناهم سيد العارفين بالله في زمانه، ونخبة عصره في ذلك، وإبانة نسيج وحده، وعمدة الصديقين من بعده الشيخ الصالح الفقيه والخطيب البليغ النبيه سيدي أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن أبي بكر عبد الله بن محمد بن مالك بن إبراهيم بن محمد  بن يحيى بن عباد النفزي نسبا، المالكي مذهبا، الرندي منشأ ومولدا”.[5]

وقال فيه صاحب السلسل العذب: “الكثيف جلباب الحياء، المكب على ما يعد لدار البقاء، صاحب الصدر السليم والنظر المستقيم … أبو عبد الله سيدي محمد بن عباد من أشد المريدين مروءة وأكثرهم حشمة، وآثرهم للخلوة، وأدأبهم على مطالعة كتب العلماء، ومصنفات الفضلاء…”[6].

قال الشيخ زروق رحمه الله في عدة المريد لما تكلم على القواعد والكتب المعينة على طريق الجادة ما نصه: ” الثاني شهود المنة باستصحاب الشكر. ويجري ذلك في الدفع والجلب، دينا ودنيا، وعلما وعملا وحالا، وعليه مدار طريق الشاذلية، وتحريرها في كتب ابن عطاء الله، وزبدتها في رسائل ابن عباد بل وشرحه وما جرى مجرى ذلك”[7].

قال في حقه الشيخ ابن الخطيب القسنطيني في كتابه” أنس الفقير وعز الحقير: “هو الخطيب الشهير الصالح الكبير، وكان والده من الخطباء الفصحاء، ولأبي عبد الله هذا عقل وسكون، وزهد بالصلاح مقرون، وكان يحضر معنا مجلس شيخنا الفقير أبي عمران العبدوسي رحمه الله تعالى. وهو من أكابر أصحاب ابن عاشر ومن خيار تلامذته، وله كلام عجيب في التصوف”.[8]

2- ترجمة ابن عطاء الله السكندري: (ت709هـ)[9] 

هو الشيخ العارف تاج الدّين أبو الفضل أحمد بن محمد بن عبد الكريم بن عطاء الله الإسكندري[10]، الإمام المتكلّم الشاذلي، كان جامعاً لأنواع العلوم من تفسير وحديث ونحو وأصول وفقه وغيره، وكان متكلماً على طريقة أهل التصوّف[11]، وبخصوص مذهبه الفقهي قال تاج الدين السّبكي: “أراه كان شافعيّاً، وقيل: كان مالكيّاً”[12].وكان في التصوف “شاذليَّ الطريقة ينتمي للشيخ أبي الحسن الشاذلي وأخذ طريقه عن أبي العباس المرسي…”[13].

شيوخه وتلامذته:

تتلمذ ابن عطاء الله على جِلّة من العلماء والعارفين؛ إذ صحِب أبا العباس المُرسي[14] وأخذ عن الشيخ ياقوت الحبشي (ت707هـ)[15] ، كما سمع من الأبرق (ت701هـ) وقرأ النحو على المحيي الماروني[16].

ومن جملة من أخذ عنه، الإمام تقي الدين السُّبكي[17] (ت756)، والشيخ داود بن عمر الشاذلي، والشيخ داود ما خلا[18].

سلوكه طريق القوم

كان الشيخ ابن عطاء الله في أوّل حاله منكراً على أهل التصوف عموماً، وعلى الشيخ أبي العبّاس المُرسي على وجه الخصوص، مفصحا عن ذلك في قوله”…وكنت أنا لأمْرِه من المنكرين، وعليه من المعترضين– يقصد أبا العباس المرسي-  لا لشيء سمعته منه ولا لشيء صحّ نقله حتى جرت بيني مقاولة وبين أصحابه، وذلك قبل صحبتي إيّاه، وقلت لذلك الرجل: ليس إلا أهل العلم الظاهر، وهؤلاء القوم يدّعون أموراً عظيمةً وظاهر الشرع يأباها.فقال ذلك الرّجل بعد أن صحبتُ الشيخَ: أتدري ما قال لي الشيخ يوم تخاصمنا؟ قلتُ: لا. قال: دخلت عليه فأول ما قال لي: هؤلاء كالحجر ما أخطأك منه خير ممّا أصابك. فعلمتُ أنّ الشيخَ كوشف بأمرنا. ولعمري لقد صحِبتُ الشيخ اثني عشر عاماً، فما سمِعتُ منه شيئاً ينكره ظاهر العلم من الذي كان ينقله عنه من يقصد الأذى.

وكان سبب اجتماعي به أن قلتُ في نفسي بعد أن جرت المخاصمة بيني وبين ذلك الرّجل: دعني أذهب أنظر إلى هذا الرجل فصاحب الحقّ له أمارات لا يخفى شأنه، فأتيتُ إلى مجلسه فوجدته يتكلّم في الأنفاس التي أمر الشارع بها، فقال: الأول إسلام، والثاني: إيمان، والثالث: إحسان. وإن شئت قلت: الأول عبادة، والثاني عبودية، والثالث: عبودة. وإن شئت قلت: الأول شريعة، والثاني: حقيقة، والثالث: تحقّق أو نحو هذا فما زال يقول، وإن شئت قلت وإن شئت قلت إلى أن أبهر عقلي؛ وعلمت أن الرجل إنما يغترف من فيض بحر إلهي، ومدد رباني فأذهب الله ما كان عندي، ثم أتيت تلك الليلة إلى المنزل فلم أجد فيّ شيئا يقبل الاجتماع بالأهل على عادتي ووجدت معنى غريباً، لا أدري ما هو؟ فانفردت في مكان أنظر إلى السماء وإلى كواكبها، وما غلق فيها من عجائب قدرته فحملني ذلك على العود إليه مرة أخرى، فأتيتُ إليه فاستؤذن عليّ، فلمّا دخلت عليه قام قائما وتلقاني ببشاشة وإقبال حتى دهشت خجلاً واستصغرت نفسي أن أكون أهلاً لذلك. فكان أوّل ما قلت له: يا سيدي أنا والله أحبك. فقال: أحبك الله كما أحببتني. ثم شكوت إليه ما أجده من هموم وأحزان. فقال: أحوال العبد أربع لا خامس لها، النعمة، والبلية، والطاعة، والمعصية. فإن كنت بالنعمة فمقتضى الحق منك الشكر، وإن كنت بالبلية فمقتضى الحق منك الصبر، وإن كنت بالطاعة فمقتضى الحق منك شهود منّته عليك فيها، وإن كنت بالمعصية فمقتضى الحق منك وجود الاستغفار، فقمت من عنده وكأنما كانت الهموم والأحزان ثوباً نزعته. ثم سألني بعد ذلك بمدة: كيف حالك؟ قلتُ : أفتّش على الهمّ فما أجده ! فقال:

ليلــــــي بوجهـــــــك مشــــــــــــــــــــــــــرق وظلامــــــه في النـــــــاس ســـــــاري
والنــــاس في سُــــــــــدف الظـــــــلام ونحــــــــن في ضــــــــــوء النهـــــــار”[19]

وصار يقول عن كلامه القديم: “كنت أضحك على نفسي في هذا الكلام”. ثم تدرج ابن عطاء الله في منازل العلم والمعرفة حتى تنبأ له الشيخ أبو العبَاس يوماً فقال له:”مخاطباً إياه: “الزم فو الله لئن لزمت لتكوننّ مفتياً في المذهبين” يريد مذهب أهل الشريعة ومذهب أهل الحقيقة[20].

وممّا قال فيه أيضاً: ” والله لا يموت هذا الشاب حتى يكون داعياً يدعوا إلى الله تعالى”[21].

من مؤلفاته[22]:

 1 أصول مُقدمات الوُصول.

 2 تَاج العَرُوس الحاوى إِلى تَهذِيب النُّفُوس.

 3 التَّنْوِير فِي إسقاط التَّدبير.

 4 الحكم العطائية على لِسَان أهل الطَّرِيقَة.

  5 الطَّرِيق الجادة فِي نيل السَّعَادَة.

  6 لطائف المنن فِي مَنَاقِب الشَّيخ أبى العَبَّاس وَشَيخه أبى الحسن.

 7 مُختصر تَهذِيب المدوَّنة للبرادعي في الفقه.

 8 المرقى إلى القَدِير الأبقى.

  9 مفتاح الفلاح في ذكر الله الكريم الفتاح.

وفاته:

توفي رحمه الله بالقاهرة في المنصورية في حادي عشر (11) جمادى الآخرة سنة تسع وسبعمائة[23] (709هـ).

من ثناء العلماء عليه:

قال الإمام الذهبي مثنياً عليه: “…كانت له جلالة عجيبة ووقع في النفوس، ومشاركة في الفضائل ورأيت الشيخ (…) لما رجع إلى مصر معظّماً لوعظه وإشارته، وكان يتكلّم بالجامع الأزهر فوق كرسي بكلام يروّح النفوس، ومزج كلام القوم بآثار السلف وفنون العلم فكثر أتباعه وكانت عليه سيما الخير”[24].

وقال الصفدي في وصفه:”كان رجلاً صالحاً له ذوق، وفي كلامه ترويح للنفس وسَوْق إلى الشوق، يتكلّم على كرسيّ في الجوامع، ويقيّد المارقين بأغلالٍ وجوامع، وله إلمام بآثار السلف الصالح، وكلام الصوفية، إذا هبّ نسيمه العاطر الفائح شوّق كثيراً من القلوب، ومحا بالدموع غزيراً من الذنوب، وله مشاركة في الفضائل، وعليه للصَّلاح سيماء ودلائل”[25].

وحلاّه اليافعي بقوله: “الشيخ الكبير العارف بالله الخبير إمام الفريقين، وموضح الطريقين، ودليل الطريقة، ولسان الحقيقة ركن الشريعة المظفرة الرفيعة …”[26].

وقال فيه الإمام تاج الدين السبكي: “كان أستاذ الإمام الوالد في التصوف، وكان إماماً عارفاً صاحب إشارات وكرامات وقدم راسخ في التصوف”[27].

وقال ابن فرحون: “كان جامعاً لأنواع العلوم (…) انتفع به خلق كثير وسلكوا طريقه (…) وكان أعجوبة زمانه في التّصوف…”[28].

وقال فيه الإمام عبد الوهاب الشعراني: “الزاهد المذكر الكبير القدر (…) كان ينفع الناس بإشارته، ولكلامه حلاوة في النفوس وجلالة…”[29].

وقال فيه الشيخ أحمد زروق رحمه الله: كان جامعا لأنواع العلوم من تفسير وغير ذلك، وكان متكلما على طريق أهل التصوف واعظا انتفع به خلق كثير وسلكوا طريقه.

وقال فيه ابن حجر العسقلاني في الدرر الكامنة: صحب الشيخ أبا العباس المرسي صاحب الشاذلي، وصنف مناقبه ومناقب شيخه، وكان المتكلم على لسان الصوفية في زمانه.

ابن الأهدل: كان فقيها عالما ينكر على الصوفية، ثم جذبته العناية فصحب شيخ الشيوخ المرسي، وفتح عليه وله عدة تصانيف، منها الحكم. وكلها مشتملة على أسرار ومعارف، وحكم ولطائف، نثراً ونظماً. ومن طالع كتبه عرف فضله.

كان الشيخ ابن عطاء الله المتكلم على لسان المتصوفة في زمانه[30]، ويصف الإمام الصفدي منهج الشيخ ابن عطاء الله في الوعظ والتدريس بقوله: “…كان رجلا صالحاً يتكلّم على كرسيّ في الجامع بكلام حسن، وله ذوق ومعرفة بكلام الصوفية وآثار السّلف، وله عبارة عذبة لها وقع في القلوب”[31].

ويقول صاحب الدُّرر الكامنة –نقلاً عن الإمام الذهبي- في السياق نفسه: “…كان يتكلّم بالجامع الأزهر فوق كرسي بكلام يروّح النفوس، ومزج كلام القوم بآثار السّلف وفنون العلم فكثُر أتباعه[32]“.

3- شروح الحكم العطائية:

تعرض مجموعة من العلماء للحكم العطائية بالشرح والتوضيح، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على  القيمة العلمية والسلوكية لهذا العلم، خاصة أن الحكم العطائية لها بعدها التربوي المؤسس لقيم أخلاقية تكفل عيشا سليما يتغيى الرقي بالبعد الأخلاقي للفرد والمجتمع، ولا بأس أن نذكر في هذا المقام بعضا منها:

ــ شرح ابن عباد النفزي(ت.792هـ) وهو تلميذ لابن عطاء الله السكندري، ولاشك أن شرحه سيكون مميزا بخصوصية التلمذة، وقد سماه ب” غيث المواهب العلية في شرح الحكم العطائية”.

ــ شرح الشيخ أحمد زروق(ت.899هـ) وهي سبعة عشر شرحا أشهرها الشرح الحادي عشر وهو كتابه “قرة العين في شرح حكم العارف بالله ابن عطاء الله السكندري”.

ــ شرح للشيخ الخطيب الشربيني(ت.977هـ)في كتابه سواطع الحكم.

ــ الشيخ  أبو عبد الله محمد بن قاسم جسوس(ت.1182هـ).

ــ شرح الشيخ ابن عجيبة(ت. 1224هـ) الموسوم ب” إيقاط الهمم في شرح الحكم”.

ــ شرح الحكم العطائية للشيخ الطيب بن كيران(ت.1227هـ).

ــ شرح الحكم للشيخ ماء العينين (ت.1328هـ).

ــ ومن المتأخرين شرح للدكتور سعيد رمضان البوطي(ت.1434هـ) في كتابه ” الحكم العطائية، شرح وتحليل”، ويقع في خمسة مجلدات.

ــ شرح للدكتور علي جمعة.

قراءة في كتاب غيث المواهب العلية في شرح الحكم العطائية

1ـ قراءة في عنوان غيث المواهب العلية في شرح الحكم العطائية:

أقصد من خلال هذه القراءة الالتفات إلى مواطن الجمال في عنوان الكتاب وهو عتبة أولى من عتباته، إذ يعتبر أساس الخطاب المقدماتي لأي تأليف، فلا غرو أن للعنوان دلالة كبرى على محتوى التأليف الإبداعي، إذ يلخص العمل دلالة وصياغة، وهو محرك بالضرورة لانفعالات المتلقي ومحفز  للاستطلاع والاطلاع، ومن ثمة فهو يحضر في سياق توظيفي يغري بالقراءة والتلقي، والشروح عموما وخاصة شروح الحكم العطائية هي كتابة إبداعية تنطلق من عمق ذات الشارح وتتوسل بمناهج تختلف من شارح لآخر تمتطي اللغة وأساليبها لبلوغ الدلالة المقصودة من طرف مؤلف المتن المشروح، أو تتمكن من إغنائه وإثرائه، كما تطرح مقاربات متعددة لفهم المتن المشروح، لذلك فإن الشروح هي كتابة إبداعية تتخللها معايير جمالية تنطلق من العنوان إلى المقدمة ومنها إلى سائر التأليف، لذا  سأقوم بمقاربة العنوان من خلال استحضار مكونين جماليين أساسيين؛ البعد الجمالي النغمي، والبعد الجمالي البياني.

فبالنسبة إلى الأول، تحققت الجمالية النغمية في العنوان من خلال مكونات أساس نجملها في الآتي:

* استدعاء مكونين بلاغيين أساسيين؛ السجع من حيث استحضار نفس النهايات: “ية” العَلية ــ العطائية، وكذا الجناس الغير التام، إذ نلمس اختلافا في عدد الحروف بالزيادة في كلمة”العطائية” .

* تكرار حرف العين الذي يعد من الحروف المجهورة الرخوة، قال الأزهري: “ومعنى المجهور أنه لزم موضعه إلى انقضاء حروفه وانحبس النفس أن يجري معه، فصار مجهورا لأنه لم يخالطه في غيره”[33]  . كما أن”العين والقاف” لا تدخلان على بناء إلا حسنتاه لأنهما أطلق الحروف…أما القاف فأمتن الحروف وأصحها جرسا، فإذا كانت إحداهما أو كلاهما في بناء حسُن لصناعتهما”[34]. فوقوع حرف العين في موقعين متوازنين من الجملة في كلمتي ” العَلية” والعطائية”، أضفى عليها بعدا نغميا خاصا لافتا للأسماع وموقظا للأفهام.

* الالتصاق بين الحاء في كلمتي “شرح” “الحكم”. وهو من الحروف المهموسة  وكذا حضور الهاء في العنوان في كلمة “المواهب”؛ حرفان لهما نفس المخرج الصوتي وهو الحلق، وإن كانت الأولى من وسطه والثانية من أقصاه، مع وجود بحة في الحاء[35]. فتكرار الحاء في العنوان مع إضافة حرف الهاء في كلمة المواهب يشكل انسجاما صوتيا من حيث المخرج، وقد ذكر ابن جني في الخصائص أن “الدلالة الجزئية للصوت تساير الدلالة العامة للكلمة”[36]، ومن ثمة فإن استثمار حروف دون غيرها في العنوان كان مسخرا لخدمة الدلالات التي تحملها ألفاظها، والتي سنتبينها من خلال البعد البياني في العنوان.

وأما  البعد البياني فيظهر من خلال استثمار التشبيه في جماليته الاستعارية

غيث المواهب: الغيث في اللغة مطر غزير يجلب الخير، ويطلق مجازا على السماء والسحاب والكلأ… غاثه الله غوثا: نصره وأعانه.[37]

المواهب في اللغة: غدير ماء صغير، الاستعداد الفطري لدى المرء للبراعة في فن أو نحوه.[38].

غيث المواهب: كلمة الغيث مبتدأ وهو مضاف والمواهب مضاف إليه، العَلية نعت تابع لمنعوته في الجر، فتلك المواهب العلية هي تابعة لغيث إدراكي فتح به الله عز وجل على الشارح ليبين بعضا من معاني الحكم العطائية، فشبه تلك الفهوم بالغيث على سبيل الاستعارة التصريحية وتقدير الكلام فهوم كالغيث، وقد شبهها بغدير الماء الصغير تواضعا منه واعترافا منه بأن ما جاء على يده من فهوم هي بمثابة غدير صغير في بحر فهوم قد تفيض على غيره، ولعله يقصد استعداده الفطري والروحي لقراءة الحكم وفهمها فهما صوفيا عرفانيا، تلك قراءات قد تصيب غاية المؤلف وقد تخطئها، غير أن الأكيد أن اختياره لكلمات العنوان يقصد حتما إلى تأكيد معنى عميق كما هو حال الصوفية في اختيار عتبات كتبهم ومؤلفاتهم.

2ــ قراءة في المقدمة:

ضمت مقدمة ابن عباد لشرحه أسباب التأليف بشكل واضح، هذه الأسباب تنقسم إلى قسمين أساسيين:

ـ ما يعلمه بالتأكيد من قيمة الحكم العطائية في الممارسة الصوفية لجمعها بين علم الشريعة وعلم الحقيقة، وكذلك “فهو أجل ما اعتمده بالتفهم والتحفظ كل سالك ومريد، لكونه صغير الجرم، عظيم العلم، ذا عبارات رائقة، ومعان حسنة فائقة، قصد فيها إلى إيضاح طريق العارفين والموحدين.”[39]

ـ  إلحاح بعض الأصحاب عليه لشرح الحكم العطائية فيقول رحمه الله: ” والذي حملني على وضعه، وتكلف تصنيفه وجمعه، بعد تقدم إرادة الله تعالى التي لا تغلب، وتقديره الذي ليس للعبد منه منحى ولا مهرب، ثم الرأي الذي رأيناه من المطالب والمقاصد المعظمة، ونبهنا عليه في صدر المقدمة، إلحاح بعض الأصحاب في ذلك علي، وتردادهم بالمسألة إلي، لكونهم على اعتقاد صحيح في هذه الطريقة…”[40]. فنتبن إذن أن السبب من هذا التأليف هو إلحاح أصحابه عليه لوضع شرح على الحكم، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على انفتاح بصيرته وسمو علمه مما جعل من يحيطون به يتوسمون رسوخ معارفه، ويطلبون منه شرح الحكم لوعيهم التام كذلك بأهميتها في علم التصوف ولما تحمله من أبعاد تربوية ومعرفية قيمية.

بالإضافة إلى أسباب التأليف يركز ابن عباد رحمه الله على الإقرار بأن ما جاء في كتابه، وأن ما ورد فيه من الشرح والبيان لا يدعي الإحاطة بمراد ابن عطاء الله السكندري، وإنما هو يتحدث عما فهمه من الحكم وما توصل إليه إدراكه لها فيقول: “أخذنا في وضع تنبيه يكون كالشرح لبعض معانيه الظاهرة، وكالكشف للمعة يسيرة من أنواره الباهرة، ولا قدرة لنا على استيفاء جميع ما اشتمل عليه الكتاب، وما تضمنه من لباب اللباب، لأن كلام الأولياء والعلماء بالله منطو على أسرار مصونة، وجواهر حكم مكنونة، لا يكشفها إلا هم، ولا نتبين حقائقها إلا بالتلقي عنهم. ونحن في هذه الكلمات التي نوردها، والمناحي التي نعتمدها غير مدعين لشرح كلام المؤلف، ولا ما نذكره هو حقيقة مرادهم.”[41]

يوضح  الشارح في مقدمة كتابه طريقة نسخ الكتاب، إذ يؤكد على ضرورة كتابة الحكمة بلون مغاير أو بقلمين مختلفين في الحجم حتى لا يتم خلط الحكمة بغيرها من الكلام، وهو الرسم الذي اعتمده هو في كتابة مجموعه، مما يؤكد على حرص الشارح الشديد على الحفاظ على  خصوصية متن الحكم  حتى لا تختلط بسواها من الكلام.

3ـ منهج ابن عباد في شرح الحكم.

راعى ابن عباد الرندي ترتيب الحِكم كما وردت عند ابن عطاء الله السكندري في الشرح، وجاء بالحكمة تلو الأخرى وفق المنهج الآتي الذكر:

– الانطلاق من النص القرآني:

لا يكاد يخلو كل شرح لحكمة من الحكم من الاستشهاد بالنص القرآني وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الصوفية كانوا دائمي الارتباط بالكتاب والسنة في ممارساتهم الصوفية، فأصل معاني الحكم من النص القرآني.

 – الاستشهاد بالحديث النبوي الشريف.

– يعتمد في شرحه للحكمة على الاستشهاد بالأحاديث النبوية الشريفة المذكورة في الصحاح وغيرها، من ذلك قوله وهو يشرح الحكمة العطائية: “صاحب حقيقة غاب بشهود الملك الحق، وفنى عن الأسباب بشهود مسبب الأسباب، فهو عبد مواجَه بالحقيقة، ظاهر عليه سناها، سالك الطريقة، قد استولى على مداها، غير أنه غريق الأنوار مطموس الآثار قد غلب سكره على صحوه، وجمعه على فرقه، وفناؤه على بقائه، وغيبته على حضوره.[42]، استشهد بحادثة الإفك في الشرح بقوله: “وقد قال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه لعائشة رضي الله عنها لما نزلت براءتها من الإفك على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة، اشكري رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: والله لا أشكر إلا الله. دلها أبو بكر رضي الله تعالى عنه على المقام الأكمل مقام البقاء المقتضي لإثبات الآثار وقد قال الله تعالى: ” أن اشكر لي ولوالديك” [ لقمان: 14] وقال صلى الله عليه وسلم: “لا يشكر الله من لا يشكر الناس”، وكانت هي في ذلك الوقت مصطلمة عن شاهدها غائبة من الآثار فلم تشهد إلا الواحد القهار”[43]..”.

وقوله: “في ذلك الوقت مصطلمة”؛ أي منقطعة عن شاهدها، وهو حكم بشريتها، متوفاة عن إحساسها بالكلية، والاصطلام نعت الحيرة، ومحل القهر وصفة الدهشة. وفي قوله: “وكانت هي في ذلك الوقت” إشعار بأن ذلك لم يكن حالا لازما لها في جميع أوقاتها، بل كان في ذلك وقت مخصوص، وواقعة مخصوصة.”[44] والشاهد أنه رحمه الله قد زاد في شرح الحكمة من حيث الغيبة عن شهود الخلق بشهود الحق بقول عائشة رضي الله عنها حينما توجهت بالشكر مباشرة لرب العباد حين نزلت الآية التي برأتها مما اتهمت به.

ومن ذلك استشهاداته الكثيرة والمتنوعة من الكتب الصحاح وغيرها مما يعزز معاني شرحه على مدى صفحات لحكمة: “من ظن انفكاك لطفه عن قدره فذلك لقصور نظره”[45]؛ لينبه في آخرها على أنه ساق من الأحاديث والروايات لتأييد كلام المؤلف فقال: “وإنما ذكرنا هذه المعاني هاهنا؛ لأنها لائقة بكلام المؤلف، رحمه الله، وكأنها مفسرة له، وأيضا فإن العبد محتاج إليها غاية الاحتياج، لأنه في حال نزول البلايا يتسخط، ويجزع ويضطرب إيمانه، … فيحتاج إلى مذكر يذكره بأمثال هذه المعاني، ليحصل له بذلك من الرضا وحسن الظن بالله تعالى والمحبة له ما يرجى له بذلك إن مات من فوره حسن الخاتمة وحب لقاء الله تعالى والأعمال بخواتمها”[46].

وعموما فقد انبنى منهج ابن عباد في شرحه للحكم على تفسير المراد من القول؛ إذ غالبا ما يَسْنُد شرحه بالاستشهاد بالآيات و الأحاديث، وغالبا ما تتلخص مقصديته في البعد التذكيري وكذا التربوي، حتى يكون شرحه معزِّزا لمقاصد الحكم.

– الاستشهادات الشعرية:

اعتمد ابن عباد الاستشهادات الشعرية في شرحه منذ مقدمة كتابه حين تكلم عن إلحاح أصحابه عليه بتأليف شرح على الحكم العطائية وما ذاك إلا من محبتهم له فقال وهو يصفهم:

لي سادة من عزهـــــم                        أقدامهم فوق الجباه

إن لم أكن منهم فـــــلي                       في ذكرهم عز وجاه

ومن ذلك استشهادات كثيرة وقعت في محلها معززة لمعان سابقة، من ذلك استحضاره لقول الشاعر:

كبر العيان علي حتى أنه                        صار اليقين من العيان توهما

في شرح الحكمة : ” ما تجده القلوب من الهموم والأحزان فلأجل ما منعت من وجود العيان[47]، وقد ذكر البيت الشعري حين أراد أن يوضح بأن العيان درجة فوق درجة اليقين. وذلك تصنيف المؤلف فيما يخص المقامات، فاليقين مقام والعيان مقام، والثاني أعلى من الأول درجة في اعتبار ابن عباد.

ومن ذلك استشهاده في الحكمة العطائية التي تقول: “تطلعك إلى بقاء غيره دليل على عدم وجدانك له واستيحاشك لفقدان ما سواه دليل على عدم وصلتك به”، فقد استشهد في شرحها  بالأبيات الآتية:

         كانت لقلبي أهواء مـــــتفرقة                     فاستجمعت إذ رأتك العين أهـــوائي

         فصار يحسدني من كنت أحسده                   وصرت مولى الورث مذ صرت مولائي

               تركت للناس دنياهم ودينـــهم                     شغلا بذكرك يا ديني ودنيـــــــاي [48]

فساق هذه الأبيات الشعرية التي تعبر في رمزية عن حال العبد الذي تعلق قلبه بمحبوبه، فيخلو القلب من الشوائب وذاك دليل الوصال، فخلو القلب من التعلقات دليل على وصاله برب العباد، فجاءت الأبيات الشعرية تعضد المعنى القائم في الحكمة العطائية.

وعموما فكل الاستشهادات الشعرية التي ساقها ابن عباد في شرحه للحكم إنما جاءت معززة للمعنى أو موضحة له، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على حسن توظيف ابن عباد للاستشهادات الشعرية، وحنكته في استدعائها وكذا سعة اطلاعه.

الاستشهاد بأقوال الصوفية:

– لقد ضمن ابن عباد شرحه هذا أقوالا واستشهادات لمجموعة من الأعلام الصوفية نذكر منهم على سبيل المثال: أبا عبد الله القرشي ـــــ  أبا القاسم القشيري ــــ الواسطي ـــــ سهل بن عبدالله ــــــ أبا حامد الغزالي ــــ إبراهيم بن أدهم ـــ إبراهيم الخواص- أبا الحسن الشاذلي، أبا عبدالله محمد بن علي الترمذي، السهروردي، وقد جاءت معززة لفهومه وشروحه للحكم، كما أسهمت بشكل واضح في إثراءها. وكثيرا ما يذكر أقوالا دون أن ينسبها إلى أصحابها فيقول: ويقول بعضهم، وقال بعض الصوفية.[ غيث المواهب، ص.350] وهي من الملاحظات الشائعة في التآليف الصوفية بوجه خاص.

– التحديد المصطلحي للكلمات المفاتيح في الحكمة:

غالبا ما ينطلق ابن عباد في شرحه من توضيح وتحديد مصطلحيٍّ للكلمة، بمعنى أنه لا يعود إلى الأصل اللغوي وإنما يفسر ويشرح شرحا وتوضيحا صوفيا كقوله مثلا في هذه الحكمة: ” إرادتك التجريد مع إقامة الله إياك في الأسباب من الشهوة الخفية، وإرادتك الأسباب مع إقامة الله إياك في التجريد انحطاط عن الهمة العلية”، فيفسر الأسباب بقوله: الأسباب هنا عبارة عما يتوصل به إلى غرض، مما ينال في الدنيا. والتجريد عبارة عن عدم تشاغله بتلك الأسباب الدنيوية، لأجل ذلك. وهي مصطلحات صوفية لها خصوصياتها التداولية، وقد تناولها الشارح من هذا البعد الصوفي، ولا غرو في ذلك وهو ينطلق من كلام صوفي محض: الحكم العطائية، فانطلق من الكلمات المفاتيح في الحكمة وأخذ يبني عليها في شرحه، دون أن تفوته في معظم الشروح الاستعانة ببعض أقوال ابن عطاء الله نفسه من بعض كتبه بقصد بيان المراد.

–  الالتفات إلى الجانب البياني في الحكمة:

وقد يشرح الحكمة في بعض الأحيان بالالتفات إلى الجانب الجمالي البياني في اللغة، من ذلك قوله في شرح الحكمة التي ذكرها: “فما زالت مطية عزمه لا يقر قرارها دائما إلى أن أناخت بحظيرة القدس وبساط الأنس؛ محل المفاتحة والمواجهة والمجالسة والمحادثة والمشاهدة والمطالعة، فصارت الحضرة معشش قلوبهم إليها يأوون، وفيها يسكنون.” فقال رحمه الله في شرح هذه الحكمة: هذه استعارات مليحة استعملها في سفر القلب إلى حضرة الرب، وقد تقدم معنى ذلك عند قوله: “لولا ميادين النفوس ما تحقق سير السائرين”[49]، فقال في بيان هذه الاستعارات: “وحضرة القدس وبساط الأنس هما موضع الرحال، وبلوغ الأوطار والآمال، من قِبَل أن السالك تمحى عنه رسوم بشريته، وتبطل أحكام إنيَّتِه[50]، فانطلق من البعد المجازي في الحكمة ليشرح معاني الاستعارات التي وظفها ابن عطاء الله في هذه الحكمة.

وفي نفس سياق اعتماد الشارح على الجماليات البيانية في متن الحكم العطائية، التفاته إلى الطباق في الحكمة العطائية الآتية: “وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق، ليكون نظري إلى حولك وقوتك إذا أدخلتني، واستسلامي وانقيادي إليك إذا أخرجتني”، فقال رحمه الله: “المدخل والمخرج، الإدخال والإخراج، وقد عبر بهاتيين العبارتين عن السفرين المذكورين فالمدخل: هو سفر الترقي لأنه دخول على الله عز وجل في حالة فنائه عن رؤية غيره. والمخرج هو سفر التدلي؛ لأنه خروج إلى الخليقة لفائدتي الإرشاد والهداية في حالة بقائه بربه، وتحققه في هذين المقامين، أعني مقام الفناء والبقاء، والبقاء هو معنى “صدقية” مدخله ومخرجه”[51]، فانطلق الشارح من الطباق الحاصل في الحكمة  لشرحها وتحديد معانيها.

وقد عمد ابن عباد في شرحه للحكم العطائية إلى استثمار خصوصية حروف الجر في الخطاب الصوفي، من ذلك قول ابن عطاء الله السكندري رحمه الله: “واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا ينصرني، وينصر بي، ولا ينصر علي، ينصرني على شهود نفسي، ويغنيني عن دائرة حسي”، فيأتي شرح الشارح بناء على معاني تسطرها حروف الجر وأسلوب استعمالها بما يوافق السياق، فتثبت حضورا  مميزا في الشرح كما حضرت حضورا لافتا في الحكمة فيقول الشارح رحمه الله: “طلب من الله تعالى النصرة له ليستقيم أمره، وطلب منه النصرة به ليكمل حاله، فالنصرة له هي ملاك أرباب البدايات من السالكين؛ إذ بذلك يتيسر عليهم قطع عقبات النفس، ومحو دواعي الهوى والحس. والنصرة به من مقتضى حال أرباب النهايات من المحققين، لأن بذلك يحصل لهم مرتبة الأمانة، ومقام الإرشاد والهداية، وكل واحد من القسمين نصرة على شهود النفس وفناء عن دائرة الحس”.[52]

كما شرح ابن عباد مجموعة من المصطلحات الصوفية، إذ بتتبع كتاب المواهب العلية قد نتمكن من الخلوص إلى فهم للمصطلح الصوفي عند ابن عباد الرندي رحمه الله من ذلك مثلا شرحه للوارد والورد في معرض شرحه للحكمة العطائية: “لا يستحقر الورد إلا جهول، الوارد يوجد في الدار الآخرة، والورد بنطوي بانطواء  هذه الدار ، وأولى ما يعتنى به ما لا يخلف وجوده، الورد هو طالبه منك، والوارد أنت تطلبه منه، وأين ما هو طالبه منك مما هو مطلبك منه.” فيقول شارحا: الورد: هو عبارة عما يقع بكسب العبد من عبادة ظاهرة أو باطنة. والوارد: هو الذي  يرد على باطن العبد من لطائف وأنوار فينشرح  بها صدره، ويستبشر بها قلبه وسره.

فالورد: ما من العبد للحق تعالى من معاملة وعبودية. والوارد: ما من الحق سبحانه وتعالى للعبد من لطف وكرامة. والورد أحق ما يعتني به العبد ويراعيه من الوارد[53] .

 كما شرح الهمة وسوابق الهمم في معرض بيان معاني الحكمة الآتية: ” إرادتك التجريد مع إقامة الله إياك في الأسباب من الشهوة الخفية، وإرادتك الأسباب مع إقامة الله إياك في التجريد انحطاط عن الهمة العلية. “

 فيقول شارحا لمعنى الهمة: حالة القلب، وهي قوة إرادة، وغلبة انبعاث إلى نيل مقصود ما، وتكون عالية، إن تعلقت بمعالي الأمور، وسافلة، إن تعلقت بأدانيها، قال الشاعر وأجاد:[54].

 وقاتلة لم علتك الهموم  وأمرك ممتثل في الأمــــم
فقلت ذريني على حالي  فإن الهموم بقدر الهمم

 الهمم السوابق: هي قوى النفس التي تنفعل بها بعض الموجودات بإذن الله تعالى…[55]

وقد يوحي تتبع تعريف ابن عباد لبعض المصطلحات في شرحه غيث المواهب بمفهوم مصطلحي خاص به، غير أن ذلك يستلزم تتبع المصطلحات المشروحة في التأليف ككل، وقد نخلص إلى بحث خاص حول خصوصية المصطلح الصوفي عند ابن عباد من خلال كتابه “غيث المواهب”..

إن دراسة كتاب غيث المواهب العلية في شرح الحكم العطائية تستلزم الكثير من التدقيق والتمحيص للكشف عن خباياه العلمية الفكرية وكذا المنهجية، وما هذه الدراسة إلا إطلالة سريعة على بعض من جوانبه، كما تظل الشروح التي قامت على متن الحكم العطائية جديرة بالتقريب والمدارسة لما تحويه من قيم تربوية وتوجيهات سليمة وسديدة فيما يخص علاقة العبد بربه وبنفسه ثم بسائر العباد، فالحكم العطائية وشروحها من المدونات السلوكية القيمة الجديرة بالدراسة والمدارسة، دائما في إطار الاشتغال بالتقريب السلوكي .

 

الهوامش: 


[1] ـ انظر ترجمته في نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، 5/341ـ342 و أنس الفقير وعز الحقير، ص.123ــ المطرب بمشاهير أولياء المغرب، ص.140ــ غيث المواهب العلية في شرح الحكم العطائية، ص.1ـ معلمة المغرب، 17/5867ــ إفادة المرتاد بالتعريف بالشيخ ابن عباد.

[2] ـ غيث المواهب العلية في شرح الحكم العطائية، ص.1

[3] ـ نفح الطيب، من غصن الأندلس الرطيب، أحمد بن محمد المقري التلمساني، تحقيق إحسان عباس، دار صادر، بيروت، ص. 436ـ 437

[4] ـ المطرب، بمشاهير أولياء المغرب، عبد الله بن عبد القادر التليدي، دار الأمان للنشر والتوزيع، ودار البشائر الإسلامية، الرباط، ط.2003، ص.141.

[5] ـ إفادة المرتاد بالتعريف بالشيخ ابن عباد، عبد المجيد الزرادي ، تحقيق خالد بن أحمد الصقلي، ط.1، 2006، أنفو برانت، ص: 3.

[6] ـ  نفسه، ص: 2.

[7] ـ نفسه، ص: 9.

[8] ـ إفادة المرتاد، ص: 13.

[9]– انظر ترجمته في: أعيان العصر، للصفدي: 1/345. والوافي بالوفيات، للصفدي: 8/38. وطبقات الشافعية الكبرى، لتاج الدين السبكي: 9/23-24. مرآة الجنان، لليافعي: 1/185-186. والديباج، لابن فرحون: 1/242-243. وطبقات الأولياء، لابن الملقن: ص.421. والدرر الكامنة لابن حجر: 1/162-163. والنجوم الزاهرة، لابن تغري بردي: 8/280. وحسن المحاضرة، للسيوطي: 1/524. وطبقات المفسرين، للداودي: 1/77-78. الطبقات الكبرى، للإمام عبد الوهاب الشعراني: 2/41. وشذرات الذهب، لابن العماد: 8/37-38.  ومعجم المؤلفين، لرضا كحاله: 2/221.

[10] – انظر: الوافي بالوفيات: 8-38.

[11] – انظر: الديباج: 1/242.

[12] – طبقات الشافعية الكبرى، 9/23.

[13] – الديباج: 1/242.

[14] – انظر: أعيان العصر: 1/345. والوافي بالوفيات: 8/38. وطبقات الشافعية الكبرى: 9/23.

[15] – انظر:الطبقات الكبرى: 2/41.وشجرة النور الزكية، ص.292.

[16]-الدرر الكامنة: 1/162.

[17]– طبقات الشافعية الكبرى، 9/23.

[18]– انظر: طبقات الأولياء: 1/(517-518)، وشجرة النور الزكية، ص.293.

[19]لطائف المنن في مناقب الشيخ أبي العباس المرسي وشيخه الشاذلي أبي الحسن، لابن عطاء الله الإسكندري، ص81-82.

[20] ـ لطائف المنن، ص.82.

[21] ـ لطائف المنن، ص.80.

[22] – انظر : هدية العارفين، 1/103.

[23] – أعيان العصر: 1/345.

[24] – الدّرر الكامنة : 1/162.

[25]– أعيان العصر 1/346.

[26]–  مرآة الجنان: 4/185.

[27]– طبقات الشافعية الكبرى: 9/23.

[28] – الديباج: 1/242.

[29] – الطبقات الكبرى: 2/41.

[30]–  الدرر الكامنة: 1/162.

[31]–  الوافي بالوفيات : 8/38.

[32]–  انظر المرجع نفسه.

[33] ــ لسان العرب، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري، باب ألقاب الْحُرُوف وطبائعها وخواصها.

[34] – لسان العرب، باب العين.

[35] – حركات العربية، دراسة صوتية في التراث الصوتي العربي، عبد الحميد زاهيد، ط.1،2005، المطبعة والوراقة الوطنية، ص.28.

[36]– نفسه، ص.32.

[37] ـ لسان العرب، مادة (غيث).

[38] ـ لسان العرب، مادة( وهب).

[39] ـ غيث المواهب، ص. 3

[40] ـ غيث المواهب العلية، ص.4

[41] ـ غيث المواهب في شرح الحكم، ص. 3.

[42] ـ غيث المواهب، ص. 332.

[43] ـ غيث المواهب، ص.333.

[44] ـ غيث المواهب، ص.333 وكذا في الصفحة 331.

[45] ـ غيث المواهب، ص. 140.

[46] ـ غيث المواهب، ص.149.

[47] ـ المواهب العلية، ص. 6.

[48] ـ غيث المواهب، ص.264.

[49] ـ غيث المواهب، ص. 328.

[50] ـ غيث المواهب، ص. 328.

[51]  ـ غيث المواهب، ص.330.

[52] ـ غيث المواهب، ص.330ـ331.

[53] ـ غيث المواهب العلية، ص.155.

[54] ـ المواهب العلية، ص. 7.

[55] ـ غيث المواهب، ص. 10.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق