مركز الدراسات والبحوث في القضايا النسائية في الإسلامنصوص مترجمة

تفاعلات مفكرين مع كورونا (3): يوفال نوح هراري: كورونا ودروس الماضي والحاضر والمستقبل

في سياق استطلاع آراء وتصريحات عدد من المفكرين في العالم حول جائحة كورونا، يبرز اسم الكاتب والمؤرخ والأستاذ في الجامعة العبرية”يوفال نوح هراري” الذي ناقش تداعيات الوباء على مستقبل العالم.

قبل التطرق إلى نظرته للمستقبل، يستعرض”هراري” صاحب كتابي “العاقل: تاريخ مختصر للجنس البشري” و “21 درسا للقرن الواحد و العشرين”، بعضا من الدروس المستخلصة من التاريخ حول الأوبئة والأزمات العالمية.

ماذا يعلمنا التاريخ؟                            

يرى هراري أن أول ما يعلمنا التاريخ هو مقارنة وضعنا الحالي بالحقب الغابرة، ففي الوقت الذي بقي سبب انتشار الطاعون الأسود مجهولاً تماماً للقروسطيين، تمكّن العلماء اليوم وخلال أسبوعين فقط من التعرّف على السلالة الجديدة لفيروس كورونا وسلسلتها الجينية، وتطوير اختبار موثوق لكشف حالات الإصابة، مما يدل على أن البشرية اكتسبت القدرة على مواجهة أعدائها غير المرئيين، بفضل اللقاحات والمضادات الحيوية وتحسّن مستوى النظافة الشخصية وتطورالأنظمة الصحية، وقد كان من نتائج ذلك أن الحملة العالمية للقاح ضد الجدري –مثلا- استطاعت القضاء على المرض تماماً في عام 2019، حيث لم تسجّل أي إصابة على الإطلاق، حسب منظمة الصحة العالمية.

وعلى صعيد آخر، يعلمنا التاريخ أن البشرية خرجت منتصرة من كل الأزمات التي عصفت بها سواء الوبائية أو غيرها، فأثناء اندلاع أزمة “إيبولا” عام 2014، تم احتواء الفيروس في مهده ومنع انتشاره المتوقع، بعدما مدت دول حول العالم يد المساعدة إلى الدول الأكثر تضرراً في غرب إفريقيا، وتكرر الأمر خلال الأزمة المالية سنة 2008، إذ رغم شدة الأزمة، تم منع انهيار الاقتصاد العالمي بفضل صياغة الاقتصاديات الكبرى خطة عمل فعالة.[1]

حاضر التجربة العالمية التي لها ما بعدها

في الوقت الحاضر، بمكن اعتبار تفشي جائحة كورونا بمثابة “تجربة اجتماعية عالمية” يخضع لها سائر البشر. فحسب هراري، فإن مسلمات وسياسات انقلبت رأسا على عقب بعد انتشار الوباء. وعلى سبيل المثال، لم تكن الحكومات والأنظمة لتوافق على تحويل مدارس وجامعات بأكملها إلى التدريس الرقمي، أو تقبل اشتغال الموظفين عن بعد. كما أنه، بسبب كورونا، أصبح بالإمكان نقل إحدى الأفكار التي كانت مجرد نظرية إلى أرض الواقع مثل فكرة الدخل الأساسي  (وتعني حق كل المواطنين في الحصول على راتب تصرفه الدولة لهم).

 إن هذه التحولات الإجبارية والتي حدثت فجأة قد تصدم البعض وتجعلهم يفطنون إلى أنه “نعم، يمكن فعل ذلك!”، وبذلك قد يتم توظيف أساتذة للتعليم عن بعد ويتم تدريس طلبة من عدة دول في فصل واحد بدون الحاجة لمغادرة منازلهم. إن ما يحصل اليوم قد يمتلك قوة تغيير شامل في مجالي التعليم والشغل. لكن بالنسبة للكاتب، فإنه شخصيا يعتقد أن هذا التغيير قد يكون خاطئا وخطيرا، لأن الجزء الأساسي المطلوب في عملية التعليم والشغل هو المخالطة الاجتماعية والتواصل الواقعي. عموما، يعترف الكاتب، أن لا أحد يملك إجابات قاطعة عن نتائج التجارب الاجتماعية التي نعيشها في ظل أزمة كورونا، لكن الأكيد أن العالم لن يعود كما كان لأننا أصبحنا نملك خيارات متعددة.[2]

إلى أين يتجه العالم بعد كورونا؟

يعتبر هراري أن انتشار كورونا في جل دول العالم يمس في الجوهر الاختيارات السياسية التي يمكن أن تشكل الصورة التي سيصبح عليها العالم فيما بعد. ويتكون الاختيار الأول من اتجاهين: المراقبة الشُمولية “التوتاليتارية” أو تمكين المواطن، أما الاختيار الثاني فيتكون من ثنائية العزلة الدولية أو التلاحم الأممي.

  • بين المراقبة الشُمولية “التوتاليتارية” وتمكين المواطن:

يعبر هراري عن قلقه البالغ من ظهور أنظمة شمولية وديكتاتورية تستغل الأزمة الصحية من أجل فرض واقع التحكم الشامل والمراقبة البيومترية على الشعوب. ففي نظر الكاتب، يمكن للإجراءات المؤقتة في حالات الطوارئ أن يتم تمديدها لتصبح أمرا واقعا تحت ذرائع أخرى، وهو ما حصل في بلده إسرائيل بعد حالات الحرب. يجادل هراري بأن هناك معركة كبيرة تدور رحاها في السنوات الأخيرة حول خصوصيتنا ومدى حق الحكومات في امتلاك معلومات معينة عن مواطنيها، وقد تكون أزمة فيروس كورونا هي نقطة التحول في المعركة، حيث أن هناك نزوعا لدى بعض الدول المتعطشة للبيانات بأن تُبقِي أنظمة المراقبة البيومترية، وهي التي توفر لها إمكانية المراقبة عبر الهواتف والحواسيب والمستشعرات وكاميرات المراقبة المنتشرة في كل مكان وعلى الخوارزميات الفائقة بدل زرع عميلٍ بشريّ يلاحق كل مواطن، وهذا يمثل انتقالا رهيبا من مراقبة “فوق الجلد” إلى مراقبة “تحت الجلد”.

فارتداء سوار بسيط مثلا يمكن أن يراقب درجة حرارة جسم الإنسان ومعدل ضربات قلبه على مدار 24 ساعة في اليوم، وبذلك ستعرف الحكومة ما إذا كان مريضا حتى قبل أن يعرف هو ذلك، وستعرف أيضا أين كان ومن قابل على نحو يمكن معه تقصير سلاسل العدوى بشكل كبير، وحتى قطعها تماما. إن هذا النوع من المراقبة (وهو ما تم تجريبه في الصين) يعتبر مقايضة تجبر الأشخاص على الاختيار بين صحتهم وخصوصياتهم، لأنه صحيح أن السيطرة على الفيروس تكون أكثر نجاعة، لكن المعلومات الخصوصية للأفراد تصبح على المحك.

يؤكد هراري أن هذا التخيير جد خاطئ لأنه يمكننا وينبغي أن نتمتع بالخصوصية والصحة معا، والحل يكمن في نظره في الاتجاه الثاني ضمن الاختيارين، وهو التمكين للمواطن، ومعناه الاعتماد على مواطنين ذوي وعي كبير بطبيعة الفيروس وسبل الوقاية منه والتعامل معه. هذا الحل يتطلب أن تمنحهم السلطات، بكل شفافية، جل المعلومات العلمية الهامة، وتجعلهم يثقون فيما تقدمه لهم، بذلك سيستجيب المواطنون ويفعلون ما يجب فعله دون حاجتهم ل”أخ أكبر” يراقب، بنظرات ثاقبة، كل تحركاتهم. ولنا أن نتأمل في تلك الحركة الصغيرة: غسل اليدين بالصابون، والتي على صغرها وبساطتها إلا أنها تُنقذ ملايين البشر، فمليارات الناس يعتمدون هذه العادة اليوم، ليس لأنهم خائفون من شرطة غسل اليدين، ولكن لأنهم يعُون جيدا حقيقة أن غسل الأيدي تقي من الفيروسات والبكتيريا.

  • بين العزلة الدولية والتلاحم الأممي

يرى يوفال هراري أن أفضل دفاعات البشرية في مواجهة الأمراض والأوبئة ليس القومية والانغلاق، بل تبادل المعلومات العلمية الموثوقة والتضامن العالمي. فإذا أراد العالم النجاة، فإن على الدول أن تكون على أتم الاستعداد لمشاركة المعلومات بكل انفتاح، وأن تطلب النصح بكل تواضع وأن تثق، كذلك، بما يقدم لها. فعوضا عن قيام كل دولة بتصنيع الأجهزة الطبية ولوازم الفحوصات وأجهزة التنفس بشكل محلي، وهو ما سيستنزف إمكاناتها، يمكن للتكاتف العالمي أن يسرع من عملية تصنيع هذه المعدات بشكل يضمنإنقاذ الجميع بشكل متوازن.

وأكيد أن تضامن الدول الأوفر حظاً مع رفاقهم المتضررين سيثبت استحقاق وجدارة المُثل الإنسانية أكثر من كل الخطابات. أما إذا تُركت كل دولة وحيدة في المواجهة، فمن المرجح أن العالم سيعاني لأمد طويل، لأن تقديم رعاية صحية جيدة في إيران والصين يساعد في حماية الناس في أمريكا أيضاً. ولنا في التاريخ عبرة، حيث لم تتمكَن البشرية من هزيمة فيروس الجدري في سبعينات القرن الماضي إلا عندما تم تطعيم الناس ضده في كل الدّول. ولو تخلّفت دولة واحدة، لكانت سَتُعرّض البشرية جمعاء للخطر. الحقيقة هي أن النضال الحاسم يدور اليوم داخل الإنسانية نفسها؛ فإذا أدى الوباء إلى مزيد من الانقسام وانعدام الثقة، سيكون ذلك أكبر نصر للفيروس. وعندما يتصارع البشر، تتضاعف الفيروسات. وفي المقابل، إذا أسفرت الأزمة عن تضامن عالمي وثيق سيكون ذلك نصراً، ليس فقط في مواجهة كورونا، وإنما في المعركة ضد كل فيروسات المستقبل.[3]

الثقة وقيادة العالم

يؤكد المؤرخ نوح هراري على أن البشر قادرون على إيقاف هذا الوباء، لكنه يعترف أن الخيارين الناجعين في نظره (خيار التمكين للمواطنين وخيار التلاحم الأممي) يحتاجان قدرا كبيرا من الثقة بين الحكام وشعوبهم وبين الحكام بعضهم البعض، كما أن الوضع الحالي يستدعي إيجاد خطة عالمية منسقة. ويشير بهذا الصدد، إلى أنه على مدى السنوات القليلة الماضية “قوّض عدد من السياسيين غير المسؤولين الثقة في العلوم والسلطات العامة والتعاون الدولي. لذا نجد أنفسنا اليوم في مواجهة هذه الأزمة دون قادة قادرين على إلهام أو تنظيم أو تمويل استجابة عالمية منسقة”.

 وما يزيد الأمر سوءا هو أن أمريكا، التي لعبت دور القائد الدولي في الأزمات السابقة (أزمة 2008 الاقتصادية وتفشي وباء الإيبولا سنة 2014)، قد تخلت اليوم عن هذه الصفة تماما، فقد اعترفت بوضوح أنها تهتم بعظمة أمريكا أكثر بكثير من اهتمامها بمستقبل البشرية. كما أنها قطعت الدعم عن المنظمات الدولية، مثل منظمة الصحة العالمية، وأوضحت أنه ليس لها أصدقاء حقيقيون، وإنما مصالح فقط. وحتى لو افترضنا أن الولايات المتحدة ستحاول في نهاية المطاف تولي زمام المبادرة من جديد، فإن الثقة في الإدارة الحالية قد تلاشت إلى درجة أن قلة قليلة من الدول ستكون مستعدة للوقوف وراء دولة تحمل شعار “America first!”[4].

يقول هراري إن الإخفاق الأكبر هو ألا تستطيع البشرية الاستفادة من الأفضلية التي تملكها مقارنة بباقي الكائنات، ومنها فيروس كورونا، فحسب كتابه “العاقل: تاريخ مختصر للجنس البشري”، يمتاز البشر بقدرتهم على التعاون والتنسيق فيما بينهم، وهو ما سمح لهم بريادة العالم. ففيروس كورونا في الصين مثلا غير قادر على التواصل مع فيروس في إسرائيل حول كيفية نقل العدوى للناس.[5] ويرى هراري أننا لن نتمكن من وقف تقدم الفيروس دون الثقة والتضامن العالميين، ومن المرجح جداً أننا سنواجه المزيد من الأوبئة في المستقبل. ولكن كل أزمة هي أيضاً فرصة، وقد يساعدنا هذا الوباء على إدراك الخطر المحدق الذي يشكّله الانقسام العالمي. ويأمل هراري أن يكون هناك تعاون على الأقل في المجالات التالية: تقاسم المعلومات، التعاون على مستوى إرسال الأجهزة الطبية والكوادر الصحية، تكوين شبكة أمان اقتصادية عالمية لإنقاذ البلدان الأكثر تضررا، صياغة اتفاقية عالمية بشأن الفحص المسبق للمسافرين والتي ستسمح لعدد قليل من المسافرين الأساسيين بمواصلة عبور الحدود.[6]

في الأخير، يبدو أن مضمون رسالة هراري خلال هذه الفترة هي أن هذه العاصفة لن تدوم، لكن الاختيارات التي نتبناها الآن قد تؤثر على حياتنا في السنين القادمة. وأن البشرية ستنجو، وأغلبنا سيبقى حياً، ولكننا سنعيش في عالم مختلف…، يجب أن نتساءل ليس فقط عن كيفية تجاوزنا لهذه الأزمة الراهنة، بل أيضاً عن شكل العالم الذي ننوي أن نعيش فيه.[7]

[1] https://7al.net/2020/03/22/%D9%8A%D9%88%D9%81%D8%A7%D9%84-%D9%86%D9%88%D8%AD-%D9%87%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D8%B1%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%86%D8%B3%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%A8%D9%84%D8%A7-%D9%82%D9%8A%D8%A7%D8%AF%D8%A9-%D9%81/

[2]https://www.npr.org/2020/04/05/827582502/a-historian-looks-ahead-at-a-transformed-post-pandemic-world

[3] https://www.ft.com/content/19d90308-6858-11ea-a3c9-1fe6fedcca75

[4] https://7al.net/2020/03/22/%D9%8A%D9%88%D9%81%D8%A7%D9%84-%D9%86%D9%88%D8%AD-%D9%87%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D8%B1%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%86%D8%B3%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%A8%D9%84%D8%A7-%D9%82%D9%8A%D8%A7%D8%AF%D8%A9-%D9%81/

[5]https://www.facebook.com/nasradio.fm/videos/651556172078889/UzpfSTM1MDI1NzczMTcyMTg5MjoyODMzNjU2NDM2NzE1MzMw/?epa=SEARCH_BOX

[6] https://www.inkstonenews.com/health/coronavirus-crisis-human-failure-yuval-noah-harari-says/article/3078284

[7] https://www.ft.com/content/19d90308-6858-11ea-a3c9-1fe6fedcca75

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق