مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات وأبحاث

تعارض الوصل والإرسال «عرض لبعض النماذج»

بسم الله الرحمن الرحيم

 الباحثة: دة خديجة ابوري

 تمهيد

الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيداً، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اقتفى أثره، وسلَّم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

     فإن مسألة تعارض الوصل مع الإرسال ليس لأئمة نقاد الحديث فيها اختيار ثابت يصلح لكل حديث على حدة؛ وإنما ذلك يعد من المسائل الاجتهادية التي تختلف فيها أنظارهم، لأن الحكم عندهم دائر مع القرائن والمرجحات؛ إذ إن لكل رواية واقعا حديثيا ونقدا خاصا بها، يقول ابن دقيق العيد: «من حكى عن أهل الحديث أو أكثرهم أنهم إذا تعارض رواية مسند ومرسل، أو رافع وواقف، أو ناقص وزائد، إن الحكم للزائد لم يصب في هذا الإطلاق، فإن ذلك ليس قانونا مطردا، والمراجعة لأحكامهم الجزئية تعرف صواب ما نقول»([1])، ويقول العلائي: « كلام الأئمة المتقدمين في هذا الفن كعبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل والبخاري وأمثالهم يقتضي أنهم لا يحكمون في هذه المسألة بحكم كلي بل عملهم في ذلك دائر مع الترجيح بالنسبة إلى ما يقوى عند أحدهم في كل حديث حديث»([2])، ويقول ابن الوزير مستفيدا من هذه النصوص جميعا:               «وعندي أن الحكم في هذا لا يستمر، بل يختلف باختلاف قرائن الأحوال وهو موضع اجتهاد»([3])، ويقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: «ووجوه الترجيح كثيرة لا تنحصر ولا ضابط لها بالنسبة إلى جميع الأحاديث، بل كل حديث يقوم به ترجيح خاص، وإنما ينهض بذلك الممارس الفطن الذي أكثر من الطرق والروايات، ولهذا لم يحكم المتقدمون في هذا المقام بحكم كلي يشمل القاعدة، بل يختلف نظرهم بحسب ما يقوم عندهم في كل حديث بمفرده»([4]).

    ولأهمية هذا الموضوع أحببت أن أخصه بمقال، الذي سأتناول فيه إن شاء الله تعالى معنى تعارض الوصل والإرسال من حيث التعريف به، مع الوقوف على بعض الأحاديث التي وقع فيها هذا التعارض مقتصرة على نموذجين اثنين منها فأقول وبالله التوفيق:

تعريف تعارض الوصل والإرسال

تعارض الوصل والإرسال هو: أن يختلف الرواة الثقات في حديث، فيرويه بعضهم متصلا، وبعضهم مرسلا.([5])

فأما المتصل: هو الذي اتصل إسناده، فكان كل واحد من رواته قد سمعه ممن فوقه إلى منتهاه([6]).

وأما المرسل: هو ما يقابل المتصل، ويدخل فيه ما رفعه التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم([7]).

نماذج لتعارض الوصل والإرسال

الحديث الأول:  «استرقوا لها فإن بها النظرة»

قال البخاري – رحمه الله – : حدثنا محمد بن خالد، حدثنا محمد بن وهب بن عطية الدمشقي، حدثنا محمد بن حرب، حدثنا محمد بن الوليد الزبيدي، أخبرنا الزهري، عن عروة بن الزبير، عن زيد بن سلمة، عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في بيتها جارية في وجهها سفعة فقال: «استرقوا لها فإن بها النظرة» .

وقال عقيل عن الزهري: أخبرني عروة عن النبي صلى الله عليه وسلم، تابعه عبد الله بن سالم، عن الزبيدي»([8]).

ورواه الإمام مسلم أيضاً قال: حدثني أبو الربيع سليمان بن داود، حدثنا محمد بن حرب، قال: محمد بن الوليد… به سنداً ومتناً([9]).

وقد ذكر الدارقطني هذا الحديث في كتابه التتبع والإلزامات، وحكى الاختلاف في سنده وصلاً وإرسالاً ولم يحكم فيه بشيء([10]).

والاختلاف الواقع في هذا الحديث في الوصل والإرسال، فقد رواه محمد بن الوليد الزبيدي موصولا، ورواه عقيل بن خالد الأيلي مرسلا، والإمام البخاري هنا رجح الرواية الموصولة على المرسلة وكذلك الإمام مسلم وإلى هذا أشار الحافظ ابن حجر في الفتح ذاكرا القرائن التي اعتمداها في الترجيح، فقال: «واعتمد الشيخان في هذا الحديث على رواية الزبيدي لسلامتها من الاضطراب، ولم يلتفتا إلى تقصير يونس فيه، وقد روى الترمذي من طريق الوليد بن مسلم، أنه سمع الأوزاعي يفضل الزبيدي على جميع أصحاب الزهري يعني في الضبط، وذلك أنه كان يلازمه كثيرا حضرا وسفرا، وقد تمسك بهذا من زعم أن العمدة لمن وصل على من أرسل لاتفاق الشيخين على تصحيح الموصول هنا على المرسل، والتحقيق أنهما ليس لهما في تقديم الوصل عمل مطرد، بل هو دائر مع القرينة فمهما ترجح بها اعتمداه، وإلا فكم حديث أعرضا عن تصحيحه للاختلاف في وصله وإرساله»([11]).

 الحديث الثاني:  حديث «لا نكاح إلا بولي»  فهذا الحديث اختلف على الثوري وشعبة في وصله وإرساله حيث رواه عن شعبة موصولا:

 النعمان بن عبد السلام عند الحاكم في المستدرك([12])عنه وعن سفيان –مقرونين-، ويزيد بن زريع عند البزار في مسنده([13])، ومالك بن سليمان عند الخطيب البغدادي في تاريخه([14])عنه وعن إسرائيل.فهؤلاء ثلاثتهم (النعمان بن عبد السلام، يزيد بن زريع، ومالك بن سليمان) رووه عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبي موسى مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

ورواه عن شعبة مرسلا:

يزيد بن زريع عند البزار في مسنده([15])، ووهب بن جرير عند الطحاوي في شرح معاني الآثار([16])، ومحمد بن جعفر -غندر- عند الخطيب البغدادي في الكفاية([17])فهؤلاء ثلاثتهم (يزيد بن زريع، ووهب بن جرير، ومحمد بن جعفر –غندر-) رووه عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، مرسلا.

أما سفيان الثوري فقد اختلف عليه كذلك، فرواه عنه موصولا:

النعمان بن عبد السلام عند الحاكم في المستدرك([18])عنه وعن شعبة -مقرونين-، وجعفر بن عون عند البزار في مسنده([19])، وبشر بن منصور عند البزار في مسنده([20])، والطحاوي في شرح معاني الآثار ([21])، ومؤمل بن إسماعيل عند الروياني في مسنده([22])، وخالد بن عمرو الأموي عند الخطيب البغدادي في تاريخه([23]). فهؤلاء خمستهم (النعمان بن عبد السلام، وجعفر بن عون، ووبشر بن منصور، ومؤمل بن إسماعيل، وخالد بن عمرو الأموي) رووه عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبي موسى الأشعري مرفوعا.

ورواه عنه مرسلا:

 عبد الرحمن بن مهدي عند البزار في مسنده([24])، وأبو عامر العقدي عند الطحاوي في شرح معاني الآثار([25])، والحسين بن حفص عند الخطيب البغدادي في الكفاية([26]).وهؤلاء ثلاثتهم رووه عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة مرسلا.

قال ابن الصلاح في المقدمة: «وسئل البخاري عن حديث: «لا نكاح إلا بولي »المذكور فحكم لمن وصله وقال: الزيادة من الثقة مقبولة هذا مع أن من أرسله شعبة وسفيان وهما جبلان لهما من الحفظ والإتقان الدرجة العالية»([27]).

الخاتمة

   وفي الختام أحمد الله  تعالى الذي وفقني لإتمام هذا المقال حول مبحث من أهم مباحث المصطلح وهو: « تعارض الوصل والارسال » من حيث التعريف به مع التمثيل لذلك بحديثين في الباب، مما وقع فيها التعارض باختصار، راجية منه سبحانه وتعالى أن ينفع به، ويذخر لي أجره يوم لقائه.  وصل الله على نبينا المجتبى، وعلى آله وأصحابه أولي النهى.

             الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات

****************

هوامش المقال:

([1]) شرح الإلمام بأحاديث الأحكام (1 /27-28)، ونقله عنه الصنعاني في توضيح الأفكار (1 /343- 344).

([2]) النكت على كتاب ابن الصلاح لابن حجر (2 /604).

([3]) توضيح الأفكار (1 /343).

([4]) النكت على كتاب ابن الصلاح (2 /712).

([5]) انظر في ذلك:  فتح المغيث بشرح ألفية الحديث (1 /303)، النكت على كتاب ابن الصلاح (2 /603).

([6]) انظر في ذلك: مقدمة ابن الصلاح (ص: 192)،التقريب والتيسير (ص: 32)، تدريب الراوي (1 /201)، وغيرها.

([7]) انظر في ذلك: مقدمة ابن الصلاح (ص: 202)، التقريب والتيسير (ص: 34)، تدريب الراوي (1 /219)، وغيرها.

([8])  صحيح البخاري (4 /43) كتاب: الطب، باب رقية العين، برقم (5739).

([9])  صحيح مسلم (2 /1047) كتاب: السلام ، باب استحباب الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة برقم: (2197).

([10])  الإلزامات والتتبع (ص: 247-248).

([11])  فتح الباري (10 /249-250).

([12]) المستدرك (2 /184) برقم: (2710)

([13]) مسند البزار (8 /111) برقم: (3111).

([14]) تاريخ بغداد (2 /619).

([15])مسند البزار (8 /111) برقم: (3110).

([16]) شرح معاني الآثار (3 /9) برقم: (4260)

([17]) الكفاية في علم الرواية (ص: 411).

([18]) المستدرك (2 /184) برقم: (2710).

([19]) مسند البزار (8 /110) برقم: (3109).

([20]) مسند البزار (8 /110) برقم: (3108).

([21]) شرح معاني الآثار (3 /9) برقم: (4268).

([22]) مسند الروياني (1/303) برقم: (448).

([23]) تاريخ بغداد (7 /265-266).

([24]) مسند البزار(8 /109) برقم: (3107).

([25]) شرح معاني الآثار (3 /9) برقم: (4261).

([26]) الكفاية في علم الرواية ص:(411).

([27])  مقدمة ابن الصلاح (ص: 229).

**************

لائحة المراجع المعتمدة:

-الإلزامات والتتبع. أبو الحسن الدار قطني. دراسة وتحقيق: أبو عبد الرحمن مقبل بن هادي الوادعي. دار الكتب العلمية بيروت لبنان. ط2 /1405-1985.

-البحر الزخار المعروف: بـ: مسند البزار.  البزار: أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار . تحقيق: محفوظ الرحمن زين – عادل بن سعد. مكتبة العلوم والحكم المدينة المنورة. ط 1/ 1427 -2006.

-تاريخ مدينة السلام وأخبار محدثيها وذكر قطَّانها العلماء من غير أهلها ووارديها. البغدادي: أحمد بن علي بن ثابت البغدادي. حققه وضبط نصه وعلق عليه: د/ بشار عواد معروف. دار الغرب الإسلامي.ط1/ 1422-2001.

-تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي. جلال الدين السيوطي. تحقيق: أبو قتيبة نظر محمد الفاريابي دار طيبة الرياض.ط 8/ 1427.

-التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير. محي الدين بن شرف النووي. تقديم وتحقيق: محمد عثمان الخشت. دار الكتاب العربي بيروت. ط1/ 1405-1985.

-توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار. محمد بن إسماعيل الصنعاني. تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد. المكتبة السلفية المدينة المنورة.

-الجامع الصحيح. أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، قام بشرحه وتصحيحه وتنقيحه: محب الدين الخطيب، ورقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، وراجعه وقام بإخراجه وأشرف على طبعه: قصي محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية القاهرة. ط 1 / 1400هـ.

-شرح الإلمام بأحاديث الأحكام. ابن دقيق العيد. تحقيق: محمد خلوف. دار النوادر. ط2/ 1430-2009.

شرح معاني الآثار. الطحاوي: أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي. حققه وقدم له وعلق عليه: محمد زهري النجار- محمد سيد جاد الحق. راجعه وقدم كتبه وأبوابه وأحاديثه وفهرسه: د يوسف عبد الرحمن المرعشلي. عالم الكتب. ط1/ 1414-1994.

-صحيح مسلم. وفي طليعته: غاية الابتهاج لمقتفي أسانيد كتاب مسلم بن الحجاج للزبيدي.دار طيبة. الرياض. ط1/ 1427-2006.

-فتح الباري شرح صحيح البخاري. أحمد بن حجر العسقلاني. دار السلام الرياض. ط1/ 1421-2000.

فتح المغيث بشرح ألفية الحديث. محمد بن عبد الرحمن السخاوي. دراسة وتحقيق: عبد الكريم بن عبد الله بن عبد الرحمن الخضير- د محمد بن عبد الله بن فهيد آل فهيد. مكتبة المنهاج الرياض. ط1/ 1426.

الكفاية في علم الرواية. الخطيب البغدادي: أحمد بن علي بن ثابت أبو بكر الخطيب البغدادي. دار الكتب العلمية بيروت. ط/ 1409-1988.

المستدرك على الصحيحين (مع تضمينات الإمام الذهبي في التلخيص والميزان والعراقي في أماليه والمناوي في فيض القدير وغيرهم من العلماء). الحاكم النيسابوري: أبو عبدالله محمد بن عبدالله الحاكم النيسابوري. دراسة وتحقيق : مصطفى عبد القادر عطا. دار الكتب العلمية – بيروت. ط1 /1411 – 1990.

مسند الروياني. أبو بكر محمد بن هارون الروياني. ضبطه وعلق عليه: أيمن أبو يماني. مؤسسة قرطبة . ط1 /1416-1995.

مقدمة ابن الصلاح ومعه محاسن الاصطلاح. د عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ). دار المعارف. القاهرة.

النكت على كتاب ابن الصلاح. ابن حجر. تحقيق: د/ ربيع بن هادي عمير. دار الراية الرياض. ط3/ 1415-1994.

راجع المقال: الباحث يوسف أزهار

Science

دة. خديجة أبوري

  • أستاذة باحثة مؤهلة بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق