تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم بالتزكية وأهميته في حياة الأمة

مقدمة تمهيدية
الحمد لله الذي أكرمنا بالإسلام وجعله خاتمة الأديان، وبث فيه الخصائص و المكارم ما يجعله ممتدا على مر الزمان، ومن ابتغى غيره دينا لم يقبل منه وكانت له عاقبة الخسران، والصلاة والسلام على سيدنا محمد صاحب الشرع الأتم، المزكي الأكرم، والإمام الأعظم، وعلى آله الطاهرين الطيبين، وصحابته المهتدين، ومن تبعهم من العلماء، حملة الدين وحماته، والتابعين لهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم أكرم رسول تفضل الله عليه بالكمالات والعلوم، ومن مظاهر هذه الكمالات وهذه العلوم، أن فوض إليه في رسالته جميع المناصب الدينية[1] والدنيوية، هي التي اصطلح عليها الأصوليون اسم “التصرفات النبوية”. وإن استحضار تنوع هذه التصرفات ضروري حتى يكون الإقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وفهم سنته، صحيحا سليما من التعصب أو الفهم المعلول.
وتزداد هذه الضرورة متى علمنا أن زماننا هذا، أضحى فيه النداء إلى الأخذ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم يقصي في كثير من الأحيان سياقات النصوص ومقاصد تصرفاته صلى الله عليه وسلم، زاعما – أي هذا النداء – أن كل حديث ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب على المكلف العمل به دون مراعاة جهة صدوره، أو مراعاة حال من توجه إليه أصلا، وعلى فرض صحة هذا الزعم؛ أفلكل مسلم أن يقضي بين المتخاصمين بمثل قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم بدليل الحديث؟ وهل لكل واحد أن يقتحم مهام الإمامة والخلافة بدعوى أن ذلك سنة النبي صلى الله عليه وسلم ؟ وهل كل فتوى صدرت عن النبي عليه السلام في زمنه تلزم كل مكلف كيفما كان وضعه، وفي كل زمان كيفما كان حاله؟…
ولقد كان من أخطاء هذا النداء، اتهام الأمة بترك الأخذ بسنة المصطفى عليه الصلاة والسلام، لمجرد أنها لم تتأس به في صفة طعامه ولباسه وركوبه وسائر ما يتعلق بجبليته، مع أنه قد تقرر في أصول الفقه، أن ما كان جبليا من أفعال سيد الخلق لا يكون موضوعا لمطالبة الأمة بفعل مثله، بل لكل أحد أن يسلك ما يليق بحاله.[2]
ثم تبينا أهمية هذا الموضوع – أعني التصرفات النبوية – حين وقفنا على كلام للإمام الفذ شهاب الدين القرافي، في فروقه، بعد أن ميز أنواع التصرفات النبوية وبيّن الفروق بينهما، فقال مصرحا: “وعلى هذا القانون وهذه الفروق يتخرج ما يرد عليك من هذا الباب من تصرفاته صلى الله عليه وسلم فتأمل ذلك فهو من الأصول الشرعية”[3]، فجعله من الأصول الشرعية، فعليه ينبني الفهم الصحيح للسنة، وبه يتوسل إلى إدراك مقاصدها.
ولما نظرنا إلى تصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بتزكية النفوس وتربيتها، وعلمنا أهميته من كونه يقصد إلى تقويم أخلاق الصحابة وتهذيبها، وتصفية قلوبهم وتطهيرها، وأن صلاح الدنيا وفلاح الآخرة إنما يحصلان بذلك، تبين لنا أن الاهتمام بتصرفه عليه السلام بالتزكية ينبغي أن ينزل منزلته، ويزداد هذا الاهتمام إلحاحا، متى علمنا أن كثيرا من النصوص النبوية لا يستقيم فهمها إلا من هذا المنطلق، وتأملت في ذلك كلام فقيه مالكي آخر، هو الإمام ابن عاشور، عند حديثه عن تصرف النبي صلى الله عليه وسلم “بتكميل النفوس”: “ورأيت في غفلة بعض العلماء عن هذا الحال من تصرفاته وقوعا في أغلاط فقهية كثيرة، وفي محمل أدلة من السنة على غير محاملها، وبالاهتداء إلى هذا اندفعت عني حيرة عظيمة في تلك المسائل”[4]، فكان ذلك سببا دافعا لي، للبحث في هذا الموضوع.
وقد زادت همتي في ذلك، منذ اطلعت على بحث لنيل الدكتوراه، في موضوع بعنوان “الترك النبوي و أثره في التشريع: دراسة مقارنة تناظرية”[5]. تعرض فيه الباحث لجوانب تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم ثم ذكر منها تصرفه بالتزكية. ومن كلامه أنقل ما يلي: ” ولما كان صلى الله عليه وسلم أعظم مزك و أجل مرب على الإطلاق، تخرج من مدرسته جيل لم يرد التاريخ مثله ولا عرف الزمان نظيره، حتى قيل: إن كل واحد من صحابته لهو معجزة تؤكد صدق الدعوة المحمدية، ولا ريب أن كل من تلقى منهم هذه التزكية قد فاز في الدنيا والآخرة وظفر بالفلاح مصداقا لقوله تعالى: ]قد أفلح من زكاها[[6]“.[7]
وعلى ما سبق، فقد بنيت بحثي جاعلا إياه على فصلين، مهدت لهما بمقدمة هي التي ذكرت، اشتملت على أهمية الموضوع وسبب اختياره، فأما الفصل الأول فقد خصصته للحديث عن التصرفات وأثرها الفقهي، وقد جاء في مبحثين تناول الأول: التصرفات النبوية بتحديد مفهومها، وإبراز أنواعها، بينما تناول الثاني: أثر التصرفات النبوية على الاجتهاد الفقهي، وقيمة التمييز بين تلك التصرفات.
و أما الفصل الثاني: فهو الذي خصصناه للتصرف بالتزكية وأهميته في حياة الأمة، جاء أيضا في مبحثين: المبحث الأول: في بيان مفهوم التصرف بالتزكية، لغة واصطلاحا، وتأصيله من خلال عرض نماذج من السنة المشرفة، وأما المبحث الثاني والأخير فقد خصصناه للكلام عن أهمية التزكية في حياة الأمة واشتمل على مطلبين: الأول في اعتناء المسلمين بالتزكية، والثاني في حاجة المسلمين إلى تزكية النفس.
وختمنا هذا البحث بأهم ما استخلصناه من النتائج، وما استفدناه خلال فصوله ومباحثه، نسأل الله تعالى أن يجعله خالصا لوجهه الكريم، إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
الفصل الأول: التصرفات النبوية و أثرها في الاجتهاد الفقهي
المبحث الأول: تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم.
لقد كان من مظاهر الاهتمام بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، التفات العلماء إلى تنوع تصرفات النبي عليه الصلاة والسلام، وقد برز هذا النقاش قديما ضمن مباحث السنة النبوية فيما يجب فيه الإتباع وما لا يجب[8]، وضمن مباحث العقيدة لدى حديثهم عن معنى اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد اتجه رأيٌ إلى أن مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم هي الرسالة فقط، وأن تصرفه هو تصرف بالتبليغ ليس غير، ومن كلام أحد المعاصرين في ذلك وهو يتحدث عن غايته من كتابه: “التأكيد على أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم رسالة إلى عباده، ومهمة الرسول صلى الله عليه وسلم تقتصر على التبليغ ليس غير”[9]. إلا أن أغلب العلماء[10] يثبتون كون تصرفاته عليه السلام متنوعة وليست في مرتبة واحدة ولا على وزن واحد. وهذا المبحث سيتناول بإذن الله تعالى، بيان مفهوم التصرفات النبوية، و تقسيمات العلماء لها.
المطلب الأول: مفهوم التصرفات النبوية.
أ- المدلول اللغوي:
التصرف في اللغة مأخوذ من الصرف، و الذي يدل في اللغة على معاني العدل، والتقلب والحيلة، جاء في القاموس المحيط: “صرفته في الأمر تصريفا فتصرف، قلبته فتقلب واصطرف، تصرف في طلب الكسب”[11]. وفي لسان العرب: “الصرف التقلب و الحيلة، يقال: فلان يصرف ويتصرف ويصطرف لعياله، أي يكتسب لهم… والصرف الحيلة ومنه التصرف في الأمور”[12].
ب- المدلول الإصطلاحي:
يمكن تعريف التصرفات النبوية بأنها عموم التدابير القولية والفعلية والتقريرية التي صدرت عن الرسول صلى الله عليه وسلم سواء أريد بها التشريع أولا، واختيار لفظ “التصرفات” بدل “السنة” راجع إلى كون معنى السنة يحتاج إلى التدقيق نظرا لاختلاف استعمالاته بين العلماء، فقد يضم من أقواله صلى الله عليه وسلم ما هو مرتبط بالعقيدة فيكون معنى السنة هنا مقابلا للبدعة وقد يطلق لفظ السنة أيضا على ما عليه عمل الصحابة.[13]
ولأن لفظ السنة يحتمل هذه المعاني، فإن لفظ التصرفات ينصرف إلى عموم التدابير العملية من قول أو فعل أو تقرير، سواء كانت للإقتداء أو لم تكن، وسواء كانت في الأمور الدينية أو الدنيوية[14]، وذلك حتى تندرج سائر تصرفات رسول الله صلى الله عليه وسلم ضمن هذا المفهوم، فنقول هذا تصرف بالتشريع، وهذا تصرف بالقضاء، وهذا تصرف بالتزكية، وهذا تصرف بالإرشاد إلى الأفضل من منافع الدنيا، وهذا تصرف بمحض بشريته صلى الله عليه وسلم…
والظاهر لي، أن إطلاق لفظ “التصرفات” على هذه المناصب والأفعال النبوية كان من عمل الإمام القرافي في كتاب “الإحكام” و “الفروق”، وذلك سيرا على إطلاق شيخه العز بن عبد السلام في “قواعد الأحكام” على أن العلماء قد استعملوا ألفاظا أخرى لتأدية نفس المعنى، منها على سبيل المثال: لفظ “المنصب” عند الإمام ابن القيم في “إعلام الموقعين”، ولفظ “الحال” عند الإمام ابن عاشور في “مقاصد الشريعة” وعند الإمام الشاطبي في “الموافقات” وغيرهم، واستعمل بعض المعاصرين عبارة “أفعال الرسول”[15] للإشارة إلى هذا المعنى، وعلى هذا فإن لفظ المنصب لا يشمل سوى مهمات الرسالة والقضاء والإفتاء والتزكية والإمامة، دون سائر التصرفات الأخرى، فنقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم تقلد منصب الإمامة، لكن يتعذر أن نقول في أفعاله العادية أو المتصلة بجبليته أنها مناصب وأما لفظ الحال أو المقام، فإنما هو مصدر التصرف النبوي[16]، ذلك أن المقام إذا اقتضى أن يبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يقضي أو يزكي… فإنه آنذاك يتصرف بالتبليغ أو القضاء أو التزكية.
فيتبين من خلال هذه المدلولات أن لفظ “التصرفات النبوية”، أكثر هذه الإطلاقات دقة واستيعابا.
المطلب الثاني: أنواع التصرفات النبوية:
برز الكلام عن التصرفات النبوية، من خلال تعرض العلماء في مسائل السنة النبوية إلى ما كان من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم تشريعا للأمة كافة إلى يوم القيامة، وما كان منها متوقفا على علة فيترخص الفعل للمكلف بحسب وجودها، وما كان منها لقصد التأديب لا الوجوب… وهذا التقسيم يعود إلى الإمام ابن قتيبة الدينوري ( ت: 276هـ ) في كتابه “تأويل مختلف الحديث”[17]، ولعله مجهود متميز بعد البذور الأولى لهذه المسألة، ثم جاء الإمام أبو الفضل عياض بن موسى اليحصبي – (ت: 544هـ)، ليضيف إلى هذا العمل جديدا في كتابه “الشفا بتعريف حقوق المصطفى”، فذكر ما يختص به صلى الله عليه وسلم مما ليس طريقه الإبلاغ، وما قاله من قبل نفسه في أمور الدنيا وظنه من أحوالها، والفرق بينه وبين ما قاله من قبل نفسه واجتهاده في شرع شرعه وسنة سنها[18]، وغير ذلك مما بثه في القسم الثالث من الكتاب.
ثم ذكر الإمام ابن القيم –(ت: 571هـ)، في إعلامه، منصب الإفتاء، فقال: “وأول من قام بهذا المنصب الشريف سيد المرسلين، وإمام المتقين، وخاتم النبيئين، عبد الله ورسوله، وأمينه على وحيه وسفيره بينه وبين عباده فكان يفتي عن الله عز وجل بوحيه المبين”[19].
وتحدث الإمام أبو إسحاق الشاطبي (ت: 790هـ)، عن الحال وأهميته في فهم مراد الشارع فقال: “كل خبر يقتضي في هذه الجهة أمورا خادمة لذلك الإخبار بحسب المخبر، والمخبر عنه، والمخبر به، ونفس الإخبار، في الحال والمساق، ونوع الأسلوب؛ من الإيضاح والإخفاء، والإيجاز والإطناب، وغير ذلك إلى أن قال: يتنوع أيضا بحسب تعظيمه أو تحقيره – أعني المخبر عنه – وبحسب الكناية عنه والتصريح به، وبحسب ما يقصد في مساق الأخبار، وما يعطيه مقتضى الحال”[20]، ثم ذكر في موضع آخر أن من فاته فهم “مقتضيات الأحوال” فاته فهم الكلام جملة أو فهم شيء منه[21].
وتكلم ولي الله الدهلوي – وهو من أهل القرن الثاني عشر – في كتابه “حجة الله البالغة” عن أقسام علوم النبي صلى الله عليه وسلم، فجعلها على قسمين:
– أولا: ما سبيله تبليغ الرسالة، وفيه قوله تعالى: }وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا{ [22]، ثانيا: ما ليس من باب تبليغ الرسالة وفيه قوله: “إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر” إلى أن قال: ومنه ما قصد به مصلحة جزئية يومئذ وليس من الأمور اللازمة لجميع الأمة “[23].
غير أن الصياغة المكتملة الأولى لمسألة التصرفات النبوية،لم تر النور إلا مع الإمام الصنهاجي الفذ، شهاب الدين أبي العباس أحد بن إدريس بن عبد الرحمـن القرافي، المتوفي سنة أربع وثمانين وستمائة للهجرة، وذلك من خـلال كتابيه “أنوار البروق في أنواء الفروق[24] المعروف ب “الفروق” و “الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام”[25].
والجدير بالذكر أن سلطان العلماء أبا محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام السلمي (ت: 660هـ)، عقد فصلا في كتابه “قواعد الأحكام في مصالح الأنام” ذكر فيه أمثلة من تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم، واختلاف العلماء في الحكم عليها وسماه: “فصل في الحمل على الغالب والأغلب في العادات”، فقال: “فمن هذا تصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفتيا والحكم والأمانة العظمى، فإنه إمام الأمة؛ فإذا صدر منه تصرف حمل على أغلب تصرفاته وهو الفتيا ما لم يدل دليل على خلافه”[26]. ولعل هذا الكلام هو الذي بنى عليه تلميذه القرافي فرقه بين قاعدة تصرف النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء، وبين قاعدة تصرفه بالفتوى وهي التبليغ و بين قاعدة تصرفه بالإمامة، ومما ذكره القرافي في هذه القاعدة أسوق ما يلي: “اعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الإمام الأعظم والقاضي الأحكم والمفتي الأعلم، فهو صلى الله عليه وسلم إمام الأئمة وقاضي القضاة، وعالم العلماء، فجميع المناصب الدينية فوضها الله تعالى إليه في رسالته، وهو أعظم من كل من تولى منصبا منها في ذلك المنصب إلى يوم القيامة، فما من منصب ديني إلا وهو متصف به في أعلى رتبة، غير أن غالب تصرفه صلى الله عليه وسلم بالتبليغ، لأن وصف الرسالة غالب عليه، ثم تقع تصرفاته صلى الله عليه وسلم منها ما يكون بالتبليغ والفتوى إجماعا، ومنها ما يجمع الناس على أنه بالقضاء، ومنها ما يجمع الناس على أنه بالإمامة ومنها ما يختلف العلماء فيه، لتردده بين رتبتين فصاعدا، فمنهم من يغلب عليه رتبة، ومنهم من يغلب عليه أخرى”[27]، فجعل القرافي رحمه الله، تصرفات الرسول عليه السلام على أربعة أنواع: التبليغ، الفتوى، القضاء، والإمامة، وقد انتقد ابن الشاط هذا التقسيم، واقترح تقسيما آخر مفاده؛ أن المتصرف في الحكم الشرعي إما أن يكون تصرفه فيه بتعريفه، فإن كان رسولا فذلك هو التصرف بالرسالة وإلا فهو تصرف بالفتوى، و إن كان تصرفه في الحكم بتنفيذه، فإما أن يكون بفصل وقضاء وإبرام وإمضاء، فذلك هو التصرف بالقضاء، وإن لم يكن كذلك فهو التصرف بالإمامة.[28]
لكن هذا التقسيم أيضا لا ينضبط إذ يجوز على الإمام أن يتصرف بالقضاء أو بالفتوى، فيكون إماما وقاضيا ومفتيا، لذلك قال القرافي في الإحكام: “إن للإمام أن يقضي وأن يفتي… وله أن يفعل ما ليس بفتيا ولا قضاء كجمع الجيوش وإنشاء الحروب وحوز الأموال وصرفها في مصارفها وتولية الولاة – وقتل الطغاة، وهي أمور كثيرة تختص به ولا يشاركه فيها القاضي ولا المفتي، فكل إمام قاض ومفت… ونبه على هذه الخصائص قوله عليه الصلاة والسلام: “أقضاكم علي وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأشار إلى إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين، بقوله عليه السلام: “مروا أبا بكر فليصل بالناس “.[29]
ومن أبرز من تعرض للموضوع، الفقيه المالكي المعاصر محمد الطاهر بن عاشور، في كتاب “مقاصد الشريعة الإسلامية” حيث تفرد رحمه الله بذكر مجموعة أخرى من هذه التصرفات، فأوصلها إلى أثني عشرا حالا، قال رحمه الله: “وقد عرض لي الآن أن أعد من أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم التي يصدر عنها قول منه أو فعل اثني عشر حالا، منها ما وقع في كلام القرافي ومنها ما لم يذكره، وهي: التشريع والفتوى والقضاء والإمارة، والهدي، والصلح، والإشارة على المستشير، والنصيحة وتكميل النفوس، وتعليم الحقائق العالية، والتأديب، والتجرد عن الإرشاد”،[30] ثم شرع في التمثيل لكل حال، مع التنبيه على أماراته، ذاكرا مواطن اختلاف الفقهاء، ليقرر أن أشد الأحوال اختصاصا برسول الله صلى الله عليه وسلم هي حالة التشريع، لأن التشريع هو المراد الأول لله تعالى من بعتثه حتى حصر أحواله فيه في قوله تعالى: ]وما محمد إلا رسول[[31]: “فلذلك يجب المصير إلى اعتبار ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأقوال و الأفعال فيما هو من عوارض أحوال الأمة، صادرا مصدر التشريع ما لم تقم قرينة على خلاف ذلك”[32]، وهذا الكلام القيم للإمام الطاهر بن عاشور يضع معيارا عاما للتمييز بين ما هو صادر على وجه التشريع وما ليس كذلك، وهو أن الأصل في تصرفاته صلى الله عليه وسلم هو التشريع، ما لم تقم قرينة تصرفها عن هذا الغرض فتدل على خلاف ذلك.
فيتقرر من خلال مجموع هذه الجهود أن ما يصدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من التصرفات، منه ما يكون تشريعا عاما لأمته، وهو الغالب، ومنه ما يكون خاصا ببعض أفرادها كالإمامة و القضاء ومنه ما يتعلق ببشريته عليه السلام ولا يكون موضوعا لمطالبة الأمة بفعله… قال الطاهر بن عاشور: “فلا بد للفقيه من استقراء الأحوال وتوسم القرائن الحافة بالتصرفات النبوية، فمن قرائن التشريع الاهتمام بإبلاغ النبي صلى الله عليه وسلم إلى العامة، و الحرص على العمل به والإعلام بالحكم، وإبرازه في صورة القضايا الكلية”[33]. ومن علامات عدم قصد التشريع عدم الحرص على تنفيذ الفعل”[34].
الهوامش:
[1] انظر الفروق 1/ 221.
[2] مقاصد الشريعة الإسلامية لابن عاشور ص: 35.
[3] الفروق 1 /233
[4] مقاصد الشريعة الإسلامية ص: 32.
[5] بحث لنيل الدكتوراه الوطنية بجامعة محمد الخامس، كلية الآداب و العلوم الإنسانية، من إعداد إبراهيم ألواح.
[6] الشمس: 8.
[7] الترك النبوي و أثره في التشريع، إبراهيم ألواح.ص 136
[8] عقد الإمام مسلم في صحيحه من كتاب الفضائل بابا سماه: ” باب وجوب امتثال ما قاله شرعا دون ما ذكره من معايش الدنيا على سبيل الرأي”.
[9] ادية شريف العمري اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم، ص: 10-11.
[10] من المتقدمين: ابن قتيبة الدينوري في “تأويل مختلف الحديث”، القاضي عياض في “الشفا”، ابن القيم في “إعلام الموقعين” والقرافي في كتابيه “الإحكام” و “الفروق” ومن المعاصرين الطاهر بن عاشور في كتابه “مقاصد الشريعة الإسلامية “، ولنا مع هؤلاء الأئمة وقفة فيما سيتقدم.
[11] لقاموس المحيط 3/ 218.219
[12] لسان العرب 9/ 190.
[13] الموافقات في أصول الشريعة ص 724.
[14] تصرفات الرسولصلى الله عليه وسلم بالإمامة، سعد الدين العثماني، ص 8.
[15] ألف د. محمد بن سليمان الأشقر كتابا سماه ” أفعال الرسول ودلالتها على الأحكام الشرعية”. صدر عن مؤسسة الرسالة في جزأين.
[16] مقاصد الشريعة الإسلامية ابن عاشور، ص 27.
[17] تأويل مختلف الحديث ص 189 وما بعدها.
[18] الشفا بتعريف حقوق المصطفى. ط: المكتبة التوفيقية ح: احمد المزيدي 2/ 123.85.
[19] إعلام الموقعين عن رب العالمين 1/ 11.
[20] الموافقات في أصول الشريعة ص: 257.
[21] نفس المصدر ص: 675 و 676.
[22] الحشر: 7.
[23] حجة الله البالغة 1 /240، 241.
[24] وهو كتاب في قواعد الفقه ضمنه القرافي رحمه الله أصول قواعد الأحكام و أمهاتها الجامعة لفروع الفقه ومسائل العلم التي جاء الكثير منها مفرقا في موسوعته الفقهية ” الذخيرة “، قال في مقدمته: ” فوضعت هذا الكتاب للقواعد خاصة وزدت قواعد كثيرة ليست في الذخيرة وزدت ما وقع منها في الذخيرة بسطا و إيضاحا ” فكان مجموع هذه الفروق و القواعد حوالي 274 فرقا، وهو من أهم كتب القواعد عند المالكية، أشهر شروحه كتاب ابن الشاط – ت 723 – إدرار الشروق على أنواء الفروق” وهو مطبوع بحاشية الفروق، وعلق على الكتاب أيضا محمد علي المكي في كتاب سماه ” تهذيب الفروق و القواعد السنية في الأسرار الفقهية” وهو مطبوع مع ” الفروق ” و ” إدرار الشروق” بدار الكتب العلمية سنة 1998، يتحقيق خليل المنصور في 4 مجلدات، كما حقق د. عبد الحميد هنداوي طبعة المكتبة العصرية الأولى الصادرة سنة 2002، وهي 4 أجزاء في مجلد واحد، واختصر الفروق أبو عبد = لله محمد بن أبي القاسم التونسي وهو غير مطبوع، والبقوري في كتاب ” ترتيب الفروق و اختصارها” طبع عدة مرات.
[25] موضوع الكتاب من أهم المباحث الخاصة بالتشريع الإسلامي، يبحث فيه مصنفه ما دار بينه و بين بعض فضلاء عصره في أمور الفتيا وتصرفات الحكام و الأئمة، على شكل أسئلة و أجوبة بلغت أربعين سؤالا فجاء الكتاب فريدا في نوعه متميزا في بابه، وقد طبع الإحكام عدة طبعات، منها طبعة ” الأنوار” 1357هـ/1938م بتعليق د.محمد عرنوس، وطبعة دار الكتب العلمية 2004 تحقيق أحمد فريد المزيدي…
[26] قواعد الأحكام في مصالح الأنام 1/ 142.
[27] الفروق 1/ 221.
[28] القواعد السنية في الأسرار الفقهية بهامش الفروق 1/ 221.
[29] الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام.. ص: 43
[30] مقاصد الشريعة الإسلامية ص: 27.
[31] آل عمران: 144.
[32] مقاصد الشريعة الإسلامية، ص: 36.
[33] نفس المصدر ص: 36.
[34] نفس المصدر ص: 36.