تدبير العلاقات الانسانية لمواجهة خطر التطرف
يشكل التطرف خطرا على أمن واستقرار المجتمع، لأنه يكبل العقل، ويضيق الأفق الواسع، ويساهم في تخريب أسس التعايش المشترك بين الناس، وهو سبب في تسميم العلاقات الانسانية ويفتتها، وهو قنطرة إلى الارهاب والدمار، فمن المعلوم أن العالم يسكنه مجموعة من الأجناس والأعراق البشرية المختلفة في الثقافات واللغات والعادات...، اختلاف تنوع، وليس اختلاف تضاد، فكل من يريد فرض هيمنة لنوع ما، أو تمكين السيطرة لفكر ما، هو التطرف بعينة، ويعد عملا غير مقبول، وغير مرغوب فيه، لذلك فالسؤال المطروح بإلحاح في وقنتا الراهن هو: كيف ندبر علاقاتنا مع الغير في عالم مختلف بدون تطرف ولا إرهاب؟ أو بعبارة أخرى كيف ندبر العلاقات الانسانية لمواجهة شبح التطرف؟
إن الاجابة على هذا السؤال يقتضي منا معرفة الأسس التي تنبني عليها العلاقات الانسانية في هذا العالم الذي أصبح اليوم عبارة عن قرية صغيرة، بفضل التقنيات والوسائل التكنولوجية الحديثة.
إن علاقاتنا مع الغير تتسم بنوع من الاكتشاف وحب المعرفة والفضول من حيث لغته وثقافته وحضارته... ولا وصاية للإنسان على غيره، ولا يحق له أن يفرض نفسه عليه، ولنتأمل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) [الحجرات/13] فالخطاب موجه للبشرية جمعاء (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) على اختلافهم وتنوعهم، وهو نداء يلامس الكينونة الإنسانية، من حيث أن أصلهم واحد وتكوينهم واحد، فهم بذلك متساوون في الكرامة الانسانية، هذا التكريم الإلهي الذي حباه للإنسان، وميزه عن غيره من المخلوقات يجب الاعتبار به، قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) [الإسراء/70] فخطاب التكريم ينفي الاستعلاء على الغير، والنظر إليه بدونية واستحقار، وهذا هو عين ما سقط فيه المتطرفون الذين ينظرون إلى الناس بدونية واستحقار واستعلاء، وهو ما يفضي إلى التنافر ويأجج الصراع، لأنهم وضعوا أمام الغير وأمام العلاقات الانسانية، سدا منيعا يمنع كل تواصل، وكل فرصة للمعرفة والتآلف، وسقطوا بذلك في فخ الكراهية البغيضة.
أما قوله تعالى: (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ) فهو تذكير وتصريح بحقيقة التنوع الانساني من حيث العرق واللغة والثقافة والأديان والمذاهب والفلسفات... فهذا التنوع والاختلاف وجد ليتعارف بعضنا مع بعض، ولنتعاون ونتكاثف مع بعضنا البعض لمواجهة التحديات الانسانية التي تعترض تقدم البشرية خصوصا في عصرنا الحالي، من هذه التحديات والمخاطر (المخاطر الأمنية/ البيئية / الغذائية ...) لا أن نجعل من هذا الاختلاف وسيلة للهيمنة والسيطرة والصراع.
أما قوله تعالى: (لِتَعَارَفُوا) فالأساس الذي يجب أن يطبع العلاقات الانسانية مهما كانت الظروف هو: المعرفة، وعُبر عنها ب: "تعارفوا" "تفاعل" زيادة في المعرفة المتبادلة بين الطرفين، وكل ما هو متعارف عليه بين الناس وقبلته الفطرة السوية، وكل ما يمكن أن يقيم العلاقات الانسانية الطيبة بينهم، ويجعلهم في صلة دائمة، قائمة على التعايش والتساكن والتراحم والتعاون، كلها قيم وأخلاق تنمي في الانسان حس المسؤولية الانسانية الملقاة على عاتقه، فعلى قدر التشريف يكون التكليف، وما الأمانة التي حملها الانسان وتقلدها ليكون خليفة الله في أرضه إلا ليعمر الأرض على أساس التعارف و التساكن والتآلف والمحبة المتبادلة لما فيه مصلحة العالم اليوم الذي يحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى التعاون على ما فيه خير للإنسانية جمعاء، وفي الحديث: (الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف) (صحيح مسلم/رقم الحديث: 4681)، فلا يأتي من التعارف إلا الخير والنماء والازدهار، فهو سبب التآلف والمحبة، وفي المقابل لا يأتي من التطرف الذي هو التناكر إلا كل شر وخصومة وصراع وخراب.
إن تدبير العلاقات الانسانية يجب أن يكون على أساس التعارف والتعاون والمحبة وحمل هم أعباء التحديات المعاصرة التي تواجه الانسان من أجل تحييد المخاطر المتنوعة والمتعددة التي تهدد حياة الانسان وعلى رأس هذه المخاطر التطرف الذي هو سبب تخريب أسس العلاقات الانسانية، لأنه يقطع التواصل والصلة التي تجمع بين بني البشر على اختلافهم وتنوعهم.
إذا حللنا بنية التفكير لدى المتطرفين نجدهم يحومون حول (الأنا) فلا صواب إلا ما رأوه صوابا، ولا طريق إلا ما رأوه طريقا، وكل من خالفهم فهو ضال، وجب الطعن فيه حسب رأيهم، هذه الأنانية المفرطة تحجبهم عن إدراك مبدأ الاختلاف، وحق الناس في العيش بحرية وكرامة، ولا يخفى على أحد ما لهذا السلوك من أثر في نشر ثقافة الكراهية والحقد والصدام مع الآخر، كما ينتج عن هذا السلوك النفسي الخطير انتقال المتطرفين إلى مرحلة متقدمة من التطرف، وهو ترجمة هذا السلوك إلى عمل مادي بهدف التحضير والتنفيذ لجرائمهم في حق الأفراد والمؤسسات والدولة، فيبحثون عن أي وسيلة لتنفيذ الركن المادي للجريمة، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، فيضطرون إلى السرقة والنهب على أساس أن مال الغير حلال في سبيل نُصرة فكرهم المتطرف، وقد يعمدون إلى الاتصال والتخابر مع أعداء الوطن بغية الحصول على تمويلات وتحويلات مالية لشراء الأسلحة أو المواد الأولية لصنع المتفجرات أو كل ما من شأنه أن يلحق الضرر بالأفراد والمؤسسات والممتلكات... وقد يدخل المتطرفون في سلسلة من المعاملات المشبوهة كالإتجار في المخدرات والاتجار في البشر وغيرها من المعاملات غير القانونية وحجتهم في ذلك أن الغاية تبرر الوسيلة.
من هنا يتبين لنا خطر التطرف على أمن وسلامة الأفراد والممتلكات والمؤسسات والدولة، فالعديد من التقارير الاستخباراتية تؤكد بالدليل الملموس انضواء العديد من المتطرفين تحت مظلة المنظمات الإرهابية والإجرامية سواء كانت محلية أو دولية في بعض الأحيان، والتعاون مع خونة الوطن، وكلهم يشتركون في السلوك الاجرامي التخريبي، وإن اختلفت الدوافع والمنطلقات.
في الختام لا يمكن تحييد خطر التطرف إلا عن طريق بناء علاقات انسانية أكثر ترابطا وتلاحما عن طريق نشر ثقافة الاختلاف البناء، الذي يقر بحق الناس في الاختلاف، والعيش بكرامة وحرية في ظل احترام سيادة القانون والنظم المعتمدة في الدولة، والتعاون بين الناس ومؤسسات الدولة والمجتمع المدني في خدمة الصالح العام، وتحقيق الأمن والأمان، وتكاثف العمل البناء في سبيل تجاوز التحديات التي تمر منها الانسانية.
ومن أهم التوصيات التي يمكن العمل عليها لتحقيق هذا المبتغى:
-أهمية بناء العلاقات الانسانية على أساس المحبة والسلام والتعايش.
- نشر قيم المحبة والتعايش عبر تنظيم دورات تدريبية وندوات ولقاءات علمية وثقافية محلية ودولية.
- التنسيق مع جميع الأطراف والمؤسسات المهتمة بمحاربة التطرف لوضع خطط ومناهج واستراتيجيات حسب المستجدات في هذا المجال.
- الاستفادة من التقارير الاستخباراتية والمحاضر الأمنية والقضائية لفهم سلوك المتطرفين ودراستها، وإيجاد حلول لتمنيع المجتمع وحمايتهم من خطر التطرف.
- نشر ثقافة مبدأ الاختلاف والتعايش عبر عقد ورشات ومنتديات افتراضية، واعداد وسائط رقمية يسيرة وسهلة الفهم يمكن أن تصل إلى عدد كبير من رواد التواصل الاجتماعي.