مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكشذور

تأصيل الكرامة

       قال الامام الشاطبي رحمه الله:

          “كما أن الأحكام والتكليفات عامة في جميع المكلفين على حسب ما كانت بالنسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما خص به، كذلك المزايا والمناقب، فما من مزية أعطيها رسول الله صلى الله عليه وسلم   -سوى ما وقع استثناؤه –  إلا وقد أعطيت أمته منها أنموذجا، فهي عامة كعموم التكاليف، بل قد زعم ابن العربي أن سنة الله جرت أنه إذ أعطى الله نبيا شيئا أعطى أمته منه، وأشركهم معه فيه، ثم ذكر من ذلك أمثلة، وما قاله يظهر في هذه الملة بالاستقراء:
أما أولا، فالوراثة العامة في الاستخلاف على الأحكام المستنبطة، وقد كان من الجائز أن تُتعبد الأمة بالوقوف عند حد من غير استنباط، وكانت تكفي العمومات والإطلاق حسبما قاله الأصوليون، ولكن الله منّ على العباد بالخصوصية التي خص بها نبيه عليه الصلاة والسلام، إذ قال تعالى: (لتحكم بين الناس بما أراك الله)، وقال في الأمة: (لعلمه الذين يستنبطونه منهم)، وهذا واضح فلا يطول به.
وأما ثانيا، فقد ظهر ذلك من مواضع كثيرة، نقتصر منها على ثلاثين وجها:
أحدها: الصلاة من الله تعالى، فقال تعالى في النبى عليه الصلاة والسلام: (إن الله وملائكته يصلون على النبي) الآية، وقال في الأمة: (هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور) ، وقال: (أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة).

          والثاني الإعطاء إلى الإرضاء، قال تعالى في النبي: (ولسوف يعطيك ربك فترضى)، وقال في الأمة: (ليدخلنهم مدخلا يرضونه)، وقال: ( رضي الله عنهم ورضوا عنه).
والثالث: غفران ما تقدم وما تأخر، قال تعالى: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر)، وفي الأمة ما روي أن الآية لما نزلت قال الصحابة: هنيئا مريئا فما لنا؟، فنزل: (ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم)، فعمّ ما تقدم وما تأخر. وفي الآية الأولى إتمام النعمة في قوله: (ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما)، وقال في الأمة: (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم) الآية، وهو الوجه الرابع.
والخامس: الوحي وهو النبوة، قال تعالى: (إنا أوحينا إليك)، وسائر ما في هذا المعنى، ولا يحتاج إلى شاهد، وفي الأمة: “الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة”.

          والسادس: نزول القرآن على وفق المراد، قال تعالى: (قد نرى تقلب وجهك في السماء)، فقد كان عليه الصلاة والسلام يحب أن يرد إلى الكعبة، وقال تعالى أيضا: (ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء)، لما كان قد حبب إليه النساء، فلم يوقف فيهن على عدد معلوم، وفي الأمة قال عمر: وافقت ربي في ثلاث: قلت يا رسول الله لو اتخذت مقام إبراهيم مصلى، فنزلت: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى)، وقلت: يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب، قال وبلغني معاتبة النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه، فدخلت عليهن فقلت: إن انتهيتن، أو ليبدلن الله رسوله خيرا منكن، فأنزل الله: (عسى ربه إن طلقكن) الآية، وحديث التي ظاهر منها زوجها، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم أن زوجي ظاهر مني، وقد طالت صحبتي معه، وقد ولدت له أولادا، فقال عليه الصلاة والسلام: “قد حرمت عليه”، فرفعت رأسها إلى السماء فقالت: إلى الله أشكو حاجتي إليه. ثم عادت فأجابها ثم ذهبت لتعيد الثالثة، فأنزل الله: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها) الآية، ومن هذا كثير لمن تتبع. ونزلت براءة عائشة رضي الله عنها من الإفك على وفق ما أرادت، إذ قالت: وأنا حينئذ أعلم أني بريئة، وأن الله مبرئي ببرآءتي، ولكن والله ما ظننت أن الله منزل في شأني وحيا يتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيّ بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها. وقال هلال ابن أمية: والذي بعثك بالحق إني لصادق، فلينزلن الله ما يبرىء ظهري من الحد، فنزل: (والذين يرمون أزواجهم) الآية، وهذا خاص بزمان رسول الله صلى الله عليه وسلم لانقطاع الوحي بانقطاعه.
          والسابع: الشفاعة، قال تعالى: (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا)، وقد ثبت شفاعة هذه الأمة كقوله عليه الصلاة والسلام في أويس: يشفع في مثل ربيعة ومضر، أئمتكم شفعاؤكم وغير ذلك.
          والثامن: شرح الصدر، قال تعالى: (ألم نشرح لك صدرك) الآية، وقال في الأمة: (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه).
          والتاسع:
الاختصاص بالمحبة، لأن محمدا حبيب الله، ثبت ذلك في الحديث إذ خرج عليه الصلاة والسلام، ونفر من أصحابه يتذاكرون، فقال بعضهم: عجبا إن الله اتخذ من خلقه خليلا. وقال آخر ماذا بأعجب من كلام موسى كلمه الله تكليما، وقال آخر فعيسى كلمة الله وروحه، وقال آخر: آدم اصطفاه الله، فخرج عليهم فسلم وقال: “قد سمعت كلامكم وعجبكم، إن الله اتخذ إبراهيم خليلا وهو كذلك، وموسى نجي الله وهو كذلك، وعيسى روح الله وهو كذلك، وآدم اصطفاه الله وهو كذلك، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول شافع وأنا أول مشفع ولا فخر، وأنا أول من يحرك حلق الجنة فيفتح الله لي فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر”، وفي الأمة: (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه) الآية، وجاء في هذا الحديث أنه أول من يدخل الجنة وأن أمته كذلك، وهو العاشر.
وأنه أكرم الأولين والآخرين، وقد جاء في الأمة: (كنتم خير أمة أخرجت للناس)، وهو الحادي عشر.
         والثاني عشر: أنه جعل شاهدا على أمته اختص بذلك دون الأنبياء عليهم السلام. وفي القرآن الكريم: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا).
         والثالث عشر: خوارق العادات، معجزات وكرامات للنبي صلى الله عليه وسلم، وفي حق الأمة كرامات، وقد وقع الخلاف هل يصح أن يتحدى الولي بالكرامة دليلا على أنه ولي أم لا، وهذا الأصل شاهد له، وسيأتي بحول الله وقدرته.
         والرابع عشر: الوصف بالحمد في الكتب السالفة وبغيره من الفضائل، ففي القرآن: (ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد)، وسميت أمته الحمادين.
        والخامس عشر: العلم مع الأمية، قال تعالى: (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم) ، وقال: (فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي) الآية، وفي الحديث: “نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب”.

  “والسادس عشر: مناجاة الملائكة، ففي النبي صلى الله عليه وسلم ظاهر، وقد روي في بعض الصحابة رضي الله عنهم أنه كان يكلمه الملك ، كعمران بن الحصين، ونقل عن الأولياء من هذا.
          والسابع عشر: العفو قبل السؤال، قال تعالى: (عفا الله عنك لم أذنت لهم)، وفي الأمة: (ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم).
          والثامن عشر: رفع الذكر، قال تعالى: (ورفعنا لك ذكرك)، وذكر أن معناه قرن اسمه باسمه في عقد الإيمان وفي كلمة الأذان، فصار ذكره عليه الصلاة والسلام مرفوعا منوها به، وقد جاء من ذكر الأمة ومدحهم والثناء عليهم في القرآن وفي الكتب السالفة كثير. وجاء في بعض الأحاديث عن موسى عليه الصلاة والسلام أنه قال: “اللهم اجعلني من أمة أحمد”، لما وجد في التوراة من الإشادة بذكرهم والثناء عليهم.
           والتاسع عشر: أن معاداتهم معاداة لله، وموالاتهم موالاة لله، قال تعالى: (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله)، وفي الحديث: “من آذاني فقد آذى الله “، وفي الحديث: “من آذى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة”، وقال تعالى (من يطع الرسول فقد أطاع الله) ومفهومه من لم يطع الرسول لم يطع الله.
          وتمام العشرين: الاجتباء فقال تعالى في الأنبياء عليهم السلام (واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم)، وفي الأمة (هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج) ، وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام مصطفى من الخلق. وقال في الأمة (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا).
          والحادي والعشرون: التسليم من الله، ففي أحاديث إقراء السلام من الله تعالى على نبيه عليه الصلاة والسلام، وقال تعالى: (قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى) (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم) وقال جبريل للنبي عليه الصلاة والسلام في خديجة: “اقرأ عليها السلام من ربها ومني”.
         والثاني والعشرون: التثبيت عند توقع التفلت البشري، قال تعالى: (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا ) وفى الأمة (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة)
          والثالث والعشرون: العطاء من غير منة، قال تعالى: (وإن لك لأجرا غير ممنون ) وقال في الأمة ( فلهم أجر غير ممنون) .
          والرابع والعشرون: تيسير القرآن عليهم، قال تعالى (إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه) قال ابن عباس: علينا أن نجمعه في صدرك ، (ثم إن علينا بيانه) علينا أن نبينه على لسانك وفي الأمة (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مذكر) .
        والخامس والعشرون: جعل السلام عليهم مشروعا في الصلاة . إذ يقال في التشهد السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
           والسادس والعشرون: أنه سمى نبيه عليه السلام بجملة من أسمائه كالرؤوف الرحيم ، وللأمة: نحو المؤمن والخبير والعليم والحكيم.
          والسابع والعشرون: أمر الله تعالى بالطاعة لهم قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) وهم الأمراء والعلماء، وفي الحديث: “من أطاع أميري فقد أطاعني” وقال: “من يطع الرسول فقد أطاع الله “.
          والثامن والعشرون الخطاب الوارد مورد الشفقة والحنان كقوله تعالى (طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) (فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به) (واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا) وفي الأمة (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم) الآية (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) (يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا) (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما).
         والتاسع والعشرون: العصمة من الضلال بعد الهدى، وغير ذلك من وجوه الحفظ العامة، فالنبي صلى الله عليه وسلم قد عصمه الله تعالى من ذلك كله وجاء فى الأمة : “لا تجتمع أمتى على ضلالة ” وجاء “احفظ الله يحفظك” وفى القرآن: (لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين) تفسيره في قوله:
“لا تجتمع أمتى على ضلالة” وفي قوله: “وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها”.

        وتمام الثلاثين: إمامة الأنبياء، ففى حديث الإسراء أنه عليه الصلاة والسلام أمَّ بالأنبياء قال:
“وقد رأيُتنى فى جماعة من الأنبياء فحانت الصلاة فأممتهم”، وفى حديث نزول عيسى عليه السلام إلى الأرض فى آخر الزمان: “إن إمام هذه الأمة منها، وأنه يصلي مؤتما بإمامها” ومن تتبع الشريعة وجد من هذا كثيرا يدل على أن أمته تقتبس منه خيرات وبركات، وترث أوصافا وأحوالا موهوبة من الله تعالى ومكتسبة، والحمد لله على ذلك”.

“وهذا الأصل ينبني عليه قواعد:

         منها: أن جميع ما أُعطيته هذه الأمة من المزايا والكرامات، والمكاشفات والتأييدات وغيرها من الفضائل، إنما هي مقتبسة من مشكاة نبينا صلى الله عليه وسلم، لكن على مقدار الإتباع. فلا يظن ظان أنه حصل على خير بدون وساطة نبوته، كيف وهو السراج المنير الذي يستضيء به الجميع، والعلم الأعلى الذي به يهتدى في سلوك الطريق.

        ولعل قائلا يقول: قد ظهرت على أيدي الأمة أمور لم تظهر على يدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولا سيما الخواص التي اختص بها بعضهم كفرار الشيطان من ظل عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وقد نازع النبي عليه الصلاة والسلام فى صلاته الشيطان، وقال لعمر: “ما سلكتَ فجا إلا سلك الشيطان فجا غير فجك”، وجاء فى عثمان بن عفان رضي الله عنه: “أن ملائكة السماء تستحي منه”، ولم يرد مثل هذا بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء في أسيد بن حضير وعباد بن بشر “أنهما خرجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ليلة مظلمة فإذا نور بين أيديهما حتى تفرقا، فافترق النور معهما ولم يؤثر مثل ذلك عنه عليه الصلاة والسلام، إلى غير ذلك من المنقولات عن الصحابة ومن بعدهم، مما لم ينقل أنه ظهر مثله على يد النبي صلى الله عليه وسلم.

           فيقال: كل ما نقل عن الأولياء أو العلماء أو ينقل إلى يوم القيامة من الأحوال والخوارق والعلوم والفهوم وغيرها، فهي أفراد وجزئيات داخلة تحت كليات ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، غير أن أفراد الجنس وجزئيات الكلي قد تختص بأوصاف تليق بالجزئي من حيث هو جزئي، وإن لم يتصف بها الكلي من جهة ما هو كلي، ولا يدل ذلك على أن للجزئي مزية على الكلي، ولا أن ذلك فى الجزئي خاص به لا تعلق له بالكلي، كيف والجزئي لا يكون كليا إلا بجزئي، إذ هو من حقيقته وداخل فى ماهيته، فكذلك الأوصاف الظاهرة على الأمة لم تظهر إلا من جهة النبي صلى الله عليه وسلم فهي كالأنموذج من أوصافه عليه الصلاة والسلام وكراماته.

         والدليل على صحة ذلك أن شيئا منها لا يحصل إلا على مقدار الإتباع والإقتداء به، ولو كانت ظاهرة للأمة على فرض الاختصاص بها والإستقلال لم تكن المتابعة شرطا فيها، ويتبين هذا بالمثال المذكور فى شأن عمر.

           ألا ترى أن خاصيته المذكورة هي هروب الشيطان منه وذلك حفظ من الوقوع فى حبائله وحمله إياه على المعاصي، وأنت تعلم أن الحفظ التام المطلق العام خاصية الرسول صلى الله عليه وسلم إذ كان معصوما عن الكبائر والصغائر على العموم والإطلاق ولا حاجة إلى تقرير هذا المعنى هنا، فتلك النقطة الخاصة بعمر من هذا البحر.

          وأيضا فإن فرار الشيطان أو بُعده من الإنسان إنما المقصود منه الحفظ من غير زيادة وقد زادت مزية النبي صلى الله عليه وسلم فيه خواص منها أنه عليه الصلاة والسلام أقدره الله على تمكنه من الشيطان حتى هم أن يربطه إلى سارية المسجد، ثم تذكر قول سليمان عليه السلام (وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي) ، ولم يقدر عمر على شيء من ذلك. ومنها أن النبي عليه الصلاة والسلام اطلع على ذلك من نفسه ومن عمر ولم يطلع عمر على شيء منه ومنها أنه عليه الصلاة والسلام كان آمنا من نزعات الشيطان وإن قرب منه وعمر لم يكن آمنا وإن بعد عنه.
وأما منقبة عثمان فلم يرد ما يعارضها بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بل نقول: هو أولى بها وإن لم يذكرها عن نفسه إذ لا يلزم من عدم ذكرها عدمها. وأيضا فإن ذلك لعثمان لخاصية كانت فيه، وهي شدة حيائه وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد الناس حياء، وأشد حياء من العذراء فى خدرها فإذا كان الحياء أصلها فالنبي عليه الصلاة والسلام هو الذي حواه على الكمال.
وعلى هذا الترتيب يجري القول في أسيد وصاحبه، لأن المقصود بذلك الإضاءة حتى يمكن المشي في الطريق ليلا بلا كلفة، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يكن الظلام يحجب بصره، بل كان يرى في الظلمة كما يرى فى الضوء، بل كان لا يحجب بصره ما هو أكثف من حجاب الظلمة، فكان يرى من خلفه كما يرى من أمامه وهذا أبلغ حيث كانت الخارقة في نفس البصر لا في المبصر به على أن ذلك إنما كان من معجزات النبي عليه الصلاة والسلام وكراماته التي ظهرت في أمته بعده وفي زمانه.
فهذا التقرير هو الذي ينبغي الإعتماد عليه والأخذ لهذه الأمور من جهته لأعلى الجملة فربما يقع للناظر فيها بباديء الرأي إشكال ولا إشكال فيها بحول الله وانظر في كلام القرافي في قاعدة الأفضلية والخاصية.

     “ومن الفوائد في هذا الأصل أن ينظر إلى كل خارقة صدرت على يدي أحد، فإن كان لها أصل في كرامات الرسول عليه الصلاة والسلام ومعجزاته فهي صحيحة، وإن لم يكن لها أصل فغير صحيحة وإن ظهر ببادىء الرأى أنها كرامة، إذ ليس كل ما يظهر على يدي الإنسان من الخوارق بكرامة، بل منها ما يكون كذلك، ومنها ما لا يكون كذلك.
وبيان ذلك بالمثال أن أرباب التصريف بالهمم، والتقربات بالصناعة الفلكية والأحكام النجومية، قد تصدر عنهم أفاعيل خارقة، وهي كلها ظلمات بعضها فوق بعض، ليس لها في الصحة مدخل، ولا يوجد لها في كرامات النبي صلى الله عليه وسلم منبع، لأنه إن كان ذلك بدعاء مخصوص فدعاء النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على تلك النسبة، ولا تجري فيه تلك الهيئة، ولا اعتمد على قران في الكواكب، ولا التمس سعودها أو نحوسها، بل تجري مجرى الاعتماد على من إليه يرجع الأمر كله واللجأ إليه، معرضا عن الكواكب وناهيا عن الاستناد إليها، إذ قال: “أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر” الحديث، وإن تحرى وقتا أو دعا إلى تحريه فلسبب بريء من هذا كله، كحديث التنزل، وحديث اجتماع الملائكة طرفي النهار، وأشباه ذلك. والدعاء أيضا عبادة لا يزاد فيها ولا ينقص، أعني الكيفيات المستفعلة والهيئات المتكلفة التي لم يعهد مثلها فيما تقدم. وكذلك الأدعية التي لا تجد مساقها في متقدم الزمان ولا متأخره، ولا مستعمل النبي عليه الصلاة والسلام والسلف الصالح، والتي روعي فيها طبائع الحروف في زعم أهل الفلسفة ومن نحا نحوهم، مما لم يقل به غيرهم. وإن كان بغير دعاء كتسليط الهمم على الأشياء حتى تنفعل فذلك غير ثابت النقل، ولا تجد له أصلا، بل أصل ذلك حال حكمي، وتدبير فلسفي لا شرعي.

          هذا وإن كان الانفعال الخارق حاصلا به فليس بدليل على الصحة، كما أنه قد يتعدى ظاهرا بالقتل والجرح، بل قد يوصل بالسحر والعين إلى أمثال ذلك، ولا يكون شاهدا على صحته، بل هو باطل صرف، وتعد محض. وهذا الموضع مزلة قدم للعوام ولكثير من الخواص فليتنبه له.

         ومنها أنه لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم حذر وبشر وأنذر، وندب وتصرف بمقتضى الخوارق من الفراسة الصادقة، والإلهام الصحيح، والكشف الواضح، والرؤيا الصالحة، كان من فعل مثل ذلك ممن اختص بشيء من هذه الأمور على طريق من الصواب، وعاملا بما ليس بخارج عن المشروع، لكن مع مراعاة شرط ذلك. ومن الدليل على صحته زائدا إلى ما تقدم أمران:

         أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عمل بمقتضى ذلك، أمرا ونهيا وتحذيرا وتبشيرا وإرشادا، مع أنه لم يذكر أن ذلك خاص به دون أمته. فدل على أن الأمة حكمهم في ذلك حكمه، شأن كل عمل صدر منه ولم يثبت دليل على الاختصاص به دون غيره، ويكفي من ذلك ما ترك بعده في أمته من المبشرات. وإنما فائدتها البشارة والنذارة التي يترتب عليها الإقدام والإحجام.

        وقد قال عليه الصلاة والسلام لعبد الله بن عمر في رؤياه الملكين وقولهما له: “نعم الرجل أنت لو تكثر الصلاة”، فلم يزل بعد ذلك يكثر الصلاة. وفي رواية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن عبد الله رجل صالح لو كان يكثر الصلاة من الليل”. وقال عليه الصلاة والسلام لأبي ذر: ” إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي. لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم”. وقوله لثعلبة بن حاطبة وسأله الدعاء له بكثرة المال: “قليل تودي شكره خير من كثير لا تطيقه”. وقال لأنس: “اللهم كثر ماله وولده”. ودل عليه الصلاة والسلام أناسا شتى على ما هو أفضل الأعمال في حق كل واحد منهم، عملا بالفراسة الصادقة فيهم. وقال: “لأعطين الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه”، فأعطاها عليا رضي الله عنه ففتح الله على يديه، وقال لعثمان بن عفان: “إنه لعل الله أن يقمصك قميصا، فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه”، فرتب على الإطلاع الغيبي وصاياه النافعة، وأخبر أنه ستكون لهم أنماط ويغدو أحدهم في حلة ويروح في أخرى، وتوضع بين يديه صحفة وترفع أخرى، ثم قال آخر الحديث: “وأنتم اليوم خير منكم يومئذ”، وأخبر بملك معاوية ووصاه، وأن عمارا تقتله الفئة الباغية، وبأمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها، ثم وصاهم كيف يصنعون وأنهم سيلقون بعده أثرة ثم أمرهم بالصبر. إلى سائر ما أخبر به عليه الصلاة والسلام من المغيبات التي حصلت بها فوائد الإيمان والتصديق، والتحذير والتبشير، وغير ذلك وهو أكثر من أن يحصى.

         والثانى عمل الصحابة رضى الله عنهم بمثل ذلك من الفراسة والكشف والإلهام والوحي النومي، كقول أبي بكر: “إنما هما أخواك وأختاك”، وقول عمر: “يا سارية الجبل”، فأعمل النصيحة التي أنبأ عنها الكشف، ونهيه لمن أراد أن يقص على الناس وقال: “أخاف أن تنتفخ حتى تبلغ الثريا”، وقوله لمن قص عليه رؤياه أن الشمس والقمر رآهما يقتتلان فقال: مع أيهما كنت؟ قال: مع القمر. قال: “كنت مع الآية الممحوة، لا تلي عملا أبدا”، ويكثر نقل مثل هذا عن السلف الصالح ومن بعدهم من العلماء والأولياء نفع الله بهم. ولكن يبقى هنا النظر فى شرط العمل على مقتضى هذه الأمور، والكلام فيه يحتمل بسطا”.

 

 

الموافقات في أصول الشريعة

 للإمام أبي اسحاق الشاطبي المالكي (ت 790).

ج2، الصفحة 189 وما يليها.
تحقيق فضيلة الشيخ عبد الله دراز
دار الكتب العلمية بيروت.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق