مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةدراسات عامة

تأصيل الفرق الكلامية برأي ابن خلدون

 

تقديم: 
تحدث ابن خلدون في الفصل العاشر من مقدمته[1] عن علم الكلام معتبرا أنه: 
(علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة. وسر هذه العقائد الإيمانية هو التوحيد).
ثم بدأ بعد ذلك ببسط أدلة التوحيد كما عرضها السلف منذ بزوغ فجر الإسلام وكيف أخذها هؤلاء خلفا عن سلف حتى نشأ الخلاف الكلامي بين الفرق الكلامية باختلاف أنواعها.
كيف نشأت الفرق الكلامية برأي ابن خلدون:
 يقول ابن خلدون في الفصل الذي عقده لبسط أسس هذه الفرق وعرض كيفية نشوئها: 
(تلك الأدلة أخذها السلف وأرشد إليها العلماء وحققها الأئمة، إلا أنه عرض بعد ذلك خلاف في تفاصيل هذه العقائد، أكثر مثارها من الآي المتشابهة. فدعا ذلك إلى الخصام والتناظر والاستدلال بالعقل زيادة إلى النقل. فحدث بذلك علم الكلام. و لنبين لك تفصيل هذا المجمل.
 وذلك أن القرآن ورد فيه وصف المعبود بالتنزيه المطلق الظاهر الدلالة من غير تأويل في آي كثيرة. وهي سلوب كلها وصريحة في بابها فوجب الإيمان بها. 
ووقع في كلام الشارع صلوات الله عليه وكلام الصحابة والتابعين تفسيرها على ظاهرها. ثم وردت في القرآن آي أخرى قليلة توهم التشبيه مرة في الذات وأخرى في الصفات.
فأما “السلف” فغلَّبوا أدلة التنزيه لكثرتها ووضوح دلالتها، وعلموا استحالة التشبيه، وقضوا بأن الآيات من كلام الله، فآمنوا بها و لم يتعرَّضوا لمعناها ببحث ولا تأويل. وهذا معنى قول الكثير منهم: (أمِّروها كما جاءت)؛ أي آمنوا بأنها من عند الله، ولا تتعرضوا لتأويلها ولا تفسيرها/تغييرها لجواز أن تكون ابتلاء، فيجب الوقف والإذعان له. 
وشذَّ لعصرهم “مبتدعة” اتبعوا ما تشابه من الآيات وتوغلوا في التشبيه،
– ففريق شبَّهوا في الذات باعتقاد اليد والقدم والوجه عملا بظواهر وردت بذلك، فوقعوا في التجسيم الصريح ومخالفة آي التنزيه؛ لأن معقولية الجسم تقتضي النقص والافتقار، وتغليب آيات السلوب في التنزيه المطلق التي هي أكثر موارد وأوضح دلالة أولى من التعلق بظواهر هذه التي لنا عنها غنية، وجمع بين الدليلين بتأويلها، ثم يفرون من شناعة ذلك بقولهم: (جسم لا كالأجسام). وليس ذلك بدافع عنهم لأنه قول متناقض، وجمع بين نفي وإثبات إن كانا لمعقولية واحدة من الجسم، وإن خالفوا بينهما ونفوا المعقولية المتعارفة فقد وافقونا في التنزيه، ولم يبق إلا جعلهم لفظ (الجسم) اسما من أسمائه. ويتوقف مثله على الإذن. 
– “وفريق” منهم ذهبوا إلى التشبيه في الصفات كإثبات الجهة والاستواء والنزول والصوت والحرف وأمثال ذلك. وآل قولهم إلى التجسيم فنزعوا مثل الأولين إلى قولهم: (صوت لا كالأصوات، جهة لا كالجهات، نزول لا كالنزول)؛ يعنون من الأجسام. واندفع ذلك بما اندفع به الأول.
ولم يبق في هذه الظواهر إلا اعتقادات السلف ومذاهبهم والإيمان بها كما هي لئلا يكون النفي لمعانيها على نفيها مع أنها صحيحة ثابتة من القرآن..
 ثم لما كثرت العلوم والصنائع وولع الناس بالتدوين والبحث في سائر الأنحاء، وألَّف المتكلمون في التنزيه، حدثت بدعة “المعتزلة” في تعميم هذا التنزيه في آي السلوب:
– فقضوا بنفي صفات المعاني، من العلم والقدرة والإرادة والحياة زائدة على أحكامها، لما يلزم على ذلك من تعدد القديم بزعمهم، وهو مردود بأن الصفات ليست عين/نفس الذات ولا غيرها. 
– وقضوا بنفي صفة الإرادة فلزمهم نفي القدر، لأن معناه سبق الإرادة للكائنات. 
– وقضوا بنفي السمع والبصر لكونهما من عوارض الأجسام، وهو مردود بعدم اشتراط البنية في مدلول هذا اللفظ، وإنما هو إدراك للمسموع المبصر. 
– وقضوا بنفي الكلام لشبه ما في السمع والبصر، ولم يعقلوا صفة الكلام التي تقوم بالنفس، فقضوا بأن القرآن مخلوق وذلك بدعة صرح السلف بخلافها، وعظم ضرر هذه البدعة، ولقنها بعض الخلفاء عن أئمتهم فحمل الناس عليها، وخالفهم أئمة الدين/السلف فاستباح بخلافهم أبشار كثير منهم ودماءهم.
وكان ذلك سببا لانتهاض أهل السنة بالأدلة العقلية على هذه العقائد دفعا في صدور هذه البدع، وقام بذلك الشيخ “أبو الحسن الأشعري” إمام المتكلمين، فتوسط بين الطرق، ونفى التشبيه، وأثبت الصفات المعنوية، وقصر التنزيه على ما قصره عليه السلف، وشهدت له الأدلة المخصصة لعمومه:
– فأثبت الصفات الأربع المعنوية والسمع والبصر والكلام القائم بالنفس بطريق النقل والعقل. 
– ورد على المبتدعة في ذلك كله. وتكلم معهم فيما مهدوه لهذه البدع من القول بالصلاح والأصلح والتحسين والتقبيح. 
– وكمل العقائد في البعثة وأحوال المعاد والجنة والنار والثواب والعقاب.
– وألحق بذلك الكلام في الإمامة لما ظهر حينئذ من بدعة الإمامية في قولهم إنها من عقائد الإيمان وإنها يجب على النبي تعيينها والخروج عن العهدة في ذلك لمن هي له، وكذلك على الأمة. وقصارى أمر الإمامة أنها قضية مصلحية إجماعية ولا تلحق بالعقائد. فلذلك ألحقوها بمسائل هذا الفن. وسموا مجموعه علم الكلام؛ إما لما فيه من المناظرة على البدع وهي كلام صرف وليست براجعة إلى عمل، وإما لأن سبب وضعه والخوض فيه هو تنازعهم في إثبات الكلام النفساني. 
وكثر أتباع الشيخ أبي الحسن الأشعري، واقتفى طريقته من بعده تلميذه كابن مجاهد وغيره. وأخذ عنهم القاضي أبو بكر الباقلاني فتصدر للإمامة في طريقتهم وهذَّبها ووضع المقدمات العقلية التى تتوقف عليها الأدلة والأنظار في ذلك؛ مثل إثبات الجوهر الفرد والخلاء، وأن العرض لا يقوم بالعرض، وأنه لا يبقى زمنين، وأمثال ذلك مما تتوقف عليه أدلتهم. وجعل هذه القواعد تبعا للعقائد الإيمانية في وجوب اعتقادها لتوقف تلك الأدلة عليها، وأن بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول. فكملت هذه الطريقة وجاءت من أحسن الفنون النظرية والعلوم الدينية. إلا أن صور الأدلة فيها بعض الأحيان على غير الوجه الصناعي لسذاجة القوم ولأن صناعة المنطق التي تسبر بها الأدلة وتعتبر بها الأقيسة لم تكن حينئذ ظاهرة في الملة، ولو ظهر منها بعض الشيء فلم يأخذ بها المتكلمون لملابستها للعلوم الفلسفية المباينة لعقائد الشرع بالجملة، فكانت عندهم مهجورة لذلك. 
ثم جاء بعد القاضي أبي بكر الباقلاني من أئمة الأشعرية إمام الحرمين أبو المعالي، وأملى في الطريقة كتاب “الشامل”، ووسع القول فيه، ثم لخصه في كتاب “الإرشاد”، واتخذه الناس وفرقوا بينه وبين العلوم الفلسفية بأنه قانون ومعيار للأدلة فقط تسبر به الأدلة كما تسبر من سواها. ثم نظروا في تلك القواعد المقدمات في فن الكلام للأقدمين فخالفوا الكثير منها بالبراهين التي أدلتهم إلى ذلك. وربما أن كثيرا منها مقتبس من كلام الفلاسفة في الطبيعيات والإلهيات. فلما سبروها بمعيار المنطق ردهم إلى ذلك فيها ولم يعتقدوا بطلان المدلول من بطلان دليله كما صار إليه القاضي. فصارت هذه الطريقة في مصطلحهم مباينة للطريقة الأولى؛ وتسمى طريقة المتأخرين. وربما أدخلوا فيها الرد على الفلاسفة فيما يخالفون فيه من العقائد الإيمانية، وجعلوهم من خصوم العقائد لتناسب الكثير من مذاهب المبتدعة ومذاهبهم.
وأول من كتب في طريقة الكلام على هذا المنحى الغزالي رحمه الله، وتبعه الإمام ابن الخطيب وجماعة قفوا أثرهم واعتمدوا تقليدهم. ثم توغل المتأخرون من بعدهم في مخالطة كتب الفلسفة والتبس عليهم شأن الموضوع في العِلْمين فحسبوه فيهما واحدا من اشتباه المسائل فيهما.
واعلم أن المتكلمين لما كانوا يستدلون في أكثر أحوالهم بالكائنات وأحوالها على وجود البارئ وصفاته وهو نوع استدلالهم غالبا، والجسم الطبيعي الذي ينظر فيه الفيلسوف في الطبيعيات هو بعض من هذه الكائنات. إلا أن نظره فيها مخالف لنظر المتكلم؛ هو ينظر في الجسم من حيث يتحرك ويسكن، والمتكلم ينظر فيه من حيث يدل على الفاعل. وكذا نظر الفيلسوف في الإلهيات إنما هو نظر في الوجود المطلق وما يقتضيه لذاته، ونظر المتكلم في الموجود من حيث إنه يدل على الموجد. 
وبالجملة فموضوع علم الكلام عند أهله إنما هو العقائد الإيمانية بعد فرضها صحيحة من الشرع من حيث يمكن أن يستدل عليها بالأدلة العقلية، فتدفع البدع وتزال الشكوك والشبه عن تلك العقائد)..
ثم انتقل “ابن خلدون” في فصل آخر للحديث عن اختلافات هذه الفرق جملة عنونه بقوله:
(فصل: في كشف الغطاء عن المتشابه من الكتاب والسنة وما حدث لأجل ذلك من طوائف السنية والمبتدعة في الاعتقادات): 
1- اعلم أن الله سبحانه بعث إلينا نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم يدعونا إلى الفوز والنجاة بالنعيم وأنزل عليه كتابه الكريم باللسان العربي المبين. يخاطبنا فيه بالتكاليف المفضية بنا إلى ذلك. وكان في خلال هذا الخطاب ومن ضروراته ذكر صفاته سبحانه وأسماءه، ليعرِّفنا بذاته، وذكر الروح المتعلقة بنا، وذكر الوحي والملائكة الوسائط بينه وبين رسله إلينا. وذكر لنا يوم البعث وإنذاراته، ولم يعين لنا الوقت في شيء منها. وبُثَّت في هذا القرآن الكريم حروف من الهجاء مقطعة في أوائل بعض سوره، لا سبيل لنا إلى فهم المراد بها، وسمَّى هذه الأنواع كلها من الكتاب متشابهة. وذم على اتباعها فقال تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب) .وحمل العلماء من سلف الصحابة والتابعين هذه الآية على أن المحكمات هي المبينات الثابتة الأحكام. ولذلك قال الفقهاء في اصطلاحهم: (المحكم المتضح المعنى). وأما المتشابهات فلهم فيها عبارات. فقيل هي التي تفتقر إلى نظر وتفسير تصحح معناها، لتعارضها مع آية أخرى أو مع العقل، فتخفى دلالتها وتشتبه. 
وعلى هذا قال ابن عباس: المتشابه يؤمن به ولا يعمل به. 
وقال مجاهد وعكرمة: كل ما سوى آيات الأحكام والقصص متشابه. 
وعليه القاضي أبو بكر وإمام الحرمين. 
وقال الثوري والشعبي وجماعة من علماء السلف: (المتشابه، ما لم يكن سبيل إلى علمه، كشروط الساعة وأوقات الإنذارات وحروف الهجاء في أوائل السور)، وقوله في الآية (هن أم الكتاب) أي معظمه وغالبه والمتشابه أقله، وقد يُرد إلى المحكم.
ثم ذم المتَّبعين للمتشابه بالتأويل أو بحملها على معاني لا تفهم منها في لسان العرب الذي خوطبنا به. وسماهم أهل زيغ، أي ميل عن الحق من الكفار والزنادقة وجهلة أهل البدع. وأن فعلهم ذلك قصدا للفتنة التي هي الشرك أو اللبس على المؤمنين أو قصدا لتأويلها بما يشتهونه فيقتدون به في بدعتهم. 
ثم أخبر سبحانه بأنه استأثر بتأويلها ولا يعلمه إلا هو فقال: (وما يعلم تأويله إلا الله). ثم أثنى على العلماء بالإيمان بها فقط، فقال: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به). ولهذا جعل السلف والراسخون مستأنفا ورجحوه على العطف لأن الإيمان بالغيب أبلغ في الثناء… 
وإذا تقررت أصناف المتشابهات على ما قلناه، فلنرجع إلى اختلاف الناس فيها.
– فأما ما يرجع منها على ما ذكروه إلى الساعة وأشراطها وأوقات الإنذارات وعدد الزبانية وأمثال ذلك، فليس هذا والله أعلم من المتشابه، لأنه لم يرد فيه لفظ مجمل ولا غيره، وإنما هي أزمنة لحادثات استأثر الله بعلمها بنصه في كتابه وعلى لسان نبيه، وقال:( إنما علمها عند الله ) والعجب ممن عدها من المتشابه.
– وأما الحروف المقطعة في أوائل السور فحقيقتها حروف الهجاء وليس ببعيد أن تكون مرادة، وقد قال الزمخشري: فيها إشارة إلى بعد الغاية في الإعجاز، لأن القرآن المنزل مؤلف منها، والبشر فيها سواء، والتفاوت موجود في دلالتها بعد التأليف. وإن عدل عن هذا الوجه الذي يتضمن الدلالة على الحقيقة فإنما يكون بنقل صحيح، كقولهم في (طه)، إنه نداء من طاهر وهادي، وأمثال ذلك والنقل الصحيح متعذر، فيجيء المتشابه فيها من هذا الوجه. 
– وأما الوحي والملائكة والروح والجن، فاشتباهها من خفاء دلالتها الحقيقية لأنها غير متعارفة، فجاء التشابه فيها من أجل ذلك. وقد ألحق بعض الناس بها كل ما في معناها من أحوال القيامة والجنة والنار والدجال والفتن والشروط، وما هو بخلاف العوائد المألوفة، وهو غير بعيد، إلا أن الجمهور لا يوافقونهم عليه، وسيما المتكلمون، فقد عينوا محاملها على ما تراه في كتبهم.
2- ولم يبق من المتشابه إلا الصفات التي وصف الله بها نفسه في كتابه وعلى لسان نبيه، مما يوهم ظاهره نقصا أو تعجيزا. وقد اختلف الناس في هذه الظواهر من بعد السلف الذين قررنا مذهبهم. وتنازعوا وتطرقت البدع إلى العقائد. فلنشر إلى بيان مذاهبهم وإيثار الصحيح منه على الفاسد فنقول وما توفيقي إلا بالله:
اعلم أن الله سبحانه وصف نفسه في كتابه بأنه عالم، قادر، مريد، حي، سميع، بصير، متكلم، جليل، كريم، جواد، منعم، عزيز، عظيم.
وكذا أثبت لنفسه اليدين، والعينين، والوجه، والقدم، والساق، إلى غير ذلك من الصفات.
– فمنها ما يقتضي صحة الألوهية؛ مثل العلم والقدرة والإرادة، ثم الحياة التي هي شرط جميعها.
– ومنها ما هي صفة كمال؛ كالسمع و البصر و الكلام.
– ومنها ما يوهم النقص كالاستواء والنزول والمجيء، وكالوجه واليدين والعينين التي هي صفات المحدثات.
ثم أخبر الشارع أنا نرى ربنا يوم القيامة كالقمر ليلة البدر، لا نُضَام في رؤيته كما ثبت في الصحيح. 
– فأما “السلف” من الصحابة والتابعين فأثبتوا له صفات الألوهية والكمال، وفوَّضوا إليه ما يوهم النقص ساكتين عن مدلوله.
– ثم اختلف الناس من بعدهم وجاء “المعتزلة” فأثبتوا هذه الصفات أحكاما ذهنية مجردة، ولم يثبتوا صفة تقوم بذاته. وسَمَّوا ذلك توحيدا.
وجعلوا الإنسان خالقا لأفعاله. ولا تتعلق بها قدرة الله تعالى، سيما الشرور والمعاصي منها، إذ يمتنع على الحكيم فعلها.
وجعلوا مراعاة الأصلح للعباد واجبة عليه. وسموا ذلك عدلا، بعد أن كانوا أولا يقولون بنفي القدر، وأن الأمر كله مستأنف بعلم حادث وقدرة وإرادة كذلك، كما ورد في الصحيح. وأن عبد الله بن عمر تبرأ من معبد الجهني وأصحابه القائلين بذلك.
وانتهى نفي القدر إلى واصل بن عطاء الغزال منهم، تلميذ الحسن البصري، لعهد عبد الملك بن مروان. ثم آخرا إلى معمر السلمي ورجعوا من القول به. وكان منهم أبو الهذيل العلاف، وهو شيخ المعتزلة، أخذ الطريقة عن عثمان بن خالد الطويل عن واصل. وكان من صفات القدر، واتبع رأي الفلاسفة في نفي الصفات الوجودية لظهور مذاهبهم يومئذ. 
ثم جاء إبراهيم النظام، وقال بالقدر، واتبعوه. وطالع كتب الفلاسفة وشدد في نفي الصفات وقرر قواعد الاعتزال.
ثم جاء الجاحظ والكعبي والجبائية، وكانت طريقتهم تسمى علم الكلام: إما لما فيها من الحجاج والجدل، وهو الذي يسمى كلاما، وإما أن أصل طريقتهم نفي صفة الكلام.  فلهذا كان الشافعي يقول: (حقهم أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم).
– وقرر هؤلاء طريقتهم، وتتابع ذلك في أتباعهم، وأثبتوا منها وردوا، إلى أن ظهر “الشيخ أبو الحسن الأشعري” وناظر بعض مشيختهم في مسائل الصلاح والأصلح، فرفض طريقتهم، وكان على رأي عبد الله بن سعيد بن كلاب وأبي العباس القلانسي والحارث بن أسد المحاسبي من أتباع السلف وعلى طريقة السنة. فأيَّد مقالاتهم بالحجج الكلامية، وأثبت الصفات القائمة بذات الله تعالى، من العلم والقدرة والإرادة والحياة التي يتم بها دليل التمانع وتصح المعجزات للأنبياء.
وكان من مذهبهم إثبات الكلام والسمع والبصر، لأنها وإن أوهم ظاهرها النقص بالصوت والحرف الجسمانيين، فقد وجد للكلام عند العرب مدلول آخر غير الحروف والصوت، وهو ما يدور في الخلد. والكلام حقيقة فيه دون الأول، فأثبتوه لله تعالى وانتفى إيهام النقص.
وأثبتوا هذه الصفة قديمة عامة التعلق بشأن الصفات الأخرى. وصار القرآن اسما مشتركا بين القديم القائم بذات الله وهو الكلام النفسي، والمحدَث الذي هو الحروف المؤلفة المقروءة بالأصوات. فإذا قيل قديم؛ فالمراد الأول، وإذا قيل مقروء، مسموع؛ فلدلالة القراءة والكتابة عليه.
وتورع الإمام “أحمد بن حنبل” من إطلاق لفظ الحدوث عليه، لأنه لم يسمع من السلف قبله: لا أنه يقول أن المصاحف المكتوبة قديمة، ولا أن القراءة الجارية على ألسنة/الألسنة قديمة. وهو شاهدها محدَثة. وإنما منعه من ذلك الورع الذي كان عليه. وأما غير ذلك فإنكار للضروريات، و حاشاه منه.
وأما السمع والبصر، وإن كان يوهم إدراك الجارحة. فهو يدل أيضا لغة على إدراك المسموع والمبصر وينتفي إيهام النقص حينئذ لأنه حقيقة لغوية فيهما.
وأما لفظ الاستواء والمجيء والنزول والوجه واليدين والعينين وأمثال ذلك، فعدلوا عن حقائقها اللغوية لما فيها من إيهام النقص بالتشبيه إلى مجازاتها، على طريقة العرب، حيث تتعذر حقائق الألفاظ، فيرجعون إلى المجاز، كما في قوله تعالى:( يريد أن ينقض ) وأمثاله، طريقة معروفة لهم غير منكرة ولا مبتدعة.
وحملهم على هذا التأويل، وإن كان مخالفا لمذهب السلف في التفويض أن جماعة من أتباع السلف وهم المحدثون والمتأخرون من الحنابلة ارتبكوا في محمل هذه الصفات، فحملوها على صفات ثابتة لله تعالى مجهولة الكيفية؛ فيقولون في (استوى على العرش) نثبت له استواء، بحيث مدلول اللفظ فرارا من تعطيله، ولا نقول بكيفيته فرارا من القول بالتشبيه الذي تنفيه آيات السلوب من قوله: (ليس كمثله شيء) (سبحان الله عما يصفون) تعالى الله عما يقول الظالمون (لم يلد و لم يولد). ولا يعلمون مع ذلك أنهم وَلجوا من باب التشبيه في قولهم بإثبات استواء، والاستواء عند أهل اللغة إنما موضوعه الاستقرار والتمكن، وهو جسماني. وأما التعطيل الذي يشنعون بإلزامه، وهو تعطيل اللفظ، فلا محذور فيه. وإنما المحذور في تعطيل الآلهة. وكذلك يشنعون بإلزام التكليف بما لا يطاق وهو تمويه. لأن التشابه لم يقع في التكاليف. ثم يدعون أن هذا مذهب السلف، وحاشا لله من ذلك.
وإنما مذهب السلف ما قررناه أولا من تفويض المراد بها إلى الله، والسكوت عن فهمها. وقد يحتجون لإثبات الاستواء لله بقول مالك:  (الاستواء معلوم والكيف مجهول)، ولم يُرد مالك أن الاستواء معلوم الثبوت لله، وحاشاه من ذلك، لأنه يعلم مدلول الاستواء. وإنما أراد أن الاستواء معلوم من اللغة، وهو الجسماني. وكيفيته أي حقيقته. لأن حقائق الصفات كلها كيفيات، وهي مجهولة الثبوت لله.
وكذلك يحتجون على إثبات المكان بحديث السوداء. وأنها لما قال لها النبي صلى الله عليه و سلم: أين الله ؟ وقالت في السماء، فقال: اعتقها فإنها مؤمنة. والنبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت لها الإيمان بإثباتها المكان لله، بل لأنها آمنت بما جاء به من ظواهر أن الله في السماء، فدخلت في جملة الراسخين الذين يؤمنون بالمتشابه من غير كشف عن معناه. والقطع بنفي المكان حاصل من دليل العقل النافي للافتقار.
ومن أدلة السلوب المؤذنة بالتنزيه مثل( ليس كمثله شيء)، وأشباهه. ومن قوله: (وهو الله في السموات وفي الأرض)، إذ الموجود لا يكون في مكانين، فليست في هذا للمكان قطعا، والمراد غيره.
ثم طردوا ذلك المحتمل الذي ابتدعوه في ظواهر الوجه والعينين واليدين، والمجيء والنزول والكلام بالحرف والصوت يجعلون لها مدلولات أعم من الجسمانية، وينزهونه عن مدلول الجسماني منها. وهذا شيء لا يعرف في اللغة. وقد درج على ذلك الأول والآخر منهم، ونافرهم أهل السنة من المتكلمين الأشعرية والحنفية. ورفضوا عقائدهم في ذلك، ووقع بين متكلمي الحنفية ببخارى وبين الإمام محمد بن إسماعيل البخاري ما هو معروف.
وأما “المجسمة” ففعلوا مثل ذلك في إثبات الجسمية لله، وأنها لا كالأجسام. ولفظ الجسم لم يثبت في منقول الشرعيات. وإنما جرَّأهم عليه إثبات هذه الظواهر، فلم يقتصروا عليه، بل توغلوا وأثبتوا الجسمية. يزعمون فيها مثل ذلك وينزهونه بقول متناقض سفساف، وهو قولهم: (جسم لا كالأجسام). والجسم في لغة العرب هو العميق المحدود. وغير هذا التفسير من أنه القائم بالذات أو المركب من الجواهر وغير ذلك، فاصطلاحات للمتكلمين يريدون بها غير المدلول اللغوي.
فلهذا كان المجسمة أوغل في البدعة بل والكفر. حيث أثبتوا لله وصفا موهما يوهم النقص لم يرد في كلامه ولا كلام نبيه.
فقد تبين لك الفرق بين مذاهب السلف والمتكلمين السنية والمحدثين والمبتدعة من المعتزلة والمجسمة بما أطلعناك عليه.. وكتب أهل السنة مشحونة بالحجاج على هذه البدع. وبسط الرد عليهم بالأدلة الصحيحة. وإنما أومأنا إلى ذلك إيماء يتميز به فصول المقالات وجملها. 
والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله). 
الهوامش:
[1] المصدر: مقدمة ابن خلدون- تحقيق: عبد السلام الشدادي- بيت الفنون والعلوم والآداب- الطبعة الأولى/الدار البيضاء-2005-
(وردت بعض الاختلافات في بعض الكلمات ما بين مختلف تحقيقات كتاب المقدمة أوردتها لزيادة الاستفادة من المعاني المختلفة بينها وعلمتها بعلامة”/”). 
إعداد الباحث: منتصر الخطيب

تقديم: 

تحدث ابن خلدون في الفصل العاشر من مقدمته[1] عن علم الكلام معتبرا أنه: 

(علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة. وسر هذه العقائد الإيمانية هو التوحيد).

ثم بدأ بعد ذلك ببسط أدلة التوحيد كما عرضها السلف منذ بزوغ فجر الإسلام وكيف أخذها هؤلاء خلفا عن سلف حتى نشأ الخلاف الكلامي بين الفرق الكلامية باختلاف أنواعها.

كيف نشأت الفرق الكلامية برأي ابن خلدون:

 يقول ابن خلدون في الفصل الذي عقده لبسط أسس هذه الفرق وعرض كيفية نشوئها: 

(تلك الأدلة أخذها السلف وأرشد إليها العلماء وحققها الأئمة، إلا أنه عرض بعد ذلك خلاف في تفاصيل هذه العقائد، أكثر مثارها من الآي المتشابهة. فدعا ذلك إلى الخصام والتناظر والاستدلال بالعقل زيادة إلى النقل. فحدث بذلك علم الكلام. و لنبين لك تفصيل هذا المجمل.

 وذلك أن القرآن ورد فيه وصف المعبود بالتنزيه المطلق الظاهر الدلالة من غير تأويل في آي كثيرة. وهي سلوب كلها وصريحة في بابها فوجب الإيمان بها. 

ووقع في كلام الشارع صلوات الله عليه وكلام الصحابة والتابعين تفسيرها على ظاهرها. ثم وردت في القرآن آي أخرى قليلة توهم التشبيه مرة في الذات وأخرى في الصفات.

فأما “السلف” فغلَّبوا أدلة التنزيه لكثرتها ووضوح دلالتها، وعلموا استحالة التشبيه، وقضوا بأن الآيات من كلام الله، فآمنوا بها و لم يتعرَّضوا لمعناها ببحث ولا تأويل. وهذا معنى قول الكثير منهم: (أمِّروها كما جاءت)؛ أي آمنوا بأنها من عند الله، ولا تتعرضوا لتأويلها ولا تفسيرها/تغييرها لجواز أن تكون ابتلاء، فيجب الوقف والإذعان له. 

وشذَّ لعصرهم “مبتدعة” اتبعوا ما تشابه من الآيات وتوغلوا في التشبيه،

– ففريق شبَّهوا في الذات باعتقاد اليد والقدم والوجه عملا بظواهر وردت بذلك، فوقعوا في التجسيم الصريح ومخالفة آي التنزيه؛ لأن معقولية الجسم تقتضي النقص والافتقار، وتغليب آيات السلوب في التنزيه المطلق التي هي أكثر موارد وأوضح دلالة أولى من التعلق بظواهر هذه التي لنا عنها غنية، وجمع بين الدليلين بتأويلها، ثم يفرون من شناعة ذلك بقولهم: (جسم لا كالأجسام). وليس ذلك بدافع عنهم لأنه قول متناقض، وجمع بين نفي وإثبات إن كانا لمعقولية واحدة من الجسم، وإن خالفوا بينهما ونفوا المعقولية المتعارفة فقد وافقونا في التنزيه، ولم يبق إلا جعلهم لفظ (الجسم) اسما من أسمائه. ويتوقف مثله على الإذن. 

– “وفريق” منهم ذهبوا إلى التشبيه في الصفات كإثبات الجهة والاستواء والنزول والصوت والحرف وأمثال ذلك. وآل قولهم إلى التجسيم فنزعوا مثل الأولين إلى قولهم: (صوت لا كالأصوات، جهة لا كالجهات، نزول لا كالنزول)؛ يعنون من الأجسام. واندفع ذلك بما اندفع به الأول.

ولم يبق في هذه الظواهر إلا اعتقادات السلف ومذاهبهم والإيمان بها كما هي لئلا يكون النفي لمعانيها على نفيها مع أنها صحيحة ثابتة من القرآن..

 ثم لما كثرت العلوم والصنائع وولع الناس بالتدوين والبحث في سائر الأنحاء، وألَّف المتكلمون في التنزيه، حدثت بدعة “المعتزلة” في تعميم هذا التنزيه في آي السلوب:

– فقضوا بنفي صفات المعاني، من العلم والقدرة والإرادة والحياة زائدة على أحكامها، لما يلزم على ذلك من تعدد القديم بزعمهم، وهو مردود بأن الصفات ليست عين/نفس الذات ولا غيرها. 

– وقضوا بنفي صفة الإرادة فلزمهم نفي القدر، لأن معناه سبق الإرادة للكائنات. 

– وقضوا بنفي السمع والبصر لكونهما من عوارض الأجسام، وهو مردود بعدم اشتراط البنية في مدلول هذا اللفظ، وإنما هو إدراك للمسموع المبصر. 

– وقضوا بنفي الكلام لشبه ما في السمع والبصر، ولم يعقلوا صفة الكلام التي تقوم بالنفس، فقضوا بأن القرآن مخلوق وذلك بدعة صرح السلف بخلافها، وعظم ضرر هذه البدعة، ولقنها بعض الخلفاء عن أئمتهم فحمل الناس عليها، وخالفهم أئمة الدين/السلف فاستباح بخلافهم أبشار كثير منهم ودماءهم.

وكان ذلك سببا لانتهاض أهل السنة بالأدلة العقلية على هذه العقائد دفعا في صدور هذه البدع، وقام بذلك الشيخ “أبو الحسن الأشعري” إمام المتكلمين، فتوسط بين الطرق، ونفى التشبيه، وأثبت الصفات المعنوية، وقصر التنزيه على ما قصره عليه السلف، وشهدت له الأدلة المخصصة لعمومه:

– فأثبت الصفات الأربع المعنوية والسمع والبصر والكلام القائم بالنفس بطريق النقل والعقل. 

– ورد على المبتدعة في ذلك كله. وتكلم معهم فيما مهدوه لهذه البدع من القول بالصلاح والأصلح والتحسين والتقبيح. 

– وكمل العقائد في البعثة وأحوال المعاد والجنة والنار والثواب والعقاب.

– وألحق بذلك الكلام في الإمامة لما ظهر حينئذ من بدعة الإمامية في قولهم إنها من عقائد الإيمان وإنها يجب على النبي تعيينها والخروج عن العهدة في ذلك لمن هي له، وكذلك على الأمة. وقصارى أمر الإمامة أنها قضية مصلحية إجماعية ولا تلحق بالعقائد. فلذلك ألحقوها بمسائل هذا الفن. وسموا مجموعه علم الكلام؛ إما لما فيه من المناظرة على البدع وهي كلام صرف وليست براجعة إلى عمل، وإما لأن سبب وضعه والخوض فيه هو تنازعهم في إثبات الكلام النفساني. 

وكثر أتباع الشيخ أبي الحسن الأشعري، واقتفى طريقته من بعده تلميذه كابن مجاهد وغيره. وأخذ عنهم القاضي أبو بكر الباقلاني فتصدر للإمامة في طريقتهم وهذَّبها ووضع المقدمات العقلية التى تتوقف عليها الأدلة والأنظار في ذلك؛ مثل إثبات الجوهر الفرد والخلاء، وأن العرض لا يقوم بالعرض، وأنه لا يبقى زمنين، وأمثال ذلك مما تتوقف عليه أدلتهم. وجعل هذه القواعد تبعا للعقائد الإيمانية في وجوب اعتقادها لتوقف تلك الأدلة عليها، وأن بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول. فكملت هذه الطريقة وجاءت من أحسن الفنون النظرية والعلوم الدينية. إلا أن صور الأدلة فيها بعض الأحيان على غير الوجه الصناعي لسذاجة القوم ولأن صناعة المنطق التي تسبر بها الأدلة وتعتبر بها الأقيسة لم تكن حينئذ ظاهرة في الملة، ولو ظهر منها بعض الشيء فلم يأخذ بها المتكلمون لملابستها للعلوم الفلسفية المباينة لعقائد الشرع بالجملة، فكانت عندهم مهجورة لذلك. 

ثم جاء بعد القاضي أبي بكر الباقلاني من أئمة الأشعرية إمام الحرمين أبو المعالي، وأملى في الطريقة كتاب “الشامل”، ووسع القول فيه، ثم لخصه في كتاب “الإرشاد”، واتخذه الناس وفرقوا بينه وبين العلوم الفلسفية بأنه قانون ومعيار للأدلة فقط تسبر به الأدلة كما تسبر من سواها. ثم نظروا في تلك القواعد المقدمات في فن الكلام للأقدمين فخالفوا الكثير منها بالبراهين التي أدلتهم إلى ذلك. وربما أن كثيرا منها مقتبس من كلام الفلاسفة في الطبيعيات والإلهيات. فلما سبروها بمعيار المنطق ردهم إلى ذلك فيها ولم يعتقدوا بطلان المدلول من بطلان دليله كما صار إليه القاضي. فصارت هذه الطريقة في مصطلحهم مباينة للطريقة الأولى؛ وتسمى طريقة المتأخرين. وربما أدخلوا فيها الرد على الفلاسفة فيما يخالفون فيه من العقائد الإيمانية، وجعلوهم من خصوم العقائد لتناسب الكثير من مذاهب المبتدعة ومذاهبهم.

وأول من كتب في طريقة الكلام على هذا المنحى الغزالي رحمه الله، وتبعه الإمام ابن الخطيب وجماعة قفوا أثرهم واعتمدوا تقليدهم. ثم توغل المتأخرون من بعدهم في مخالطة كتب الفلسفة والتبس عليهم شأن الموضوع في العِلْمين فحسبوه فيهما واحدا من اشتباه المسائل فيهما.

واعلم أن المتكلمين لما كانوا يستدلون في أكثر أحوالهم بالكائنات وأحوالها على وجود البارئ وصفاته وهو نوع استدلالهم غالبا، والجسم الطبيعي الذي ينظر فيه الفيلسوف في الطبيعيات هو بعض من هذه الكائنات. إلا أن نظره فيها مخالف لنظر المتكلم؛ هو ينظر في الجسم من حيث يتحرك ويسكن، والمتكلم ينظر فيه من حيث يدل على الفاعل. وكذا نظر الفيلسوف في الإلهيات إنما هو نظر في الوجود المطلق وما يقتضيه لذاته، ونظر المتكلم في الموجود من حيث إنه يدل على الموجد. 

وبالجملة فموضوع علم الكلام عند أهله إنما هو العقائد الإيمانية بعد فرضها صحيحة من الشرع من حيث يمكن أن يستدل عليها بالأدلة العقلية، فتدفع البدع وتزال الشكوك والشبه عن تلك العقائد)..

ثم انتقل “ابن خلدون” في فصل آخر للحديث عن اختلافات هذه الفرق جملة عنونه بقوله:

(فصل: في كشف الغطاء عن المتشابه من الكتاب والسنة وما حدث لأجل ذلك من طوائف السنية والمبتدعة في الاعتقادات): 

1- اعلم أن الله سبحانه بعث إلينا نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم يدعونا إلى الفوز والنجاة بالنعيم وأنزل عليه كتابه الكريم باللسان العربي المبين. يخاطبنا فيه بالتكاليف المفضية بنا إلى ذلك. وكان في خلال هذا الخطاب ومن ضروراته ذكر صفاته سبحانه وأسماءه، ليعرِّفنا بذاته، وذكر الروح المتعلقة بنا، وذكر الوحي والملائكة الوسائط بينه وبين رسله إلينا. وذكر لنا يوم البعث وإنذاراته، ولم يعين لنا الوقت في شيء منها. وبُثَّت في هذا القرآن الكريم حروف من الهجاء مقطعة في أوائل بعض سوره، لا سبيل لنا إلى فهم المراد بها، وسمَّى هذه الأنواع كلها من الكتاب متشابهة. وذم على اتباعها فقال تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب). وحمل العلماء من سلف الصحابة والتابعين هذه الآية على أن المحكمات هي المبينات الثابتة الأحكام. ولذلك قال الفقهاء في اصطلاحهم: (المحكم المتضح المعنى). وأما المتشابهات فلهم فيها عبارات. فقيل هي التي تفتقر إلى نظر وتفسير تصحح معناها، لتعارضها مع آية أخرى أو مع العقل، فتخفى دلالتها وتشتبه. 

وعلى هذا قال ابن عباس: المتشابه يؤمن به ولا يعمل به. 

وقال مجاهد وعكرمة: كل ما سوى آيات الأحكام والقصص متشابه. 

وعليه القاضي أبو بكر وإمام الحرمين

وقال الثوري والشعبي وجماعة من علماء السلف: (المتشابه، ما لم يكن سبيل إلى علمه، كشروط الساعة وأوقات الإنذارات وحروف الهجاء في أوائل السور)، وقوله في الآية (هن أم الكتاب) أي معظمه وغالبه والمتشابه أقله، وقد يُرد إلى المحكم.

ثم ذم المتَّبعين للمتشابه بالتأويل أو بحملها على معاني لا تفهم منها في لسان العرب الذي خوطبنا به. وسماهم أهل زيغ، أي ميل عن الحق من الكفار والزنادقة وجهلة أهل البدع. وأن فعلهم ذلك قصدا للفتنة التي هي الشرك أو اللبس على المؤمنين أو قصدا لتأويلها بما يشتهونه فيقتدون به في بدعتهم. 

ثم أخبر سبحانه بأنه استأثر بتأويلها ولا يعلمه إلا هو فقال: (وما يعلم تأويله إلا الله). ثم أثنى على العلماء بالإيمان بها فقط، فقال: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به). ولهذا جعل السلف والراسخون مستأنفا ورجحوه على العطف لأن الإيمان بالغيب أبلغ في الثناء… 

وإذا تقررت أصناف المتشابهات على ما قلناه، فلنرجع إلى اختلاف الناس فيها.

– فأما ما يرجع منها على ما ذكروه إلى الساعة وأشراطها وأوقات الإنذارات وعدد الزبانية وأمثال ذلك، فليس هذا والله أعلم من المتشابه، لأنه لم يرد فيه لفظ مجمل ولا غيره، وإنما هي أزمنة لحادثات استأثر الله بعلمها بنصه في كتابه وعلى لسان نبيه، وقال: (إنما علمها عند الله) والعجب ممن عدها من المتشابه.

– وأما الحروف المقطعة في أوائل السور فحقيقتها حروف الهجاء وليس ببعيد أن تكون مرادة، وقد قال الزمخشري: فيها إشارة إلى بعد الغاية في الإعجاز، لأن القرآن المنزل مؤلف منها، والبشر فيها سواء، والتفاوت موجود في دلالتها بعد التأليف. وإن عدل عن هذا الوجه الذي يتضمن الدلالة على الحقيقة فإنما يكون بنقل صحيح، كقولهم في (طه)، إنه نداء من طاهر وهادي، وأمثال ذلك والنقل الصحيح متعذر، فيجيء المتشابه فيها من هذا الوجه. 

– وأما الوحي والملائكة والروح والجن، فاشتباهها من خفاء دلالتها الحقيقية لأنها غير متعارفة، فجاء التشابه فيها من أجل ذلك. وقد ألحق بعض الناس بها كل ما في معناها من أحوال القيامة والجنة والنار والدجال والفتن والشروط، وما هو بخلاف العوائد المألوفة، وهو غير بعيد، إلا أن الجمهور لا يوافقونهم عليه، وسيما المتكلمون، فقد عينوا محاملها على ما تراه في كتبهم.

2- ولم يبق من المتشابه إلا الصفات التي وصف الله بها نفسه في كتابه وعلى لسان نبيه، مما يوهم ظاهره نقصا أو تعجيزا. وقد اختلف الناس في هذه الظواهر من بعد السلف الذين قررنا مذهبهم. وتنازعوا وتطرقت البدع إلى العقائد. فلنشر إلى بيان مذاهبهم وإيثار الصحيح منه على الفاسد فنقول وما توفيقي إلا بالله:

اعلم أن الله سبحانه وصف نفسه في كتابه بأنه عالم، قادر، مريد، حي، سميع، بصير، متكلم، جليل، كريم، جواد، منعم، عزيز، عظيم.

وكذا أثبت لنفسه اليدين، والعينين، والوجه، والقدم، والساق، إلى غير ذلك من الصفات.

– فمنها ما يقتضي صحة الألوهية؛ مثل العلم والقدرة والإرادة، ثم الحياة التي هي شرط جميعها.

– ومنها ما هي صفة كمال؛ كالسمع و البصر و الكلام.

– ومنها ما يوهم النقص كالاستواء والنزول والمجيء، وكالوجه واليدين والعينين التي هي صفات المحدثات.

ثم أخبر الشارع أنا نرى ربنا يوم القيامة كالقمر ليلة البدر، لا نُضَام في رؤيته كما ثبت في الصحيح. 

– فأما “السلف” من الصحابة والتابعين فأثبتوا له صفات الألوهية والكمال، وفوَّضوا إليه ما يوهم النقص ساكتين عن مدلوله.

– ثم اختلف الناس من بعدهم وجاء “المعتزلة” فأثبتوا هذه الصفات أحكاما ذهنية مجردة، ولم يثبتوا صفة تقوم بذاته. وسَمَّوا ذلك توحيدا.

وجعلوا الإنسان خالقا لأفعاله. ولا تتعلق بها قدرة الله تعالى، سيما الشرور والمعاصي منها، إذ يمتنع على الحكيم فعلها.

وجعلوا مراعاة الأصلح للعباد واجبة عليه. وسموا ذلك عدلا، بعد أن كانوا أولا يقولون بنفي القدر، وأن الأمر كله مستأنف بعلم حادث وقدرة وإرادة كذلك، كما ورد في الصحيح. وأن عبد الله بن عمر تبرأ من معبد الجهني وأصحابه القائلين بذلك.

وانتهى نفي القدر إلى واصل بن عطاء الغزال منهم، تلميذ الحسن البصري، لعهد عبد الملك بن مروان. ثم آخرا إلى معمر السلمي ورجعوا من القول به. وكان منهم أبو الهذيل العلاف، وهو شيخ المعتزلة، أخذ الطريقة عن عثمان بن خالد الطويل عن واصل. وكان من صفات القدر، واتبع رأي الفلاسفة في نفي الصفات الوجودية لظهور مذاهبهم يومئذ. 

ثم جاء إبراهيم النظام، وقال بالقدر، واتبعوه. وطالع كتب الفلاسفة وشدد في نفي الصفات وقرر قواعد الاعتزال.

ثم جاء الجاحظ والكعبي والجبائية، وكانت طريقتهم تسمى علم الكلام: إما لما فيها من الحجاج والجدل، وهو الذي يسمى كلاما، وإما أن أصل طريقتهم نفي صفة الكلام.  فلهذا كان الشافعي يقول: (حقهم أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم).

– وقرر هؤلاء طريقتهم، وتتابع ذلك في أتباعهم، وأثبتوا منها وردوا، إلى أن ظهر “الشيخ أبو الحسن الأشعري” وناظر بعض مشيختهم في مسائل الصلاح والأصلح، فرفض طريقتهم، وكان على رأي عبد الله بن سعيد بن كلاب وأبي العباس القلانسي والحارث بن أسد المحاسبي من أتباع السلف وعلى طريقة السنة. فأيَّد مقالاتهم بالحجج الكلامية، وأثبت الصفات القائمة بذات الله تعالى، من العلم والقدرة والإرادة والحياة التي يتم بها دليل التمانع وتصح المعجزات للأنبياء.

وكان من مذهبهم إثبات الكلام والسمع والبصر، لأنها وإن أوهم ظاهرها النقص بالصوت والحرف الجسمانيين، فقد وجد للكلام عند العرب مدلول آخر غير الحروف والصوت، وهو ما يدور في الخلد. والكلام حقيقة فيه دون الأول، فأثبتوه لله تعالى وانتفى إيهام النقص.

وأثبتوا هذه الصفة قديمة عامة التعلق بشأن الصفات الأخرى. وصار القرآن اسما مشتركا بين القديم القائم بذات الله وهو الكلام النفسي، والمحدَث الذي هو الحروف المؤلفة المقروءة بالأصوات. فإذا قيل قديم؛ فالمراد الأول، وإذا قيل مقروء، مسموع؛ فلدلالة القراءة والكتابة عليه.

وتورع الإمام “أحمد بن حنبل” من إطلاق لفظ الحدوث عليه، لأنه لم يسمع من السلف قبله: لا أنه يقول أن المصاحف المكتوبة قديمة، ولا أن القراءة الجارية على ألسنة/الألسنة قديمة. وهو شاهدها محدَثة. وإنما منعه من ذلك الورع الذي كان عليه. وأما غير ذلك فإنكار للضروريات، و حاشاه منه.

وأما السمع والبصر، وإن كان يوهم إدراك الجارحة. فهو يدل أيضا لغة على إدراك المسموع والمبصر وينتفي إيهام النقص حينئذ لأنه حقيقة لغوية فيهما.

وأما لفظ الاستواء والمجيء والنزول والوجه واليدين والعينين وأمثال ذلك، فعدلوا عن حقائقها اللغوية لما فيها من إيهام النقص بالتشبيه إلى مجازاتها، على طريقة العرب، حيث تتعذر حقائق الألفاظ، فيرجعون إلى المجاز، كما في قوله تعالى:(يريد أن ينقض) وأمثاله، طريقة معروفة لهم غير منكرة ولا مبتدعة.

وحملهم على هذا التأويل، وإن كان مخالفا لمذهب السلف في التفويض أن جماعة من أتباع السلف وهم المحدثون والمتأخرون من الحنابلة ارتبكوا في محمل هذه الصفات، فحملوها على صفات ثابتة لله تعالى مجهولة الكيفية؛ فيقولون في (استوى على العرش) نثبت له استواء، بحيث مدلول اللفظ فرارا من تعطيله، ولا نقول بكيفيته فرارا من القول بالتشبيه الذي تنفيه آيات السلوب من قوله: (ليس كمثله شيء) (سبحان الله عما يصفون) تعالى الله عما يقول الظالمون (لم يلد و لم يولد). ولا يعلمون مع ذلك أنهم وَلجوا من باب التشبيه في قولهم بإثبات استواء، والاستواء عند أهل اللغة إنما موضوعه الاستقرار والتمكن، وهو جسماني. وأما التعطيل الذي يشنعون بإلزامه، وهو تعطيل اللفظ، فلا محذور فيه. وإنما المحذور في تعطيل الآلهة. وكذلك يشنعون بإلزام التكليف بما لا يطاق وهو تمويه. لأن التشابه لم يقع في التكاليف. ثم يدعون أن هذا مذهب السلف، وحاشا لله من ذلك.

وإنما مذهب السلف ما قررناه أولا من تفويض المراد بها إلى الله، والسكوت عن فهمها. وقد يحتجون لإثبات الاستواء لله بقول مالك:  (الاستواء معلوم والكيف مجهول)، ولم يُرد مالك أن الاستواء معلوم الثبوت لله، وحاشاه من ذلك، لأنه يعلم مدلول الاستواء. وإنما أراد أن الاستواء معلوم من اللغة، وهو الجسماني. وكيفيته أي حقيقته. لأن حقائق الصفات كلها كيفيات، وهي مجهولة الثبوت لله.

وكذلك يحتجون على إثبات المكان بحديث السوداء. وأنها لما قال لها النبي صلى الله عليه و سلم: أين الله ؟ وقالت في السماء، فقال: اعتقها فإنها مؤمنة. والنبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت لها الإيمان بإثباتها المكان لله، بل لأنها آمنت بما جاء به من ظواهر أن الله في السماء، فدخلت في جملة الراسخين الذين يؤمنون بالمتشابه من غير كشف عن معناه. والقطع بنفي المكان حاصل من دليل العقل النافي للافتقار.

ومن أدلة السلوب المؤذنة بالتنزيه مثل(ليس كمثله شيء)، وأشباهه. ومن قوله: (وهو الله في السموات وفي الأرض)، إذ الموجود لا يكون في مكانين، فليست في هذا للمكان قطعا، والمراد غيره.

ثم طردوا ذلك المحتمل الذي ابتدعوه في ظواهر الوجه والعينين واليدين، والمجيء والنزول والكلام بالحرف والصوت يجعلون لها مدلولات أعم من الجسمانية، وينزهونه عن مدلول الجسماني منها. وهذا شيء لا يعرف في اللغة. وقد درج على ذلك الأول والآخر منهم، ونافرهم أهل السنة من المتكلمين الأشعرية والحنفية. ورفضوا عقائدهم في ذلك، ووقع بين متكلمي الحنفية ببخارى وبين الإمام محمد بن إسماعيل البخاري ما هو معروف.

وأما “المجسمة” ففعلوا مثل ذلك في إثبات الجسمية لله، وأنها لا كالأجسام. ولفظ الجسم لم يثبت في منقول الشرعيات. وإنما جرَّأهم عليه إثبات هذه الظواهر، فلم يقتصروا عليه، بل توغلوا وأثبتوا الجسمية. يزعمون فيها مثل ذلك وينزهونه بقول متناقض سفساف، وهو قولهم: (جسم لا كالأجسام). والجسم في لغة العرب هو العميق المحدود. وغير هذا التفسير من أنه القائم بالذات أو المركب من الجواهر وغير ذلك، فاصطلاحات للمتكلمين يريدون بها غير المدلول اللغوي.

فلهذا كان المجسمة أوغل في البدعة بل والكفر. حيث أثبتوا لله وصفا موهما يوهم النقص لم يرد في كلامه ولا كلام نبيه.

فقد تبين لك الفرق بين مذاهب السلف والمتكلمين السنية والمحدثين والمبتدعة من المعتزلة والمجسمة بما أطلعناك عليه.. وكتب أهل السنة مشحونة بالحجاج على هذه البدع. وبسط الرد عليهم بالأدلة الصحيحة. وإنما أومأنا إلى ذلك إيماء يتميز به فصول المقالات وجملها. 

والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله). 

 

الهوامش:


[1] المصدر: مقدمة ابن خلدون- تحقيق: عبد السلام الشدادي- بيت الفنون والعلوم والآداب- الطبعة الأولى/الدار البيضاء-2005-

(وردت بعض الاختلافات في بعض الكلمات ما بين مختلف تحقيقات كتاب المقدمة أوردتها لزيادة الاستفادة من المعاني المختلفة بينها وعلمتها بعلامة”/”). 

 

                                            إعداد الباحث: منتصر الخطيب

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق