مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

بِلِسَانٍ عربي مبينٍ

كتبه: أبو مدين شعيب تياو الأزهري الطوبوي
الباحث بمركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية
*  *   *
تمهيد
شُغل عُلماء هَذه الأمة، بخدمة القرآن الذي أُنزلَ هدًى ورحمة، وعكفوا على اختلاف الأمصار والأعصار، على كشف ما بين دفتيه من وُجوه الإعجازِ والأسرار؛ فما غَادرُوا فيه مجملا إلا فصَّلوهُ، ولا مُعضلًا إلَّا بَيَّنوهُ وأشْكلوهُ، ولا مسألةً إلَّا أماطُوا عنها اللِّثام، ولا قضية مستعصيةً إلا وَضَّحُوها ومَدُّوا فيها عِنان الكلام.
وكان من المسائلِ التي شَغلتهُمْ، وعُنوا بها وأسرحوا فيها قرائحهم: هل وردت في القرآن مفردات غير عربية؟ فقد ذهبوا في هذهِ المسألةِ طرائقَ قدداً، وتكلموا عنها في مؤلفاتهم؛ ومنهم: الشافعي [ت:204هـ] في «الرسالة، ص:34»، وأبو عبيدة معمر بن المثنَّى [ت:210هـ] في «مجاز القرآن، 1/17»، وتلميذه أبو عُبيد القاسم بن سلّام [ت:224هـ] في «غريب الحديث، 5/269»، وابن جرير الطبري [310هـ] في تفسيره «جامع البيان في تأويل آي القرآن،1/13»، وابن فارس [ت: 395هـ] في «الصاحبي في فقه اللغة، 1/41»، وأبو بكر الباقلانيّ [ت:403هـ] في «التقريب والإرشاد، 1/399»، والغزالي [ت:505هـ] في «المستصفى، 1/200»، وأبو منصور الجواليقي [ت:540] في «المعرّب، ص:92»، وابن عطية [546هـ] في «المحرر الوجيز، 1/51»، والزركشي [ت:794هـ] في «البرهان في علوم القرآن، 1/201»، والثعالبي [ت:875هـ] في تفسيره «الجواهر الحسان في تفسير القرآن، 1/148»، والسيوطي [ت:911] في «الإتقان في علوم القرآن، 2/125»، وخصص للمسألة كتابين هما:«المهذّب فيما وقع في القرآن من المعرّب»، و«المتوكّلي» وغير أولئك من أولي النهى والعلم – رحمهم الله أجمعين-.
معنى المُعرَّب ومذاهب العلماء فيه:
المعرَّب اسم مفعول من عرَّب الشيءَ تعريباً، إذا جعله عربيًّا، وفي الاصطلاح هو:”اللفظُ المستعمَل عند العربِ في معنًى وُضعَ له في غير لغتهم(1)  “.
وقد اختلف العلماء في وروده في القرآن على مذهبين اثنين:

تمهيد:

شُغل عُلماء هَذه الأمة، بخدمة القرآن الذي أُنزلَ هدًى ورحمة، وعكفوا على اختلاف الأمصار والأعصار، على كشف ما بين دفتيه من وُجوه الإعجازِ والأسرار؛ فما غَادرُوا فيه مجملا إلا فصَّلوهُ، ولا مُعضلًا إلَّا بَيَّنوهُ وأشْكلوهُ، ولا مسألةً إلَّا أماطُوا عنها اللِّثام، ولا قضية مستعصيةً إلا وَضَّحُوها ومَدُّوا فيها عِنان الكلام.

وكان من المسائلِ التي شَغلتهُمْ، وعُنوا بها وأسرحوا فيها قرائحهم: هل وردت في القرآن مفردات غير عربية؟ فقد ذهبوا في هذهِ المسألةِ طرائقَ قدداً، وتكلموا عنها في مؤلفاتهم؛ ومنهم: الشافعي [ت:204هـ] في «الرسالة، ص:34»، وأبو عبيدة معمر بن المثنَّى [ت:210هـ] في «مجاز القرآن، 1/17»، وتلميذه أبو عُبيد القاسم بن سلّام [ت:224هـ] في «غريب الحديث، 5/269»، وابن جرير الطبري [310هـ] في تفسيره «جامع البيان في تأويل آي القرآن،1/13»، وابن فارس [ت: 395هـ] في «الصاحبي في فقه اللغة، 1/41»، وأبو بكر الباقلانيّ [ت:403هـ] في «التقريب والإرشاد، 1/399»، والغزالي [ت:505هـ] في «المستصفى، 1/200»، وأبو منصور الجواليقي [ت:540] في «المعرّب، ص:92»، وابن عطية [546هـ] في «المحرر الوجيز، 1/51»، والزركشي [ت:794هـ] في «البرهان في علوم القرآن، 1/201»، والثعالبي [ت:875هـ] في تفسيره «الجواهر الحسان في تفسير القرآن، 1/148»، والسيوطي [ت:911] في «الإتقان في علوم القرآن، 2/125»، وخصص للمسألة كتابين هما:«المهذّب فيما وقع في القرآن من المعرّب»، و«المتوكّلي» وغير أولئك من أولي النهى والعلم – رحمهم الله أجمعين-.

معنى المُعرَّب ومذاهب العلماء فيه:

المعرَّب اسم مفعول من عرَّب الشيءَ تعريباً، إذا جعله عربيًّا، وفي الاصطلاح هو:”اللفظُ المستعمَل عند العربِ في معنًى وُضعَ له في غير لغتهم(1)  “.

وقد اختلف العلماء في وروده في القرآن على مذهبين اثنين: 

الأول: مذهب الفقهاء، ينفون وقوعَ ذلك، ويرون أن كل ما بين دفتي المصحف عربيٌّ خالصٌ، ومن ادَّعى غير ذلك فعن قصر باعٍ، وقلة نظرٍ واطلاعٍ، ودليلهم في ذلك قوله تعالى:( وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (*) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (*) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (*) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ)[الشعراء:192-195]، وقوله:(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)[يوسف:2]، وقوله:(وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا…)[فصلت:44].

ومن هؤلاء الشافعي – رحمه الله – في «رسالته»؛ فقد شدّد النكير على المخالفين، وقال:” وقد تكلم في العلم مَن لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه منه لكان الإمساكُ أولى به، وأقربَ من السلامة له إن شاء الله. فقال منهم قائل: إن في القُرَانِ عربياً وأعجميًا، والقُرَانُ يدل على أنْ ليس من كتاب الله شيء إلا بلسان العرب. ووجد قائل هذا القول مَن قَبِلَ ذلك منه تقليداً له، وتركاً للمسألة عن حجته، ومسألةِ غيره ممن خالفه، وبالتقليد أغفلَ من أغفلَ منهم، والله يغفر لنا ولهم(2)  “، ومنهمْ أبو عبيدةَ معمر بن المثنى [ت:210هـ] الذي قال:”نَزلَ القرآن بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ؛ فمن زعم أنّ في فيهِ غيرَ العربيّةِ، فقد أعظمَ القَوْلَ، ومَنْ زعم أن «طه» بِالنّبطيّة فقد أَكْبر(3)  “، أي: أتَى بأمرٍ عَظيم وكبيرٍ، ومنهم أيضا ابن فارس الذي عقد باباً وسمَّاهُ (باب القول فِي اللغة الَّتِي بِهَا نزل القرآن وأنه لَيْسَ فِي كتاب الله جل ثناؤه شيء بغير لغة العرب)، وقال مفسراً لكلام أبي عبيدةَ ومؤيداً لما ذَهب إليه من المنعِ:”لَوْ كَانَ فِيهِ من غير لغة العرب شيءٌ، لتوهَّم مُتوهِّمٌ أَنَّ العربَ إنما عَجَزت عن الإتيان بمثله لأنه أتى بلغاتٍ لا يعرفونها، وَفِي ذَلِكَ مَا فِيهِ  (4)”.

ومن هؤلاء أيضا الإمام الطبري وأبو بكر الباقلاني اللذان بالغا في برهنةِ مذهبهما والرد على المخالفين، وكذلك ابنُ الأنباري وكثير من العلماء – رحمهم الله ورضي عنهم -، لكنهم – وإن اتفقوا على عدم الوقوع – فقد اختلفوا في تلك الألفاظ التي يرى أهل المذهب الثاني أنها ليست بعربية، ولهم فيها رأيان، وهما:

1- أن تلك الألفاظ عربيّة صرفة، لكنَّ لغة العربِ واسعة، ومراميها بعيدة وشاسعة، فهي بحر لجيٌّ، لا يُدرك قعرَه إلا نبيٌّ، ولذلك فلا يبعدُ أن يخفى بعض الأصول، على الأكابر والفحول، ولا يبعدُ أيضاً أن تكون العربُ سبقوا غيرهم إلى تلك الألفاظ؛ لأنهم من أقدم الأمم، ولغتهم من أقدم اللغات وجوداً، كانت قبل إبراهيم وإسماعيل، وقبل الكلدانية والسريانية وغيرها بلهَ الفارسية  (5).

وفي هذا يقول السيوطي – رحمه الله -“وقال آخرون: كلُّ هذه الألفاظ عربية صرفة، ولكن لغة العرب متسعة جداً، ولا يبعد أن تخفى على الأكابر الجِلَّةِ وقد خفي على ابن عباس – رضي الله عنهما – معنى فاطر  (6)”.

وممن نحا هذا المنحى الإمامُ الشافعي – رحمه الله -، ووكَّد ذلك بقوله:”ولسان العرب أوسعُ الألسنة مذهباً، وأكثرها ألفاظاً، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غيرُ نبي (7)”، وكذلك أبو المعالي شيذلة [ت:494]، وقال:”إنما وجدت هذه الألفاظ في لغة العرب لأنها أوسع اللغات وأكثرها ألفاظاً، ويجوز أن يكونوا سبقوا إلى هذه الألفاظ  (8)”.

2- ويرى آخرون أن ذلك من باب التوارد والاتفاق، بمعنى أن اللغات اتفقتْ على التعبير عن بعض المعاني بلفظَةٍ واحدةٍ، دون أن تأخذَ لغةٌ منْ أُخرى، ومن هؤلاء الإمام ابن جرير الطبري – رحمه الله -، الذي أغرقَ في بيان ذلك والدفاع عن رأيه، وحمل ما رويَ عن ابن عباس وغيرهِ هذا المحمَل، واستَجْهلَ من يمنع اتفاق اللغات، وقال:” فإن ظنَّ ذو غباءٍ أنَّ اجتماع ذلك في الكلام مستحيلٌ -كما هو مستحيل في أنساب بني آدم- فقد ظنَّ جهلًا  (9)”، كما أن هذا الاحتمال واردٌ أيضاً عند الإمام الشافعي –رحمه الله-، وأبي عبيدةَ وابن الأنباري؛ فلم يستبعدُوا أن يكون بعضُ ذلك من باب الاتفاق  (10).

وقد ردّ على الإمام الطبريِّ الإمامُ ابنُ عطية – رحمهما الله – واستبعد أن تكون العرب وَارَدُوا غيرَهم من الأمم في بعض الألفاظ، فقال في الباب الذي أطلق عليه:«باب في ذكر الألفاظ التي في كتاب الله وللغات العجم بها تعلّق»:”وما ذهب إليه الطبري من أن اللغتين اتفقتا في لفظة فذلك بعيد، بل إحداهما أصل، والأخرى فرع في الأكثر، لأنا لا ندفع أيضا جواز الاتفاقِ إلَّا قَلِيلًا شَاذًّا  (11)”.

الثاني: مذهب أهل العربية، ويرون وقوع ذلك، وأنْ لا منافاةَ بينَ ورودِ ألفاظٍ غير عربيةٍ وبينَ ما كَقوله تَعالى:(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)[يوسف:2]، قال الغزالي – رحمه الله -:”اشْتِمَالُ جَمِيعِ الْقُرْآنِ عَلَى كَلِمَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ أَصْلُهَا عَجَمِيٌّ وَقَد اسْتَعْمَلَتْهَا الْعَرَبُ وَوَقَعَتْ فِي أَلْسِنَتهمْ لَا يُخْرِجُ الْقُرْآنَ عَنْ كَوْنِهِ عَرَبِيًّا وَعَنْ إطْلَاقِ هَذَا الِاسْمِ عَلَيْهِ، وَلَا يَتَمَهَّدُ لِلْعَرَبِ حُجَّةٌ، فَإِنَّ الشِّعْرَ الْفَارِسِيَّ يُسَمَّى فَارِسِيًّا وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ آحَادُ كَلِمَاتٍ عَرَبِيَّةٍ إذَا كَانَتْ تِلْكَ الْكَلِمَاتُ مُتَدَاوَلَةً فِي لِسَانِ الْفُرْسِ  (12)”.

واستشهدوا بعدة نصوصٍ، ومنها: ما رويَ عن سَعيد بن جُبَير، قال: قالت قريش: لولا أنزل هذا القرآن أعجميًّا وعربيًّا، فأنزل الله تعالى ذكرُه:(لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ)[فصلت:44] فأنزل الله بعد هذه الآية في القرآن بكلِّ لسانٍ، فيه:(حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ)[هود:82، الحجر:74] قال: فارسية أعربت  (13)”، وكذلك ما رويَ عن الضَّحَّاكِ ، قَالَ:(نَزَلَ الْقُرْآنُ بِكُلِّ لِسَانٍ)   “، ورُوِيَ مثلهُ عن أبي ميسرة  (15).

ونقل الثعالبي – رحمه الله تعالى-  عن بعضهم قال:(ليسَ لغةٌ في الدّنيا إلا وهي في القرآن)   (16).

كما استشهدوا بما وقع فيه من أسماء الأعلام، مثل إبراهيم وإسحاق ويعقوب؛ لأنها لم تنصرفْ لعلتيِ العلمية والعُجمة، وقالوا:”إذا اتُّفقَ على وقوع الأعلام فلا مانعَ من وقوع الأجناس  (17)”.

ومن هؤلاء ابن عبّاس ومجاهد وعكرمة، وابن مسعود، وعطاء، والغزالي، والزمخشري، وابن الحاجب، والسيوطي، وغيرهم – رحمهم الله ورضي عنهم –  (18).

وأما حكمة وقوع هذه الألفاظ في القرآن فمنها أمران اثنان:

الأول: أن القرآن حوى علوم الأولين والآخرين ونبأ كل شيء فلا بدَّ أن تقع فيه الإشارة إلى أنواع اللغات والألسن لتتمَّ إحاطته بكل شيءٍ، فاختير له من كل لغةٍ أعذبَها وأخفَّها وأكثرها استعمالاً للعرب  (19)”. ويوكّد ذلك ابنُ النقيب – رحمه الله – بقوله:”من خصائصِ القرآن على سَائر كتبِ الله المنزَّلة أنَّها نزلتْ بلغةِ القوم الذينَ أنزلت عليهمْ، لم ينزل فيها شيءٌ بلغة غيرهم. والقرآن احتوى على جميع لغات العربِ وأُنزلَ فيه بلغاتِ غيرهم من الروم والفرس والحبشة شيءٌ كثير  (20)”.

الثاني: أنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – مرسل إلى كل الأمم باختلاف لغاتهم وأجناسهم، ولذلك فلا عجب أن يحتوي القرآن شيئا من لغةِ كل أمةٍ، قال السيوطي – رحمه الله -:”النبي – صلى الله عليه وسلم – مرسلٌ إلى كل أمةٍ، وقد قال تعالى:(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ)[إبراهيم:4]، فلا بدَّ وأن يكونَ في الكتاب المبعوثِ به من لسانِ كل قومٍ، وإن كان أصله بلغة قومه هو  (21)”.

*  *   *

وقد حاولَ بعض العلماء الجمع بين المذهبين والتوفيق بينهما، وذكروا أن تلك الكلمات تسرَّبَتْ إلى العرب عن طريق اختلاطهم بالأمم الأخرى، لكنهم عرَّبوها، بمعنى تمَّ إخضاعها لسَنن العربية وقواعدها، بالتغيير والتبديل، حتى شاعت بينهم واستعملوها في أشعارهم، وكذلك فإن بعضًا ممَّا عبروا عنه بلفظٍ غير عربيّ لم يعرفوه إلا عن غيرهم، كالثياب من الحرير التي عرفها العرب من الفرس، وكالاستبرقِ الذي يعني الديباج الثخين، وما كان كذلك مما لم يكن لهم به عهد فقد “عرَّبوا ماسمعوا من العجم واستغنوا به عن الوضع لقلَّةِ وجودهِ عندهمْ وَندرة تلفّظهم به  (22)”، وعليه فمن نظر إلى أصل اللفظ قال عجميٌّ، ومن نظر إلى حَالهِ قال:عربيٌّ.

قال أبو عُبيدٍ القاسم بن سلّام الأزديُّ [ت:224هـ] – رحمه الله – بعد أن ذكر مذهبيِ الفقهاء وأهل العربيةِ في المنع والوقوعِ:”وكلاهما مصيبٌ إنْ شاء الله؛ وذلك أنَّ هذهِ الحروف بغير لسان العرب في الأصلِ، فقال أولئك على الأصل، ثم لفظت به العربُ بألسنتِها، فعرَّبتْهُ، فصار عربيًّا بتعريبها إيَّاهُ؛ فهي عربية في هذه الحال، عَجَمِيَّةُ الأصل. فهذا القولُ يصدِّق الفريقينَ جميعًا  (23)”.

وقال ابن عطية – رحمه الله -:”والذي أقوله: إنَّ القاعدة والعقيدة هي أن القرآن نزل بلسان عربي مبين، فليس فيه لفظة تخرج عن كلام العرب فلا تفهمها إلا من لسان آخر، فأمَّا هذه الألفاظُ وما جرى مجراها فإنه قد كان للعرب العاربة التي نزل القرآن بلسانها بعضُ مخالطةٍ لسائر الألسنة بتجاراتٍ وبرحلتي قريش، وكسفر مسافر بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس إلى الشام، وسفر عمر بن الخطاب، وكسفر عمرو بن العاصي وعمارة بن الوليد إلى أرض الحبشة، وكسفر الأعشى إلى الحيرة وصحبته لنصاراها مع كونه حجة في اللغة، فَعَلِقَتْ العربَ بهذا كلِّهِ ألفاظٌ أعجميّةٌ، غيَّرتْ بعضَهَا بالنقص من حروفها، وجرَتْ إلى تخفيف ثقل العُجمة، واستعملتها في أشعارها ومحاوراتها حتى جرت مجرى العربي الصريح، ووقع بها البيان، وعلى هذا الحد نزل بها القرآن، فإن جهلها عربيّ ما فكجهله الصَّريحِ بما في لغةِ غيره، كما لم يعرف ابن عبّاسٍ معنى «فاطر» إلى غير ذلك، فحقيقة العبارة عن هذه الألفاظ أنها في الأصل أعجمية، لكن استعملتها العرب وعربتها فهي عربية بهذا الوجه  (24)”.

خاتمة:

هذه خلاصة ما قاله العلماء الأجلاء في المسألة، ومذاهبهم فيها، والناظرُ في أقوالهم يكتشفُ أنّ كلا من المذهبين كان مقصده شريفا، وأنَّ غرضَهُ كان عالياً ومنيفًا؛ فإنَّ كلَّ رأيٍ كان يسبح في فلك إبراز إعجاز القرآن، وكشف ما بين دَفتيه من البلاغة الناصعة والبيان؛

أمَّا المذهب الأول فقد رأوا ما رأوا نفياً لكل شبهةٍ يمكن أن تقدح في إعجاز كتاب الله تعالى، وسداًّ للذريعة، حتى لا يُنالَ من بلاغته وفصاحته، ولا يُتوهَّم أن مُنزلَه عجز عن إيراده بلسان واحدٍ واضطُرَّ إلى الاستعانة باللغات الأخرى، أوْ أنَّ العرب المتَحَدَّيْنَ به عجزُوا عن الإتيانِ بمثله لأنَّ فيه لغاتٍ لا يَعرفونهَا  (25).

وأمّا المذهب الثاني، فيرون أنَّ احتواء هذا الكتاب على ألفاظ من لغاتٍ أخرى ليس مناقضاً للبلاغة والبيان، بل هو غاية البلاغة؛ لأنه تضمن شيئاً من لغة كل أمةٍ من الأمم المبعوثِ إليها النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -.

ولعل ذلك ما تنبه له بعض الأئمة ودفعهم إلى تصويب كلا القولين والتوفيق بين المذهبين، ومنهم أبو عبيد القاسم بن سلام [ت: 224هـ]، الذي قال بعد ذكر الخلاف:”وكلاهُمَا مُصيبٌ إنْ شَاءَ الله  (26)”.

 ــــــــــ

الهوامش:

1.  رفع الحاجب، 1/414، وانظر: التوقيف على مهمات التعاريف، ص:310.

2.  الرسالة، ص:41-42.

3.  مجاز القرآن، 1/17.

4.  الصاحبي، 1/46.

5.  انظر: مقدمة تحقيق كتاب “المعرب للجواليقي” لأحمد محمد شاكر، ص:13.

6.  المهذب، ص:59.

7.  الرسالة، ص:42 وما بعدها.

8.  المهذب، ص:59.

9.  تفسيير الطبري، 1/17، وانظر أيضا:1/15.

10.  يقول الشافعي – رحمه الله -:”ولا ننكر إذْ كان اللفظُ قِيل تعلماً، أو نُطِقَ به موضوعاً: أنْ يوافقَ لسانُ العجم أو بعضُها قليلاً من لسانِ العرب، كما يَاتَفِقُ [أي: يتفقُ] القليلُ من ألسنة العجمِ المتباينةِ في أكثر كلامها، مع تنائي ديارهَا، واختلاف لسانها، وبُعدِ الأواصر بينها وبين من وافقتْ بعضَ لسانه منها”[الرسالة، ص:44-45]، ويقول أبو عبيدة:”وقد يوافق اللفظ اللفظ ويقار به ومعناهما واحد، وأحدهما بالعربية والآخر بالفارسية أو غيرها”[مجاز القرآن، 1/17]، ويقول ابن الأنباري:”وقالَ بعض المفسرين: صِرْهُنّ معناه: قَطِّع أَجنِحَتَهُنّ، وأَصله بالنَّبَطيَّة صِرْيَة. ويُحكَى هذا عن مُقاتل سُليمان. فإِن كان أُثر هذا عن أَحد من الأَئمَّة، فإِنَّه ممَّا اتَّفقت فيه لغة العرب ولغة النَّبَط؛ لأنَّ الله عزَوجلّ لا يخاطِب العرب بلغة العجم؛ إذْ بَيَّن ذلك في قوله جلَّ وعلا:(إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون)”[الأضداد، ص:38].

11.  المحرر الوجيز، 1/51.

12.  المستصفى، 1/201.

13.  تفسيير الطبري، 1/14، المهذب، ص:61.

14.  المهذب، ص:61.

15.  تفسيير الطبري، 1/14، المهذب، ص:61.

16.  المهذب، ص:61.

17.  المهذب، ص:60.

18.  إعراب القرآن الكريم وبيانه، 7/65.

19.  المهذب، ص:61.

20.  نقل ذلك عنه السيوطي في: المهذب، ص:62.

21.  المهذب، ص:62.

22.  المهذب، ص:64.

23.  غريب الحديث، 5/270.

24.  المحرر الوجيز، 1/51.

25.  انظر مثلا: التقريب و الإرشاد للباقلاني، 1/401 وما بعدها. وقد عبر عن ذلك الأستاذ محيي الدين  الدرويش بقوله:”يبدو أن الذين رفضوا وجود المعرب في القرآن سيطر عليهم الوازع الديني أكثر من تقرير الواقع اللغوي”[إعراب القرآن الكريم وبيانه، 7/66].

26.  غريب الحديث لأبي عبيد، 5/270.

*    *     *

فهرس المصادر والمراجع:

– القرآن الكريم.

– الأضداد، لأبي بكر محمد بن القاسم الأنباري (ت: 328هـ)، ت: محمد أبو الفضل إبراهيم، ط:1407هـ/1987م، الناشر: المكتبة العصرية، بيروت.

– جامع البيان في تأويل القرآن، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري (ت:310هـ)، ت: أحمد محمد شاكر، ط:1، 1420هـ/2000م، الناشر: مؤسسة الرسالة.

– الرسالة، للإمام الشافعي (ت:204هـ)، ت: أحمد محمد شاكر، ط:1، 1357هـ/1938م، الناشر: مطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر.

– غريب الحديث، لأبي عُبيد القاسم بن سلاّم الهروي البغدادي (ت: 224هـ)، الجزء الخامس، ت: حسين محمد محمد شرف، مراجعة: مصطفى حجازي، ط:1415هـ/1994م، الناشر: المطابع الأميرية، القاهرة.

– مجاز القرآن، لأبي عبيدة معمر بن المثنى التيمى البصري (ت: 210هـ)ـ ت: محمد فواد سزگين، الناشر: مكتبة الخانجى – القاهرة.

– المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لابن عطية الأندلسي، (ت:546)، ت: عبد السلام عبد الشافي محمد، ط:2، 1428هـ/2007م، الناشر: دار الكتب العلمية – لبنان.

– المُعرَّب من الكلام الأعجميِّ على حروف المعجم، لأبي منصور الجواليقي (ت:540هـ)، ت: أحمد محمد شاكر، ط:1389هـ/1969م، مطبعة دار الكتب.

–  المهذّب فيما وقع في القرآن من المعرّب، لجلال الدين السيوطي (ت:911هـ)ـ ت: د.التهامي الراجي الهاشمي، الناشر: صندوق إحياء التراث الإسلامي، المشترك بين المملكة المغربية ودولة الإمارات العربية المتحدة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق