مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

بين الشيخ والمريد: أيّة علاقة؟

إن تشابك علاقات التنشئة الاجتماعية بين المعلم والمتعلم وخاصة إذا كان مدارها اكتساب صفات وخصائص المعلم من حيث كونه قدوة، أمر لا يمكن تجاهله، ولذا فعلاقة الشيخ بالمريد لمَِن أهم دعامات الطريقة الصوفية، بدونها لا يستقيم طريق المريد، بل لعلّه لا يوجد له طريق أصلا…

فالطريق الصوفي هو طريق مجاهدة النفس والشيطان، وقد أطلق صلى الله عليه وسلم على جهاد النفس والهوى الجهاد الأكبر، وأطلق على الجهاد في ميدان القتال الجهاد الأصغر. فعن جابر قال: “قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم غزاة، فقال عليه الصلاة والسلام: ” قدمتم خير مقدم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، قيل: وما الجهاد الأكبر؟ قال: “مجاهدة العبد هواه”.[1] والنبي صلى الله عليه وسلم أعظم من أن يعطي صفة لشيء دون أن تكون منطبقة عليه تماما، وكذلك من هذا الحديث يتضح لنا ما يحتاجه جهاد النفس من عناصر ومقومات واستعداد يفوق ما يحتاجه الجهاد الأصغر من قائد وجماعة تشمل إخوانا معاونين وأسلحة…

الشيخ وسيلة صادقة للتقرب إلى الله، فهو المربي الذي مرّ بالتجربة وخالف النفس وانتصر على الهوى، وهو الملقِّن الذي يُبصِّر المريد، ويلقنه سبيل الرشاد، وينجيه من العوائق والعثرات، حتى يستقيم حاله ويتعرف على الطريق الحق للتوجه إلى الله تعالى، والذي لا شك فيه أن المريد بلا أخ ناصح ولا مرشد صادق، يقع في المتناقضات وينقاد إلى المهلكات دون أن يدري، لأنه لا يعرف ما هو حق وما هو باطل، كما أن الركون إلى هوى النفس والشيطان سهل يسير، أما العمل في مرضاة الله عز وجل فصعب عسير، ومن هنا تتضح ضرورة وجود الشيخ المربي في الطريق، لأن منازل القوم كثيرة، ولا يرشد فيها إلا من سلك وعرف مزالقها، والأخذ عن الشيخ فيه سر الإمداد بالبركة وربط المريد بالوصلة المحمدية، وذلك أشبه بالتيار الكهربائي الذي لا ينتقل إلا بالموصل، فالشيخ هو محرك الطاقة، وهو واجب شرعي باعتباره وسيلة إلى الله  تعالى، لدخوله في عموم قوله عز وجل: ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة﴾.[2] وقال تعالى: ﴿أولئك الذين هدى الله بهداهم اقتده﴾.[3]

وفي ذلك يقول الإمام الغزالي: “…فكذلك المريد يحتاج إلى شيخ وأستاذ يقتدي به لا محالة ليهديه إلى سواء السبيل، فإن سبيل الدين غامض وسُبل الشيطان كثيرة ظاهرة، فمن لم يكن له شيخ يهديه قاده الشيطان إلى طرقه لا محالة، فمن سلك سبيل البوادي المهلكة بغير خفير فقد خاطر بنفسه وأهلكها، ويكون المستقل بنفسه كالشجرة التي تنبت بنفسها فإنها تجف على القرب، وإن بقيت مدة وأورقت لم تثمر…”.[4]

وقال الإمام القشيري: “يجب على المريد أن يتأدب بشيخ، فإن لم يكن له أستاذ لا يفلح أبدا، هذا أبو يزيد البسطامي يقول: من لم يكن له أستاذ فإمامه الشيطان”.[5]

ثم قال: “سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: “الشجرة إذا نبتت بنفسها من غير غارس فإنها تورق ولكنها لا تثمر، كذلك المريد إذا لم يكن له أستاذ يأخذ منه طريقته نفسا فنفسا فهو عابد هواه لا يجد نفاذا”.[6]

والحقيقة أن هناك تشابها كبيرا بين علاقة المريد والشيخ في “التصوف”، وبين علاقة المحلل النفسي والمريض في “علم النفس”، من حيث التسليم والصراحة والطاعة التامة، فالشيخ يجب أن يكون على دراية بالاحتياجات النفسية للمريد، كما يجب أن يتمتع الشيخ بإدراك حدسي وبصيرة عميقة لفهم النفس الإنسانية، فالشيوخ هم أطباء النفوس ومرشدو الأخلاق…

واستند الصوفية في علاقة المريد بالشيخ إلى قصة سيدنا موسى مع الخضر عليهما السلام، والأكثر من ذلك أنهم أخذوا منها الحوار الرائع الذي دار بينهما، وضرورة الأدب الجم لطالب العلم وإن كان في مرتبة الأنبياء، واعتُبِرت قواعد الخضر لسيدنا موسى عليهما السلام أساسا لا بد أن يتخلق به المريد مع شيخه في الطريق. وفي ذلك قال السهروردي: “وينبغي للمريد أنه كلما أشكل عليه شيء من حال الشيخ يذكر قصة سيدنا موسى مع الخضر عليهما السلام، كيف كان الخضر يفعل أشياء ينكرها موسى، وإذا أخبره الخضر بسرها يرجع موسى عن إنكاره، فما ينكره المريد لقلة علمه بحقيقة ما يوجد من الشيخ، فللشيخ في كل شيء عذر بلسان العلم والحكمة”.[7]

وقال الأمير عبد القادر الجزائري في كتابه: “المواقف”، الموقف المائة والواحد والخمسون: قال الله تعالى حاكيا قول موسى للخضر عليهما السلام: ﴿هل أتبعك على أن تعلمن مما عُلمت رُشدا﴾.[الكهف/66]: اعلم أن المريد لا ينتفع بعلوم الشيخ وأحواله إلا إذا انقاد له الانقياد التام، ووقف عند أمره ونهيه، مع اعتقاده الأفضلية والأكملية، ولا يغني أحدهما عن الآخر، كحال بعض الناس يعتقد في الشيخ غاية الكمال ويظن أن ذلك يكفيه في نيل غرضه، وحصول مطلبه، وهو غير ممتثل ولا فاعل لما يأمره الشيخ به، أو ينهاه عنه…، فهذا موسى عليه السلام، مع جلالة قدره وفخامة أمره، طلب لقاء الخضر عليه السلام، وسأل السبيل إلى لُقيِّه، وتجشم مشاق ومتاعب في سفره، كما قال:   ﴿لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا﴾. [الكهف/62]، ومع هذا كله لمّا لم يمتثل نهيا واحدا، وهو قوله: ﴿فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا﴾.[الكهف/70]، ما انتفع بعلوم الخضر عليه السلام، مع يقين موسى عليه السلام الجازم أن الخضر أعلم منه بشهادة الله تعالى، لقوله تعالى عندما قال موسى عليه السلام: لا أعلم أحدا أعلم مني: [بلى، عبدنا الخضر] وما خصّ علما دون علم، بل عمّم، وكان موسى عليه السلام أولا ما علم أن استعداده لا يقبل شيئا من علوم الخضر عليه السلام، وأما الخضر عليه السلام فإنه علم ذلك أول وهلة فقال: ﴿إنك لن تستطيع معي صبرا﴾. [الكهف/67]، وهذا من شواهد علمية الخضر عليه السلام، فلينظر العاقل إلى أدب هذين السيدين: قال موسى عليه السلام: ﴿هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا﴾. [الكهف/66]، أي هل تأذن في اتباعك لأتعلم منك؟ ففي هذه الكلمات من حلاوة الأدب ما يذوقها كل سليم الذوق. وقال الخضر عليه السلام: ﴿فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا﴾.[الكهف/70]، وما قال: فلا تسألني، وسكت، فيبقى موسى عليه السلام حيرانا متعطشا، بل وعده أن يحدث له ذكرا، أي علما بالحكمة فيما فعل…، فأكملية الشيخ في العلم المطلوب منه المقصود لأجله لا تغني عن المريد شيئا، إذا لم يكن ممتثلا لأوامر الشيخ، مجتنبا لنواهيه. وقد قيل في ذلك:

                   وما ينفع الأصل من هاشم        إذا كانت النفس من باهلة

    وإنما تنفع أكملية الشيخ من حيث الدلالة الموصلة إلى المقصود، وإلا فالشيخ لا يعطي المريد إلا ما أعطاه له استعداده، واستعداده منطوٍ فيه، وفي أعماله، كالطبيب الماهر إذا حضر المريض وأمره بأدوية فلم يستعملها المريض فما عسى أن تغني عنه مهارة الطبيب؟ وعدم امتثال المريض دليل على أن الله تعالى ما أراد شفاءه من علته، فإن الله إذا أراد أمرا هيّأ له أسبابه. وإنما وجب على المريد طلب الأكمل الأفضل من المشايخ خشية أن يلقي قياده بيد جاهل بالطريق الموصل إلى المقصود، فيكون ذلك عونا على هلاكه”.[8]

ولذلك قال سيدي ابن عطاء الله السكندري في إحدى حكمه: “لا تصحب من لا يُنهضك حاله ولا يدلك على الله مقاله”.[9]

وقال الشيخ أحمد زروق رحمه الله في قواعده: “أخذ العلم والعمل عن المشايخ أتم من أخذه دونهم، ﴿بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم﴾.[العنكبوت/49]، وقال تعالى: ﴿واتبع سبيل من أناب إليّ﴾.[لقمان/15]، فلزمت المشيخة، سيما والصحابة أخذوا عنه عليه الصلاة والسلام، وقد أخذ هو عن جبريل، واتبع إشارته في أن يكون عبدا نبيا، وأخذ التابعون عن الصحابة، فكان لكلٍّ أتباع يختصون به كابن سيرين وابن المسيب والأعرج لأبي هريرة، وطاوس ووهب ومجاهد لابن عباس، إلى غير ذلك. فأما العلم والعمل فأخذه جليّ فيما ذكروا كما ذكروا، وأما الإفادة بالهمة والحال فقد أشار إليها أنس بقوله: “ما نفضنا التراب عن أيدينا من دفنه عليه الصلاة والسلام حتى أنكرنا قلوبنا”. فأبان أن رؤية شخصه الكريم كانت نافعة لهم في قلوبهم، إذ من تحقق بحالة لم يخلُ حاضروه منها، فلذلك أمر بصحبة الصالحين، ونهى عن صحبة الفاسقين”.[10]

فالعلاقة بين الشيخ والمريد هي علاقة من نوع فريد تقوم أساسا على الحب والتسليم والطاعة والاعتقاد في علمه الظاهر والباطن وأنه أهل لفهم نفس المريد وعلاجها وترقيتها وتزكيتها، كل هذا دون أن تكون لهذه العلاقة أية مصلحة إلا الرغبة في الفتح والقرب الإلهي الذي يصل إليه المريد برجوعه المستمر إلى الشيخ في كافة أموره الدينية والدنيوية، لثقته في علمه الظاهر والباطن، وحرصه على التماس البركة من الشيخ في كافة أمور حياته، ويتأكد بذلك أن للشيخ دورا إيجابيا يتغلغل في حياة مريديه بالنصح والإرشاد والتعاون على الخير…

ومن هنا يتبين خطأ من يظن أنه يستطيع بنفسه أن يعالج أمراضه القلبية، وأن يتخلص من علله النفسية بمجرد قراءة القرآن الكريم، والاطلاع على أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن الكتاب والسنة قد جمعا أنواع الأدوية لمختلف العلل النفسية والقلبية، فلا بد معهما من طبيب يصف لكل داء دواءه ولكل علة علاجها.

فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطبب قلوب الصحابة ويزكي نفوسهم بحاله وقاله، من ذلك ما حدث مع الصحابي الجليل أبي بن كعب رضي الله عنه قال: “كنت في المسجد، فدخل رجل فصلى، فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه، فلما قضينا الصلاة دخلنا جميعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه. فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرآ، فحسّن النبي صلى الله عليه وسلم شأنهما، فسُقط في نفسي من التكذيب ولا إذْ كنت في الجاهلية، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد غشيني ضرب في صدري، ففِضت عرقا، وكأني أنظر إلى الله عز وجل فرقا… الحديث”.[11]

فم يستطع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطببوا نفوسهم بمجرد قراءة القرآن الكريم، لكنهم لازموا مستشفى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان هو المزكي لهم، والمشرف على تربيتهم كما وصفه الله تعالى بقوله: ﴿هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة﴾.[12]

فالتزكية شيء وتعليم القرآن شيء آخر، إذ المراد من قوله تعالى: ﴿يزكيهم﴾، أي: يجعلهم أزكياء القلوب بالإيمان،[13] أي: يعطيهم حالة التزكية، ففرق كبير بين علم التزكية وحالة التزكية كما هو الفرق بين علم الصحة وحالة الصحة، والجمع بينهما هو الكمال.

وما أحسن ما قاله الفقيه المالكي سيدي عبد الواحد بن عاشر في منظومته الشهيرة: “المرشد المعين على الضروري من علوم الدين” مبينا ضرورة صحبة الشيخ وما تنتج من آثار طيبة:

         يصحب شيخا عارف المسالك            يقيه في طريقه المـهالك    

         يُذكِّـــــــــــــــــره الله إذا رآه            ويوصل العبد إلى مـولاه

         يحاسب النفس علــى الأنفاس           ويزِنُ الخاطر بالقسطاس

         ويحفظ المفروض رأس المال           والنفل ربحــــه به يوالي

         ويكثــــــــــر الذكر بصفوِ لبّه           والعون في جميع ذا بربه

         يجاهد النفس لــــرب العالمين          ويتحلى بمقامات الـــيقين

         يصــــــــير عند ذلك عارفا به          حُرّا، وغيره خـلا من قلبه

         فحبّـــــــــــــه الإله واصطفاه           لحـضرة القدّوس واجتباه

لذا فعلاقة الشيخ بالمريد هي علاقة ذات طبيعة خاصة لا يعرف أبعادها إلا من عاشها. ومرافقة الشيخ وصحبته هي العلاج العملي لإصلاح نفس المريد، وتهذيب الأخلاق، وغرس العقيدة، ورسوخ الإيمان، لأن هذه الأمور لا تُنال بقراءة الكتب ومطالعة الكراريس، إنما هي خصال عملية وجدانية تُقتبس بالاقتداء وتُنال بالاستسقاء القلبي والتأثر الروحي، ولذا يوصي العارفون بالله تعالى كل من أراد سلوك طريق الحق الموصل إلى معرفة الله ورضاه بالصحبة، والاعتقاد والتصديق بهؤلاء المرشدين الدالين على الله تعالى الموصلين إلى حضرته القدوسية.


[1] – رواه البيهقي في: الزهد الكبير، تحقيق: عامر أحمد حيدر، دار الجنان، بيروت، لبنان، ط1، 1408ھ-1987م، رقم الحديث: 373.

[2] – سورة المائدة، الآية: 5.

[3] – سورة الأنعام، الآية : 90.

[4]– إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي، تحقيق: سيد عمران، دار الحديث، القاهرة، د.ط، 1425ھ-2004م، 3/98.

[5]– الرسالة القشيرية في علم التصوف، أبو القاسم القشيري (ت465ﮪ)، تحقيق: معروف مصطفى زريق، المكتبة العصرية، بيروت، ط: 1426ھ-2005م، ص: 380.

[6]– المصدر السابق.

[7] – عوارف المعارف، السهروردي، تحقيق: أحمد عبد الرحيم السايح، وتوفيق علي وهبة، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ط1، 1427ھ-2006م، 2/453.

[8]– المواقف، عبد القادر الجزائري، موفم للنشر، طبع المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية، الجزائر، 1996، 1/100.

[9]– إيقاظ الهمم في شرح الحكم، أحمد بن عجيبة (ت1224ھ)، تحقيق: أحمد عزت، المكتبة التوفيقية، القاهرة، د.ط، د.ت، ص: 7.

[10]– قواعد التصوف، أحمد زروق، تحقيق: عثمان الحويمدي، وحسن السماحي سويدان، دار وحي القلم، بيروت، لبنان، ط1، 1425ھ-2004م، قاعدة: 65، ص: 73.

[11] – صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه، رقم الحديث: 818.

[12] – سورة الجمعة، الآية: 2.

[13] – الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، تحقيق: محمد إبراهيم الحفناوي، دار الحديث، القاهرة، ط: 1428ھ-2007م،  9/338.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق