مركز علم وعمران للدراسات والأبحاث وإحياء التراث الصحراويدراسات وأبحاث

النظم التعليمي في الصحراء وظاهرة التمازج اللغوي

النظم التعليمي في الصحراء وظاهرة التمازج اللغوي

وديع أكونين، باحث بمركز علم وعمران

لمحة من تاريخ النظم المتداخل في الجنوب المغربي

الأرجوزات التعليمية أحد أشكال النظم المنتشر في جنوب المغرب وصحرائه، وهي تاريخيّا قديمة قِدَم فكرة تقريب المعارف إلى العامة في هذا المجال، إذ يمكن أن نستحضر هنا على سبيل المثال الجهود الأولى للعالم أبي بكر المرادي الحضرمي (ت489ه/1106م)، القاضي زمن المرابطين، في سبيل تقريب المعرفة الدينية عامة، والعقيدة الأشعرية التي نافح عنها على وجه الخصوص، فقد كان “ينظُمُ أراجيز ومختصراتٍ في مختلف فروع الدين لتسهيل حفظها وتداولها بين السكان”([1]).

ونظرا لمكانة الشعر في المنظومة التعليمية في الصحراء فقد استوعب جل الفنون والمعارف التي يحتاج إليها المتلقي، بدءا بالمعارف الدينية كالفقه والفتوى والحديث والتفسير والتجويد والأصول والتصوف والأدعية، مرورا بالمعارف العلمية والثقافية السائدة كاللغة والنحو والبيان والحساب والطب والفلك وسر الحرف، وانتهاء بالفنون والعادات والمهارات الخاصة بالمناطق الصحراوية حيث يستدعي الأمر تعليم المتلقي، عبر النظم، ما يتوقف عليه تحصيلُ تلك المهارة أو العادة.

ومن ألوان النظم التعليمي الطريف الذي كان حاضرا في الصحراء، الأرجازُ التي تمزج بين اللسان الفصيح واللسان الحساني أو الأمازيغي، وهو لون برزت الحاجة إليه لتيسير التواصل مع المكونات المتنوعة بحكم الطبيعة الجغرافية للمنطقة الصحراوية.

يعسر ضبط فترة ظهور هذا اللون من الأرجاز في تاريخ الجنوب المغربي، لكن الأستاذ الباحث جهادي حسين، في دراسة له حول ظاهرة المزج بين اللغتين العربية والأمازيغية في الشعر السوسي([2])، أشار إلى أن الظاهرة قديمة قدم اختلاط الأمازيغية بالعربية.

ويمكن أن نسجل ملاحظة مهمة في هذا الصدد؛ هي وجود عدد لا بأس به من الرّجز المتداخل بين العربية والأمازيغية في جنوب المغرب ذي الأغراض المتنوعة، فقد نظم العلامة أحمد بن عبد السميح الرسموكي المتوفى سنة (1080هـ) الأرجوزة العربية الأمازيغية([3])، لتوصيف أحداث نزوله بقرية “وينزار” وما لاقاه من أهلها، حيث بلغ عدد أبياتها 148 بيتا، راعى فيها قواعد الشعر العربي من وزن وقافية، وهي وإن كان غرضها الأول وصفا للرحلة بنفَس ساخر، إلا أنها وظفت قاموسا أمازيغيا مهما بشكل متجانس يعين على استيعاب المعاني بسهولة وإتقان، كما يفهم من هذا المقطع:

سافرتُ دهْراً ووَصیفي [وِینْزَارْ] والقصد في السَّفر جَوْبُ [تِیمِیزَارْ] حتى حَلَلْتُ بعد سيرٍ [أُوسَّانْ] في سنَةٍ قد قلّ فیها [ءَانْزَارْ] والسیر في خیامها [وإِیكِیدَارْ] في قرية يدعونها [بأَورُفَانْ]([4])

لم يكن التداخل اللغوي في الشعر حبيس منطقة سوس وحدها، بل كان هذا النمط حاضرا في الشعر المغربي وشعر الصحراء كذلك، ومن أمثلة الشعر الفصيح هذه الأبيات المنسوبة للعلامة اليوسي (ت 1102ه):

أرى الحب يستولي على القلب بغتة
ومـن كـان هـكـذا فـلـسـت أرى لـه
كمثل هجوم الغيث في الصيف (إِغْدِ ئِفّي)
دواء سوى أكل العصيدة أوْ (بـُوفـِّي)([5])

وتجد في أبيات العلامة عبد الله بن محمد الصالحي الإلغي مخاطبا محمد بوزكر المانوزي هذا المزج حيث يقول:

وترتوي أكبادنا من [إِرِيفِي] لولا الضرورة لما [رَاكْ أَجَّغِي] لكنني أودع قلبي [تُولْغيونْين] ثم عليكم من سلامي [كِيكَانِي] وتنزوي عن القلوب [تَاغُوفِي] تذهبُ إذْ ودُّكَ بي قد [ئِمْغِي] لكم وإن قد طرتُمُ [بِتِفْراوِينْ] يا سيدا مطهرا من [إِرْكَانـِي]([6])

 ونظم العلامة الحسين الإفراني دفين تيزنيت منظومة بالعربية والأمازيغية([7])، كما لعمر بن عبيد الله بن أبي الحسن الروداني النفيسي معجما عربيا أمازيغيا سماه “المجموع اللائق على مشكل الوثائق”، نظمه سنة 1177ه، حققه الأستاذ عمر أفا ضمن منشورات المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية سنة 2007.

وذكر العلامة المختار السوسي في خلال جزولة كتابا يسمى ابوتونورات، يفسر الألفاظ العربية بالشلحة، وآخر في تعريف الكلمات الشرعية وهو غير كبير([8]).

ويعد نظم “سيرة الأكابر في ذكر بعض لغة البرابر” لشاعر مجهول، بتحقيق الباحث أحمد المنادي عن المعهد الملكي للدراسات الأمازيغية، من المنظومات التعليمية المتميزة، إذ طرق ناظمها حقولا دلالية شتى في 378 بيتا، محاولا التوفيق بين النطق الأمازيغي في الأطلس الكبير والمتوسط والصغير، ومشيرا للخلاف في اللسان، قال في مطلعها:

وبعد خُذ كلاما للبرابِر
سميته بسيرةِ الأكابر
أعني كلام من في الأطلس قَطَن
مُبتَدِئاً أولا بالإِنْسَان
مترجما مُفسّرا للنادر
في ذكر بعضِ لغة البرابر
ومن بناحِيه من البربر كان
أشير للخلاف في اللسان

الرجز الأمازيغي في الصحراء

هل عرف الشعر في المجال الصحراوي توظيف الأمازيغية؟ سؤال يحتاج إلى تنقيب طويل، وحسبنا في هذا المقال بعض الإشارات إلى ما هو موجود بين أيدي الباحثين.

إذا كان “شعر الزريگة” أو “شعر الزريگات” الذي يمتزج فيه الفصيح بالحساني ظاهرة ملحوظة في الصحراء([9])، فإن هؤلاء الشعراء قد مزجوا أحيانا في شعرهم بين اللسان السوسي والحساني،فضلا عن الفصيح.

وتبدو ظاهرة المزج عند هؤلاء الشعراء من خلال المزاوجة بين الحسانية والأمازيغية على وجه الخصوص، وهي خاصية أفرزها التواصل العلمي والأدبي القديم بين منطقة سوس والصحراء([10])، عبر المساجلات الشعرية والمسامرات الأدبية، وقبل هذا وذاك العلاقاتُ الإجتماعية والأسرية التي كانت تربط بين أهالي هذه المناطق.

وممن تعاطى لهذا اللون في النظم أعلام المدرسة الشعرية المعِينيّة، كالشاعر مربيه ربه، والشاعر محمد أبو الأنوار، والأديب ماء العينين بن العتيق (ت1376ه)، والشاعر محمد ماء العينين بن الشيخ الطالب اخيار بن الشيخ ماء العينين، والشاعر محمد ابن الشيخ مصطافي بن الشيخ ماء العينين.

ومن أمثلة ذلك قول الشيخ مربيه ربه حين قرع الباب على زوجته السوسية فقالت: “له ما تّغوان”، أي من ذاك:

كَالْتْلِ وَلْفِي يَالْمَجِيدْ            كْبَيْلَاتْ مَا تَّغْوَانَّ

غَيْوَانِي إِجَدُّ كْلْ جْدِيدْ         مْنْ لَغْيَادْ أَلَّا لُ بَنَّ([11])

وقال أيضا حين سئل عن كثرة صمته:

أنَا هَذا محَدِّ هَوْنْ    دَايْرْ سْمُّوس على إِيمِي

أوُدايْرْ بسم الله عَوْنْ      الرحمانِ الرَّحيمِ([12])

ويقول أحد الشعراء الصحراويين مخاطبا زوجته السوسية:

لَاهِ نَبْدَعْ لِك في المِلَّا اْفْغَيَادْ أُوذَ مَا يَمْكنْ

واللهْ أَسَارْكِمْ نِيگَّلَّا أُورْ سُولْ نْتِّينِي مَا يخْشِنْ([13])

الأرجاز التعليمية في الصحراء؛ تعليم اللسان الأمازيغي:

إن قضية التعليم بالأرجاز كانت سمة ملازمة للإنتاج العلمي الصحراوي، وقد تفنن العلماء في تبسيط العلوم وتقريبها في وعاء الشعر الحساني المتداول، وبرز في هذا الفن فقهاء شعراء أمثال الشيخ محمد المامي (ت1282ه)، والشيخ ماء العينين (1328ه).

قد يندرج، بصفة ما، كتاب “امروگ الْحَرْف”، ضمن النسق التعليمي باعتباره أول تأليف حساني يتضمن نصوصا شعرية ومتنا يفيد في معرفة المعجم الحساني وتقريبه، فهو حسب محققه الدكتور سيدي أحمد ولد الأمير أول تأليف باللهجة الحسانية، وتظهر أهميته في “استعراضه معجما حسانيا نادرا من بينه: أسماء الغطاء النباتي من أشجار وأعشاب وأنواع الخيل والبغال وأوصافها والحمير والغنم والبقر والإبل والغزلان وأسنان كل من هذه الأجناس ومراحل تطورها، والإنسان ومراحل تطور عمره وبعض الأمور الفلكية، وكل هذا تتخلله نصوص من الشعر الحساني تبلغ أربعة نصوص”([14]).

وأما الأرجاز التي جاء غرضهالتعليم اللغة الأمازيغية في الصحراء، فيمكن اعتبار “منظوم لغة الشلوح” لمؤلفه محمد أبو الأنوار بن الشيخ ماء العينين أهم نظم معجميّ أمازيغي/عربي، أمازيغي/حساني، قصد صاحبه تقريب لسان تشلحيت إلى أهل اللغة العربية والحسانية، فمن هو صاحب هذا النظم وما هي مميزات نظمه وأهم سماته؟

أولا: ترجمة الناظم

جاء في كتاب الشيخ ماء العينين علماء وأمراء في مواجهة الإستعمار: “محمد أبو الأنوار بن الشيخ ماء العينين، أمه أمّ العيد، وهي أم ولد هو التاسع عشر من أبناء الشيخ ماء العينين”. ووالدته السيدة أم العيد بنت نافع، دفينة قريةإِدْعلِي أُوبلَّا([15]) من قرى وِجَّان بإقليم تزنيت، وهذا ما يفسر احتكاك المتَرجم باللسان السوسي ومعرفته به.

ولد الفقيه الشاعر أبو الأنوار في شعبان عام 1308ه، مارس 1891م، في الصحراء المغربية كما ذكر ناسخ منظوم الشلوح في آخر المخطوط، وقرأ القرآن وأجيز فيه على يد الفقيه محمدُّ بن امباله التشيتي([16])، ثم أخذ العلم عن والده الشيخ العلامة ماء العينين، قال عنه ابن العتيق في سحر البيان: “كان من العلماء العاملين والزعماء الكاملين، متبحرا في كثير من العلوم، وكان شاعرا مُجيدا، وفاضلا مَجيدا أعطاه الله من سهولة النظم عليه ما لا يوصف، فكان يرتجل القصيدة بديهة كأنه يحفظها، وينشئ النظم الطويل بلا تكلف في ساعة قليلة، وكان من المهرة في حفظ كتاب الله، وله تأليف جيد في التجويد على قراءة الإمام نافع، وله تآليف في الحكم والفقه، وله ديوان كبير جله في أمداح شيخنا وفي الدعاء”.

تزوج بالسيدة ميمونة بنت عبدو الملقبة “النم”، ولم يلبث أن توفي صغيرا دون أن يعقب، وذلك ليلة الخميس 3 شعبان سنة 1333ه/ 1915م، بالغا من العمر خمسا وعشرين سنة، فدفن بمنطقة واعرون نواحي كلميم.

وهذا النظم في لغة الشلوح منسوب إليه في المخطوطة، وأوله: كتاب منظوم لغة الشلوح مؤلفه محمد بو الأنوار، ثم في آخر المخطوط عند ترجمة الناسخ له، ويثبت نسبته إليه استهلالُ الناظم رجزَه بقوله:

قَالَ مُحمَّدٌ أَبُو الأَنْوارِ   أستغْفِرُ اللهَ منَ الأَوْزَارِ

ويدل على صحة النسبة إليه أيضا، ما ذكره الأديب مربيه ماء العينين في “إثبات علماء الصحراء على ما للنسب من محاسن غرّاء، حيث قال: “وكان يتقن الأمازيغية وينظم بها، وله ديوان شعر كبير ومساجلات أدبية أظهر فيها مقدرته الأدبية والعلمية”([17]).

ثانيا: قصيدة منظوم لغة الشلوح

تقع القصيدة في 124 بيتا، بخط واضح خلا بيتا واحدا تلاشى خطه، ذكر الناسخ شيئا من ترجمة ناظمها في آخر المخطوط مما يدل على أن تاريخ نسخها كان بعد وفاة صاحبها. والنسخة محفوظة في خزانة العلامة الأديب مربيه ربه العامرة بقرية وجان.

وأول  المخطوط: “وقال شيخنا محمد أبو الأنوار بن شيخنا الشيخ ماء العينين بن شيخنا الشيخ محمد فاضل بن مامين أطال الله حياته وأدام عزه واتقاءه، ورضي الله تعالى عنهم أجمعين آمين آمين آمين”.

وتتميز القصيدة بكونها جمعت قدرا مهما من القاموس الأمازيغي والحساني، ما يمكن تقديره بحوالي 274 مصطلحا شلحيا، وحوالي 46 مصطلحا حسانيا، وهي بذلك تعد أهم القصائد في المجال الصحراوي في تقريب اللسانين السوسي والحساني.

ثالثا: موضوعات القصيدة

تناولت قصيدة أبي الأنوار جملة من الحقول الدلالية المتنوعة، فبعد الأبيات الأولى التي أفصحت عن غرض القصيدة، ذكر في ثمانية أبيات مجموعة من الألفاظ الشلحية المختلفة التي لا يجمعها حقل دلالي محدد سوى حضورها الكبير في التداول اليومي، كالماء/أمان، والطريق/أغراس، والكلام/أوال، والأصدقاء/ إمدُّكال، والأخ والأخت/ اگماس، أُولْتمَ.

(أَوَالُ لِلكَلَامِ، فِسْ أَيْ أسْكُتِ     (اْگمَاسُ للأَخِ، وَأُلْتْمَ لِلأُخْتِ)

ثم انتقل إلى ذكرِ الأعداد من الواحد إلى العشرة، فبعضِ مصطلحات التجارة كالبيع والشراء، فذكر أسماء بعض الحيوانات وأسماء المتصلة بالإنسان من قبيل الرجل والمرأة والشيخ والحفيد واليتيم والعقيم والعبد والأسود والأعرج وغير ذلك. لينتقل الناظم بعد ذلك إلى تفصيل الكلام حول أعضاء الجسم قائلا:

(وبَعْدَ ذَا فالجِسْمُ مَا قَدْ قِيلَا       فيه لهمْ دونَكَهُ تَفْصِيلا)

ويعد الحقل الدلالي الخاص بأعضاء جسم الإنسان أكبر حقل في القصيدة حيث استأثر بعشرين بيتا، قبل أن ينتقل بعده إلى الكلام عن أصناف المأكولات وأسماء الأطعمة والأشربة في الأبيات الثمانية بعدها.

وتأتي بقية الأبيات في القصيدة مشتملة على قاموس متنوع لا ينتظم في مجال دلالي معين، وإنما يتوارد فيه كل ما يغلب استعماله في الحياة القروية البسيطة في سوس كأسماء بعض الأواني والأفرشة المنزلية، والألوان، ومسميات أخرى في الطبيعة كالأرض والجدار والسطوح والسماء والنجوم والضوء والظلمة والبرد والمطر، إضافة إلى قاموس مرتبط بالفلاحة من قبيل الحرث والحصاد وغير ذلك.

ولَبْگَرْ (إِزْگَرْنْ)،و(أُلِّي) لِلغَنَمْو(إِرَمَانُ) إِبِلٌ، دارٌ (تِگْمّْ)

(إِزِمْرُ) الكَبْشُ، وللنَّعْجَ عَنوابقَوْلِ (تَاهْرُويْتْ) فانظُر مَا حَكَوا

و(أَغُ) لِلمَمْخُوضِ في الأَلْبَانِ(أَكْفَايْ) للحَلِيبِ عَنْهُمْ دَانِ

اجتهد الشاعر أبو الأنوار في توظيف بعض التراكيب اللغوية الأمازيغية المستعملة وبيان مدلولاتها في التداول السوسي، فمن ذلك على سبيل المثال عبارة  (أُرْگِينْ يَاتْ) التي تستعمل للدلالة على عدم صلاحية الشيء وخلوه من الفائدة، حيث قال في شطر:

(وأُرْگِينْ يَاتْ لَيْسَ فِيهِم فَائِدَه).

وكمثل عبارة: أُرْكُنْ رِيخْ التي تعني “أكرهك” فقال: (وأُرْكُنْ رِيخْ لَسْتُ أَبْغِي لَهُمُ). و (غِينْ هَاتِين) التي تعني هنالك، وعبارة: اسُّيَاتْ لْفْرَاشْ أي ابسطوا الفُرش، فقال:

أما (السُّيَاتْ لْفْرَاشْ فللمَفروش).

لقد تميز المنظوم باستدعاء مصطلحات حسانية في جملة من الأبيات ومقابلتها بالأمازيغية، ويظهر أن الشاعر قصد إلى ذلك إبرازا لقدرة اللسانين الأمازيغي والحساني على التناغم في القالب الشعري، ولما في ذلك أيضا من إظهار المعجم الحساني بصورة تعرب عن المعنى العربي للمصطلح الأمازيغي، وذلك ما أشار إليه في البيت الرابع قائلا:

(وبعْدَ ذَا فذَا نُظَيمٌ يُعْرِبُ     مِن شلحَةٍ بما تَقُولُ العَرَبُ)

(وربما يُعْرِبُ في كَيفِيَّهْ                     بِلُغَةٍ وَهِيَ حَسّانِيَّهْ)

ومن أمثلة الكلمات الشلحية التي قابلها بالحسانية “أحبك”، و”أين” في قوله: (ورِيحْكْ انْحَبَّك، ومَانِ هِيَ فَيْنْ). وقوله في شطر آخر: (يُومْزِيِّ: گابَضْنِ) في معنى أمسكني. وقوله في مقابل حبوب الشاي: (الوَرْگَ قَدْ قَالوا لها إِفْرَوْنْ). وفي معنى الشيء غير الموجود: (أُرِلّ: مَاهُ خَالَگْ). وأحيانا يأتي البيت كله ترجمةًشلحية حسانية كما في هذا البيت:

(غِينْ هَاتِينْ أَرَاهُ قَالوها لِـفَمّْ    أُورْسِّينْخْ مَا نَعْرَفْ، واْسَّنْخْ نْفْهَمْ)

إن منظوم لغة الشلوح لأبي الأنوار يعد فريدا من عدة نواحي؛ فناظمها أولا ينتمي معرفيا إلى المجال الصحراوي وقد استطاع اكتساب اللسان السوسي وإتقانه، وثانيا باعتبار القصيدة مزجا بين الحسانية والأمازيغية والعربية في تناغم جميل، وثالثا من حيث القصد الأول الذي دفع الشاعر لوضع هذا الرجز وهو تقريب اللسان السوسي باللغة العربية والحسانية، وهذا انتباهٌ معرفي وتاريخي يحسب للشاعر أبي الأنوار في إشارة منه للحاجة إلى الانفتاح على خاصية التمازج الثقافي في الصحراء.

إن هذا المجال الصحراوي الذي يغذي قريحة الشعراء ويؤكد التواصل التاريخي المستمر بين مكونات المجال وجواره، بما فيها الثقافة الصنهاجية التي يمتح منها الشِّعر الحساني خاصة، أمر يفيد أن “منظوم لغة الشلوح” لأبي الأنوار نموذج للتلاقح الثقافي بين سوس والصحراء، وحلقة متميزة من سلسلة الانتاجات الأدبية المبدعة التي ميزّت أدب الصحراء عبر التاريخ، والتي تشي قابلية التماهي بين الألسن فيها بوحدة ثقافية وفكرية عميقة وقمينة بالتثوير.

الهوامش:

 ([1]) صحراء الملثمين،دراسة لتاريخ موريتانيا وتفاعلها مع محيطها الإقليمي خلال العصر الوسيط من منتصف القرن 2ه/8م إلى نهاية القرن 5ه/11م، الناني ولد الحسين (ص 377) .

([2]) الأدب العربي السوسي قضايا ودلالات، مجموعة البحث في الأدب العربي السوسي. جامعة ابن زهر منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، أكادير، (ص: 187).

([3]) حقق هذا النص كل من محمد المستاوي.وعمر أمرير.

([4]) الكلمات الأمازيغية في الأبيات: وِینْزَارْ: اسم الخادم الذي رافق الشاعر، ءَانْزَارْ: المطر، تِیمِیزَارْ: جمع تامازيرت، البلاد أو القرى، إِیكِیدَارْ: جمع أگادير وهو الحصن، أُوسَّانْ: جمع أَسّْ وهو اليوم، أَورُفَانْ: اسم القرية التي نزل بها الشاعر.

([5]) المعسول، محمد المختار السوسي، (1/45).

([6]) المرجع السابق، (3/345).

([7])الأدب العربي (ص: 189)، وتوجد نسخة منها بجامعة ليدن، انظر المخطوط الأمازيغي بمكتبة جامعة ليدن، أحمد المنادي، مجلة أسيناك، العدد العاشر، 2015، (ص: 95).

([8])خلال جزولة، محمد المختار السوسي (2/62-63).

([9])الصحراء وسوس من خلال الأدب الحساني، الطالب بويا لعتيگ، مقال ضمن كتاب الصحراء وسوس من خلال الوثائق والمخطوطات، التواصل والآفاق. تنسيق عمر أفا. (ص: 224)

([10]) نحيل القارئ الكريم في مسألة حضور المؤثر الصنهاجي على الحسانية على كتاب الشعر الشعبي الحساني الصور البلاغية والأنساق الموسيقية، للأستاذ ابراهيم الحيسن، (ص: 28)، واللسان الحساني بمجال الصحراء مجالات تأثيلية ولسانية، تنسيق حمادي هباد سويدي تمكليت (ص: 113-135).

([11]) دراسات في شعر الصحراء، النعمة ماء العينين علي (ص 178).

([12])المصدر نفسه (ص: 179). يتضمن البيت الأول كلمة سْمُّوس وتعني خَمْسا، وكلمة إِمِي ومعناها الفم، والمعنى وضع يده على فمه التزاما بالصمت.

([13])الصحراء وسوس من خلال الأدب الحساني، الطالب بويا لعتيگ (ص: 225). والمراد بالبيت التودد إلى الزوجة وطلب الصلح منها. ومعنى افغياد: هذا الشيء. اساركم نگالا: أحلِفُ لكِ

([14]) امروگ الحرف، تأليف حساني، تحقيق وتعليق سيدي أحمد ولد الأمير.منشورات مركز الدراسات الصحراوية. دار أبي رقراق للطباعة والنشر الرباط ط2016، (ص: 26).

([15])أفادني بهذا الأستاذ الباحث المحفوظ بن الشيخ الأديب مربيه ربه، قاطن وجان.

([16]) انظر بعض فتاوي الفقيه محمد المختار بن امباله في موسوعة يحيى ولد البراء؛ (2/292، 5/1880، 7/2506).

([17])إثبات علماء الصحراء على ما للنسب من محاسن غرّاء، لمربيه ماء العينين، تاريخ التأليف سنة 1970، دار النشر غير مذكورة، (ص:53).

لائحة المصادر والمراجع:

  • إثبات علماء الصحراء على ما للنسب من محاسن غرّاء، لمربيه ماء العينين، تاريخ التأليف سنة 1970، دار النشر غير مذكورة.
  • الأدب العربي السوسي قضايا ودلالات، جامعة ابن زهر منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، أكادير، الطبعة الثانية 2007.
  • امروگ الحرف، تأليف حساني، تحقيق وتعليق سيدي أحمد ولد الأمير.منشورات مركز الدراسات الصحراوية. دار أبي رقراق للطباعة والنشر الرباط ط2016.
  • خلال جزولة، محمد المختار السوسي، طبعة تطوان، المغرب.
  • دراسات في شعر الصحراء، النعمة ماء العينين علي، منشورات جمعية الشيخ ماء العينين للتنمية والثقافة. مطبعة الامنية، الرباط، 2015.
  • ديوان الشعر الحساني (لغن)، محمد المامي بن البخاري الباركي، مركز الدراسات الصحراوية. دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط، ط 2015.
  • الشعر الشعبي الحساني الصور البلاغية والأنساق الموسيقية، للأستاذ ابراهيم الحيسن، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 2013.
  • الشعر العربي في سوس بين الاتباع والإبداع خلال القرن العشرين، الحسين أفا. منشورات كلية الآداب والعلوم الانسانية أكادير. مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2004
  • صحراء الملثمين، دراسة لتاريخ موريتانيا وتفاعلها مع محيطها الإقليمي خلال العصر الوسيط من منتصف القرن 2ه/8م إلى نهاية القرن 5ه/11م، الناني ولد الحسين دار المدار الإسلامي، الطبعة الأولى 2007.
  • الصحراء وسوس من خلال الوثائق والمخطوطات، التواصل والآفاق. تنسيق عمر أفا، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء، 2001.
  • اللسان الحساني بمجال الصحراء مجالات تأثيلية ولسانية، تنسيق حمادي هباد سويدي تمكليت. منشورات مركز الدراسات والأبحاث مشاريع. المطبعة والوراقة الوطنية، ط الأولى 2013.
  • المجموعة الكبرى الشاملة لفتاوى ونوازل وأحكام أهل غرب وجنوب غرب الصحراء، يحيى ولد البراء. الناشر الشريف مولاي الحسن بن المختار بن الحسن نواكشوط ط1: 2009.
  • المخطوط الأمازيغي بمكتبة جامعة ليدن، أحمد المنادي، مجلة أسيناك، العدد العاشر، 2015.
  • المعسول، محمد المختار السوسي، مطبعة النجاح الدار البيضاء-المغرب 1961.

ذ. وديع أكونين

  • باحث بمركز علم وعمران للدراسات والأبحاث وإحياء التراث الصحراوي بالرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق