المنهج النبوي في فض المنازعات في استغلال الموارد المائية
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه
تفعيلا لتوجيهات سيدنا المنصور بالله أمير المؤمنين أيده الله في المحافظة على الثروة المائية للمملكة المغربية الشريفة، وعقلنة استهلاك الموجود منها، والتحلي بروح المسؤولية الكاملة في ذلك، خصوصا توجيهات جلالته في خطاب عيد العرش المجيد لسنة 2024 الذي يوافق الذكرى الخامسة والعشرين لاعتلاء جلالة الملك سيدنا محمد السادس على عرش أسلافه الميامين، والذي وجه فيه جلالته إلى أن التحديات التي تواجه المملكة الشريفة في مجال المياه "تحتاج إلى المزيد من الجهد واليقظة، وإبداع الحلول، والحكامة في التدبير"- كما جاء في النطق السامي- ينشر مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرة بالعرائش التابع للرابطة المحمدية للعلماء مقالات في موضوع قيمة الماء والمحافظة عليه، استلهاما من الهدي النبوي الشريف، تُنشر ابتداء من تاريخه تباعا.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أَزْجَى سحابا ثِقالا، فأَلَّف بينه فجعله غَيْما مِدرارا، وأنزل من خلاله ماء ثَجَّاجا، فأودعه في أرضه عُيونا وبِحَارا، وأفاض به على خلقه جَداولا وأنْهارا، قال تعالى: (ألم ترى أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله)[1]، والصلاة والسلام على النبي الهادي الأوَّاب، الذي فض الله تعالى بقوله الخصام والعتاب، وأصلح به بين المتنازعين بالحكمة وفصل الخطاب، وعلى أهله وزمرته خِيار الصِّحَاب.
وبعد؛
فلا شك أن الخلاف سنة ماضية في بني الإنسان، وأن النزاع والصراع حتمي لا مفر منه، جماعات ووحدانا، شعوبا ودولا، ولهذا جاء على لسان الملائكة لما أراد الله سبحانه وتعالى أن يسكن آدم عليه السلام الأرض: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك)[2]، وغالبا ما يكون سبب هذا الصراع هو : اختلاف في وجهات النظر الفكرية، والعقدية، والسياسية، أو تعارض في المصالح،...إلخ؛ بيد أن من أبرز أسباب هذا الصراع والمنازعات هو الرغبة في السيطرة على الموارد الطبيعية خصوصا: الموارد المائية.
هذه المعضلة الإنسانية التي تعد من أهم القضايا الراهنة في عالمنا المعاصر اليوم، والتي أضحت تثير أزمات سياسية بين بعض الدول المتجاورة بسبب التنافس الشديد حول من له الحق في استغلال هذه المصادر والموارد المائية؛ بحيث نلحظ قيام بعض الدول القوية باستغلال هذه الموارد المائية بشكل شبه كامل، في حين لا تحظى الدول المجاورة لها إلا بالنزر اليسير منها، وقد يحدث هذا النزاع في داخل البلد الواحد، وفي المدينة الواحدة، والقرية الواحدة.
ولما كان هذا الموضوع بهذه الأهمية، فقد أولت له نصوص الشريعة الإسلامية قرآنا وسنة ما يستحقه من اعتناء وتوجيه؛ واستمدادا من هذه النصوص، سأحاول أن أصوغ منها بعضا من ملامح المنهج النبوي الشريف، وأبين كيف طبق النبي صلى الله عليه وسلم هذا المنهج في إدارة مسألة النزاع حول الموارد المائية، والاستفادة منه بطريقة راقية أدت إلى تحقيق مبدأ العدالة والإنصاف في استغلال هذه الموارد المائية، وحَدَّت من المنازعات، وحفظت الحقوق المائية لجميع الأطراف، مع بقاء هذه الموارد للأجيال القادمة؛ وذلك وفق المطالب الآتية.
المطلب الأول: التعريف بمصطلح المنازعات: لغة واصطلاحا:
أولا- تعريف المنازعات لغة:
ثانيا- تعريف المنازعات اصطلاحا:
المطلب الثاني: ملامح المنهج النبوي في فض المنازعات في استغلال الموارد المائية:
أولا- دعوته صلى الله عليه وسلم إلى مبدأ الصلح في حل المنازعات عموما.
ثانيا – اعتماده صلى الله عليه وسلم قاعدة الأولوية للأعلى والأسبق إلى الماء.
ثالثا- إقراره صلى الله عليه وسلم مبدأ الشراكة في الحقوق المائية.
فأقول وبالله أستعين:
المطلب الأول: التعريف بمصطلح المنازعات: لغة واصطلاحا:
1- تعريف المنازعات لغة:
والمنازعات في اللغة مأخوذ من مادة (نزع) ، وعرفه الرازي (666هـ) في مختار الصحاح بقوله:" (نَزَع) الشيء من مكانه قلعه من باب ضرب. وقولهم: فلان في (النَّزْع) أي: في قلع الحياة...و(نَازَعه مُنَازعة) جاذبه في الخصومة. وبينهم (نَزَاعَةٌ) بالفتح أي: خصومة في حق. و(التَّنَازُع) التخاصم. و(نَازَعَت) النفس إلى كذا (نِزَاعًا) اشتاقت"[3].
وقال ابن منظور (711هـ) في لسان العرب :" نَزَع الشيء يَنْزِعه نَزْعًا، فهو منزوُع ونزيع، وانْتزعه فانتزع: اقتلعه فاقتلع..والنَّزاعة والنِّزاعة والِمنْزَعة والَمنْزَعة: الخصومة. والمُنازعة في الخصومة: مجاذبة الحجج فيما يتنازع فيه الخصمان. وقد نازَعه مُنَازعةً ونِزاعا: جاذبه في الخصومة... والتَّنَازع: التخاصم. وتنازع القوم: اختصموا. وبينهم نِزَاعة، أي: خصومة في حق"[4].
2- تعريف المنازعات اصطلاحا:
أما لفظ المنازعات في الاصطلاح فعرفه: د. محمد رواس قلعجي في معجم لغة الفقهاء فقال :" النزاع: المنازعة بين المتعارضين، ولا يشترط أن تكون هذه المنازعة ناشئة عن دليل"[5].
وأما لويس كوزر (lewis coser) فقال :" النزاع:..صراع على منفعة معينة، أو على السلطة، أو موارد نادرة، أو ادعاءات على حالة معينة، بحيث أن الأهداف للأطراف المتنازعة ليست فقط في الحصول على المنفعة المرجوة؛ بل تتعداها إلى تحييد الأضرار أو التخلص من المنافس الآخر"[6].
والفرق بين التعريفين أن مفهوم المنازعة عند قلعجي لا يشترط فيها أن تكون ناشئة عن دليل ، أو إن صح التعبير نابعة أو مبنية على أسباب معقولة أو موهومة؛ بينما عند كوزر أن المنازعة ناشئة عن أسباب ومنافع وقد تتعدى هذه الأسباب - إن اقتضى الأمر - إلى التخلص من المنافس الذي وقع معه النزاع؛ بخلاف تعريف قلعجي الذي لم يجعل المنازعة سببا للتخلص من الأخر.
إذن من خلال هذه التعريفات اللغوية والاصطلاحية نخلص ونستنتج أن الدلالة اللغوية والاصطلاحية لمفهوم مصطلح المنازعات يقصد بها: الخصومة والصراع للحصول على حق، أو منفعة معينة، سواء كانت هذه المنفعة: سلطة، أو موارد.
المطلب الثاني: ملامح المنهج النبوي في فض المنازعات في استغلال الموارد المائية
من ملامح المنهج الذي سلكه النبي صلى الله عليه وسلم لفض المنازعات في استغلال الموارد المائية الآتي:
1- دعوته صلى الله عليه وسلم إلى مبدأ الصلح في حل المنازعات عموما:
إن أول معلم من معالم المنهج النبوي في حل النزاعات عامة والمائية خاصة هو السعي إلى الصلح بين المتنازعين، وقد جاءت كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة تدعوا إلى الصلح بين المتخاصمين قال تعالى: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس)[7]، وقال تعالى: (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم) [8]، وعن أم الدرداء عن أبي الدرداء رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ " قالوا: بلى يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إصلاح ذات البين، وفساد ذات البين الحالقة"[9].
ومن النماذج الهادية التي وظف فيها النبي صلى الله عليه وسلم قاعدة الصلح من خلال سيرته العطرة ما وقع بين الصحابة رضوان الله عليهم من خلاف على ماء مريسيع في غزوة بني المصطلق، وكاد هذا النزاع المائي أن يؤدي إلى قتال بينهم ، ويحدثنا الإمام الواقدي في كتابه المغازي عن هذا الخلاف فقال:" فبينا المسلمون على ماء المريسيع قد انقطعت الحرب، وهو ماء ظنون ، إنما يخرج في الدلو نصفه، أقبل سنان بن وبر الجهني- وهو حليف في بني سالم- ومعه فتيان من بني سالم يستقون، فيجدون على الماء جمعا من العسكر من المهاجرين والأنصار، وكان جهجاه بن سعيد الغفاري أجيرا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأدلى سنان وأدلى جهجاه دلوه، وكان جهجاه أقرب السقاء إلى سنان بن وبر، فالتبست دلو سنان ودلو جهجاه، فخرجت إحدى الدلوين وهي دلو سنان بن وبر. قال سنان: فقلت: دلوي. فقال جهجاه: والله، ما هي إلا دلوي. فتنازعا إلى أن رفع جهجاه يده فضرب سنانا فسال الدم، فنادى: يا آل خزرج! وثارت الرجال. قال سنان: وأعجزني جهجاه هربا وأعجز أصحابي، وجعل ينادي في العسكر: يا آل قريش! يا آل كنانة! فأقبلت إليه قريش سراعا. قال سنان: فلما رأيت ما رأيت ناديت بالأنصار. قال: فأقبلت الأوس والخزرج، وشهروا السلاح حتى خشيت أن تكون فتنة عظيمة، حتى جاءني ناس من المهاجرين يقولون: أترك حقك! قال سنان: وإذا ضربته لم يضررني شيئا. قال سنان: فجعلت لا أستطيع أفتات على حلفائي بالعفو لكلام المهاجرين، وقومي يأبون أن أعفو إلا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أقتص من جهجاه..." [10].
وتدخل رأس المنافقين عبد الله بن أبي ابن سلول في هذه القضية ليزيد تأزيم الوضع وتمزيق صف المؤمنين؛ لكن حكمة النبي صلى الله عليه وسلم أنقدت الموقف فقام صلى الله عليه وسلم بحل المشكلة المائية وحسمها مباشرة، ودعاهم للرحيل من موقع الخلاف فأذعنوا لذلك، قال ابن هشام في السيرة :"أذن بالرحيل وذاك في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها، فارتحل الناس"[11]، وفي الاكتفا للكلاعي:" ثم مشى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى وليلتهم حتى أصبح، وسار يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نياما، وإنما فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس"[12]، وبهذا الأسلوب النبوي الحكيم تم الصلح بين الفئتين وأخمدت الفتنة في مهدها.
2 – اعتماده صلى الله عليه وسلم قاعدة الأولوية للأعلى والأسبق إلى الماء لفض النزاع:
ومن المعالم الهادية التي طبقها النبي صلى الله عليه وسلم أيضا لفض المنازعات على الموارد المائية، اعتماده قاعدة الأولوية للأعلى والأسبق في استعمال المياه، وتحديد من هو الأحق بالماء أولا، ثم مراعاة حق المرتفقين الآخرين.
فعن عروة بن الزبير ، أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهم، حدثه أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، في شراج الحرة التي يسقون بها النخل، فقال الأنصاري: سرح الماء يمر، فأبى عليهم، فاختصموا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير: " اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك"، فغضب الأنصاري، فقال: يا رسول الله أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه نبي الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: «يا زبير اسق، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجَدر». فقال الزبير: والله إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا) [13] " [14].
قال ابن عبد البر (463هـ) في التمهيد في معنى هذا الحديث:" حديث سيل مهزور ومذينيب حديث مدني مشهور عند أهل المدينة، مستعمل عندهم، معروف، معمول به، ومهزور: واد بالمدينة، وكذلك مذينيب واد أيضا عندهم، وهما جميعا يسقيان بالسيل، فكان هذا الحديث متوارثا عندهم العمل به، وذكر عبد الملك بن حبيب: أن مهزورا ومذينيبا واديان من أودية المدينة يسيلان بالمطر، ويتنافس أهل الحوائط في سيلهما، فقضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم للأعلى فالأعلى، والأقرب فالأقرب إلى ذلك السيل، يدخل صاحب الحائط الأعلى اللاصق به السيل جميع الماء في حائطه، ويصرف مجراه إلى بيبته فيسيل فيها ويسقي به، حتى إذا بلغ الماء من قاعة الحائط إلى الكعبين من القائم أغلق البيبة، وصرف ما زاد من الماء على مقدار الكعبين إلى من يليه لحائطه، فيصنع فيه مثل ذلك، ثم يصرفه إلى من يليه أيضا، هكذا أبدا يكون الأعلى فالأعلى أولى به على هذا الفعل، حتى يبلغ ماء السيل إلى أقصى الحوائط "[15].
وقال النووي (676هـ) في شرح مسلم :" فلصاحب الأرض الأولى التي تلي الماء أن يحبس الماء في الأرض إلى هذا الحد، ثم يرسله إلى جاره الذي وراءه، وكان الزبير صاحب الأرض الأولى فأدل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: اسق ثم أرسل الماء إلى جارك، أي: اسق شيئا يسيرا دون قدر حقك، ثم أرسله إلى جارك، إدلالا على الزبير، ولعلمه بأنه يرضى بذلك ويؤثر الإحسان إلى جاره، فلما قال الجار ما قال أمره أن يأخذ جميع حقه"[16].
وعن ثعلبة بن أبي مالك رضي الله عنه، قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في سيل مهزور، الأعلى فوق الأسفل، يسقي الأعلى إلى الكعبين، ثم يرسل إلى من هو أسفل منه"[17].
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في شرب النخل من السيل: أن الأعلى فالأعلى يشرب قبل الأسفل، ويترك الماء إلى الكعبين، ثم يرسل الماء إلى الأسفل الذي يليه، وكذلك، حتى تنقضي الحوائط أو يفنى الماء"[18].
وعن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «قضى في سيل مهزور، ومذنب أن الأعلى يرسل إلى الأسفل، ويحبس قدر كعبين» [19].
وروى الإمام مالك في الموطأ عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أنه بلغه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «في سيل مهزور ومذينب يمسك حتى الكعبين، ثم يرسل الأعلى على الأسفل»[20].
فهذه النصوص النبوية بينت حكم السقي من سيل مهزور ومذينب: وهو وجوب تقديم في السقي من كان في أعلى الوادي على من كان في أسفله، وأن الحق في السقي للأعلى دائما والأقرب من منبع النهر، وأنه لا يحق للثاني السقي حتى يستوفي الأول حقه من حصص الماء.
وهذا المعلم النبوي الهادي أصل في توزيع الماء بالعدل بين المرتفقين، وأصل أيضا في الحد من النزاع بينهم، وهو ما يجلي بوضوح اعتناء النبي صلى الله عليه وسلم بفض هذه المنازعات على الموارد المائية من خلال حماية الحق المائي، وترتيب الأسبق في السقي دون الإضرار بباقي المرتفقين المشتركين معه في الحقوق المائية.
3 -إقرار النبي صلى الله عليه وسلم مبدأ الشراكة في الحقوق المائية لفض النزاع على الماء:
لا شك أن الماء نعمة سابغة مَنَّ الله بها تعالى على جميع البشر، لا يحق لكائن من كان أن يحتكره لنفسه من دون الناس، فهم يشتركون جميعا في هذا الحق ؛ وجوازها بالكتاب والسنة ثابت قال تعالى : (ونبئهم أن الماء قسمة بينهم) [21] ، ولهذا لم يتوان النبي صلى الله عليه وسلم في اعتماد مبدأ الشراكة في الحقوق التي تخص المياه، وبطبيعة الحال فإن مراعاة النبي صلى الله عليه وسلم لهذا المبدأ الأصيل ودعوة أمته إليه وإقراره أدى إلى نتيجة حتمية كبرى ألا وهي: الحد من المنازعات حول الموارد المائية بين جموع المرتفقين؛ ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم عد الماء نعمة يشترك فيها الناس جميعا فقال:"المسلمون شركاء في ثلاث: في الكلأ، والماء، والنار"[22] ، وجاء في معنى هذا الحديث، قول أبي عبيد (244هـ) في كتاب الأموال: "جاءت الأخبار والسنن مجملة، ولها مواضع متفرقة وأحكام مختلفة، فأول ذلك ما أباحه رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس كافة، وجعلهم فيه أسوة، وهو الماء، والكلأ، والنار، وذلك أن ينزل القوم في أسفارهم وبواديهم بالأرض فيها النبات الذي أخرجه الله للأنعام مما لم ينصب فيه أحد بحرث ولا غرس، ولا سقي، يقول: فهو لمن سبق إليه، ليس لأحد أن يحتظر منه شيئا دون غيره؛ ولكن ترعاه أنعامهم ومواشيهم، ودوابهم معا، وترد الماء الذي فيه كذلك أيضا، فهذا, الناس شركاء في الماء والكلأ"[23] ، وقال ابن حجر:" قال الخطابي: معناه الكلأ ينبت في موات الأرض، والماء الذي يجري في المواضع التي لا تختص بأحد"[24].
وروى ابن سعد (230هـ) في الطبقات الكبرى عن قيلة بنت مخرمة العنبرية رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم يسعهما الماء والشجر»[25] ، قال أبو عبيد (244هـ) في كتاب الأموال في معنى هذا الحديث:" نهى صلى الله عليه وسلم أن يحمى من ذلك شيء إلا ما كان من حمى لله ولرسوله، فإنه اشترط ذلك، وهو الحديث الذي ذكرناه في أول هذا الباب، ومذهب الحمى لله ولرسوله يكون في وجهين: أحدهما أن تحمى الأرض للخيل الغازية في سبيل الله، وقد عمل بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم"[26]، وقال الخطابي (388هـ) في معالم السنن: "وقوله : يسعهما الماء والشجر، يأمرهما بحسن المجاورة، وينهاهما عن سوء المشاركة"[27].
من خلال هذه النصوص النبوية الشريفة يتضح أن إقرار مبدأ الشراكة في تقسيم المياه بين المترفقين سيؤدي حتما إلى إنجاح التوزيع العادل للمياه ، واقتسام الحصص بين الدول بالتساوي فيما يخص الأنهار الكبرى، والأحواض المائية، والسدود..إلخ، وهذا بطبيعة الحال سبيل إلى إنهاء الصراع والمنازعات على الماء، ويحد من استئثار فرد أو جماعة، أو دول بالماء دون غيرها من الدول المجاورة لها.
الخاتمة:
من خلال ما تقدم ، خلصت إلى أن الثروة المائية حق ونعمة أنعم بها الله سبحانه وتعالى على جميع البشر، وأن هذه الثروة في حاجة ماسة إلى استثمارها وإدارتها بطريقة ناجعة وفعالة، وذلك بغية توزيعها على المرتفقين بكل إنصاف وعدالة ، وحتى لا يقع النزاع والشقاق والخلاف بين هؤلاء المرتفقين، الشيء الذي سيعزز استدامة هذه الموارد للأجيال القادمة، ولهذا قام النبي صلى الله عليه وسلم بوضع معالم هادية لهذه القضية الإنسانية للحد من الصراع حولها وذلك من خلال، دعوته صلى الله عليه وسلم إلى مبدأ الصلح في حل المنازعات عموما، وإقراره صلى الله عليه وسلم لقاعدة الأولوية للأعلى والأسبق إلى الماء، ولمبدأ الشراكة في الحقوق المائية.
ولو التزمت الشعوب والدول والحكومات اليوم بهذه التعاليم النبوية المنيفة؛ لانتهى الصراع والنزاعات التي تدور رحاها حول موارد المياه، ولأصبحت هذه الموارد والمصالح المائية مركزا وشعارا للتضامن والتآزر بين الدول، بدل كونها سببا للشقاق والحروب والنزاعات.
والحمد لله رب العالمين
********************
هوامش المقال:
[1] النور: 42.
[2] البقرة: 29.
[3] مختار الصحاح: للرازي ، مادة (نزع) (ص: 273).
[4] لسان العرب : لابن منظور(7/ 349-351-352).
[5] معجم لغة الفقهاء : لمحمد رواس قلعجي (ص: 176).
[6] النزاعات الدولية: دراسة قانونية دولية في علم النزاعات، لكمال حماد (ص: 11).
[7] النساء من الآية: 113.
[8] الحجرات من الآية: 10.
[9] رواه أبو داود في سننه (7/28) في كتاب: الأدب باب: في إصلاح ذات البين (رقم: 4919)، والترمذي في الجامع الكبير (4/ 279) في أبواب صفة القيامة والرقاق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (رقم: 2509). وقال: "هذا حديث صحيح".
[10] المغازي: للواقدي (415-416).
[11] السيرة النبوية: لابن هشام (3/ 166).
[12] الاكتفا بما تضمنه من مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم والثلاثة الخلفا: للكلاعي (1/ 455).
[13] النساء: 64.
[14] رواه البخاري في صحيحه (ص: 568)، في كتاب: المساقاة، باب: سكر الأنهار (رقم: 2359)، ومسلم في صحيحه (ص: 1106)، في كتاب: الفضائل، باب: وجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم (رقم: 2357). واللفظ لمسلم.
[15] التمهيد: لابن عبد البر (17 /410).
[16] شرح صحيح مسلم: للنووي (8/ 119).
[17] رواه ابن ماجه في سننه (3 /535) في كتاب: الرهون، باب: الشرب من الأودية ومقدار حبس الماء (رقم: 2481).
[18] رواه ابن ماجه في سننه (3 /536) ، في كتاب: الرهون، باب: الشرب من الأودية ومقدار حبس الماء (رقم: 2483).
[19] رواه الحاكم في المستدرك (2 /71)( رقم: 2362)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه".
[20] رواه مالك في الموطأ (ص: 566)، في كتاب: الأقضية، باب: القضاء في المياه (رقم: 1500).
[21] القمر من الآية: 28.
[22] رواه ابن ماجه في سننه (3 /528) في كتاب: الإجارة ، باب: في منع الماء (3472).
[23] الأموال (1 /375).
[24] فتح الباري ابن حجر (5 /32-33).
[25] رواه ابن سعد في الطبقات (1 /276)، وأبو داود في سننه (4/ 677-678) في كتاب: الخراج والإمارة والفيء، باب: في إقطاع الأرضين (3070)، من حديث قيلة بنت مخرمة رضي الله عنها، وقال ابن عبد البر في الاستيعاب في ترجمة قيلة بنت مخرمة (4/ 1906)(4072) :"حديث حسن".
[26] الأموال (1 /418).
[27] معالم السنن (3 /40).
*******************
لائحة المصادر والمراجع:
- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر القرطبي، ت: علي محمد البجاوي، دار الجيل، بيروت، ط1، 1412/ 1992.
- الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم والثلاثة الخلفا: لسليمان بن موسى بن سالم بن حسان الكلاعي الحميري،ت: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1420.
- الأموال: لأبي عبيد القاسم بن سلام، ت: أبي أنس سيد بن رجب، تقديم وتعليق: أبي إسحاق الحويني، دار الهدي النبوي، مصر، ودار الفضيلة، السعودية، ط1، 1428 /2007.
- التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (ج17): لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي، ت: محمد بوخبزة , وسعيد أحمد أعراب، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب، 1387.
- الجامع الكبير: لأبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي، ت: د. بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط1، 1996.
- الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه: لمحمد بن إسماعيل البخاري، دار ابن كثير، ط1، 1423 /2002.
- السنن: لأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، ت: شعيب الأرنؤوط، ومحمد كامل قره بللي، دار الرسالة العالمية، 1430 /2009.
- السنن: لأبي عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزويني، ت: شعيب الأرنؤوط، ومحمد كامل قره بللي، وأحمد برهوم، دار الرسالة العالمية، ط1، 1430 /2009.
- السيرة النبوية: لعبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري المعافري، ت: فؤاد بن علي حافظ، دار الكتب العلمية، بيروت، 2014.
- شرح صحيح مسلم: لأبي زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي، ت: عصام الصبابطي، حازم محمد، عماد عامر، دار الحديث، القاهرة، ط4، 1422 /2001.
- الطبقات الكبرى: لمحمد بن سعد الزهري، ت: د. علي محمد عمر، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط1، 1421/ 2001.
- فتح الباري شرح صحيح البخاري: لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني، إعتناء: محمد فؤاد عبد الباقي، المكتبة السلفية، ط1، (د. ت).
- لسان العرب: لابن منظور الافريقي، دار صادر، بيروت، (د. ت).
- مختار الصحاح : لمحمد بن أبي بكر الرازي. إخراج دائرة المعاجم ، مكتبة لبنان ، بيروت، 1986.
- المستدرك على الصحيحين: لأبي عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري، ت: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1422 /2002.
- المسند الصحيح المختصر من السنن بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: لأبي الحسين مسلم بن الحجاج، ت: نظر محمد الفاريابي، دار طيبة، الرياض، ط1، 1427/ 2006.
- معالم السنن شرح سنن أبي داود: لأبي سليمان حمد بن محمد الخطابي البستي، اعتناء: عبد السلام عبد الشافي محمد، دار الكتب العلمية، 2009.
- معجم لغة الفقهاء: د. محمد رواس قلعه جي، دار النفائس، بيروت، ط1، 1416/ 1996.
- المغازي: لمحمد بن عمر بن واقد السهمي الأسلمي الواقدي، ت: د. مارسدن جونس، عالم الكتب، بيروت، ط: 3، 1409/ 1989.
- الموطأ: لأبي عبد الله مالك بن أنس المدني، رواية يحيى بن يحيى الليثي، وعليه زيادات رواية أبي مصعب، ورواية الشيباني ت: كلال حسن علي، مؤسسة الرسالة، ط1، 1434/2013.
- النزاعات الدولية: دراسة قانونية دولية في علم النزاعات: لكمال حماد، الدار الوطنية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1998.
راجع المقال: الباحثة خديجة ابوري، والباحث: زكريا سليماني