وحدة المملكة المغربية علم وعمرانفنون وعمرانغير مصنف

المنبر المرابطي بجامع القرويين بفاس

 يتعلق الأمر بمنبر قل نظيره عَوَّض المنبر الأموي من أيام عبد الملك المظفر بن المنصور بن أبي عامر الأموي الأندلسي الذي عَوَّض بدوره منبرا يعود إلى فترة استيلاء الفاطميين على فاس التي لم تدم طويلا، فلم يعمر لا المنبر الفاطمي ولا المنبر الأموي وحل محلهما المنبر المرابطي الذي بذلت الجهود العلمية والفنية والذوقية لجعله تحفة فنية يفتخر بها المغرب وليصمد شاهدا على روعة الفن المغربي وعبقريته.

يعد هذا المنبر بحق تحفة في العالم الإسلامي برمته، وقد تم صنعه بمحروسة فاس، وتولى الحرفيون الفنانون المغاربة تركيب أجزائه بدقة كبيرة، وهو يحتوي على تسع درجات، يصعدها الإمام بين ساريتين من عود نفيس أدكن، يرجح الباحثون الأثريون أنه من عود الأبنوس الثمين..

يذكر العلامة عبد الهادي التازي في موسوعته حول “جامع القرويين”[1] أنه علاوة على أن المنبر المرابطي يعد تحفة فهو أقدم مثل للمنبر المغربي، وقد حليت جوانبه برسوم هندسية في غاية الدقة والروعة، وكل قطعة منه تختلف عن الأخرى في زخرفها وفي شخصيتها، هنا النجوم المثمنة وهنا رسوم السعف وجوز الصنوبر، وإن المرء ليدهش أمام هذه العبقرية النادرة التي نظم بها هؤلاء الفنانون هذه القطع الشعرية المتمثلة في أنواع الزخرف والوشي التي لا يمكن للمرء من تبين أجزائها إلا بمزيد إمعان ويقظة، وقد نقشت على بعض جهات المنبر آيات بالعاج بالخط النسخي والكوفي. علو المنبر ثلاثة أمتار وستون سنتيمتر وعرضه واحد وتسعون سنتيمتر.

يعود تاريخ صنع هذا المنبر إلى عهد السلطان المرابطي علي بن يوسف بن تاشفين الذي أمر قاضي القضاة عبد الحق بن معيشة الغرناطي الكناني بصنعه، لكنه لم يستطع أن يتمه وتم في عهد القاضي الفقيه عبد الملك بن بيضاء القيسي، وقد صنع حسب مؤرخي فاس القدامى من أصناف الخشب الرفيع، العناب والأبنوس والصندل والنارنج كما تم تطريزه بالعاج، وكان الفنان الذي قام بصنعه ونجره هو علامة فاس وأديبها الشيخ أبو يحي العتاد، وقد تم إنجازه بمال الأوقاف سنة 538هـ بحسب ما كان منقوشا في أعلى ذروته بالعاج أيام ابن أبي زرع صاحب روض القرطاس والجزنائي صاحب جنى زهرة الآس.

نجد فيما بقي محيطا بمدخل المنبر من الآيات الكريمة المطرزة بالعاج على عود الأبنوس قول الله عز وجل : “يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (الحشر 18-24).

نقشت هذه الآيات في المنبر، لكن أطرافها الأولى والأخيرة رفعتها الأيدي… وتوجد كذلك آيات بالخطي الكوفي العتيق: ” إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا”(الإنسان 6-7).

ونظرا لقيمة المنبر ورمزيته الدينية والفنية والحضارية فقد صنع له غشاءان، أحدهما من جلد الماعز والثاني من نسيج الكتان، كانا يزالان عنه كل يوم جمعة، وجعل للمنبر علاوة على الغلافين، بيت مقدار حجمه يستر فيه سائر أيام الأسبوع.

ومن المفيد أن نذكر أن العلماء كانوا يتنافسون على صعود هذا المنبر المبارك، حتى لكان يكفي لتألق اسم أو ظهوره أن يكون له ذكر-ولو مرة واحدة- على منبر القرويين على حد تعبير العلامة التازي..

لا شك أن هذه التحفة الفريدة تعد مفخرة من مفاخر العمارة الإسلامية بالمغرب وهي تحكي بطريقتها عن جانب من جوانب تاريخ مسجد القرويين المبارك يتعلق بالنواحي الفنية والهندسية التي شكلت عنصرا مهما في تميز حضارة المغرب وعمرانه.. وحق لنا الاعتزاز بالانتماء لهذا البلد العريق آملين أن تحدث يقظة ثقافية وحضارية جديدة تستوعب التراث العريق وتستند عليه لإبداع حضور علمي وثقافي وإنساني وازن في عالم اليوم…..

[1] عبد الهادي التازي، جامع القرويين، ج1، ص75، دار الكتاب اللبناني، 1972

د. جمال بامي

  • رئيس مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلامية، ومركز علم وعمران بالرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق