مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةدراسات وأبحاث

المناظرات الكلامية بالأندلس «رحلة أبي القاسم الحجري» نموذجا

مدخل تاريخي للمناظرات الكلامية بالأندلس:

لم تعرف بلاد الأندلس منذ بداية أمرها الجدل الديني لانشغال أهلها بتوطيد السلطة الإسلامية بها، وإن كان قد ظهرت بعض بوادره في الجانب الفقهي على وجه الخصوص، بعد إرساء المذاهب الفقهية فيه وعلى رأسها المذهب المالكي الذي كان يعتمد على النص والأثر والرواية والعرف أكثر من اعتماده على الرأي والجدل.. ولم يظهر الجدل الديني في باب العقائد إلا لاحقا، وهو ما جعل ابن حزم يقول: «وأما علم الكلام فإن بلادنا وإن كانت لم تتجاذب فيها الخصوم، ولا اختلفت فيها النحل، فقلَّ لذلك تصرفهم في هذا الباب، فهي على كل حال غير عريَّة عنه»(1).

ثم شهدت الأندلس بداية القرن الخامس الهجري/11م سجالات كثيرة في باب الجدل الديني بين الديانات السماوية، وكان سببها توافد التيارات المذهبية المتعددة من المعتزلة والخوارج والشيعة، وكذا تراجع قبضة الفقهاء من المالكية والظاهرية على دواليب الحكم والتشريع أمام ما كان يجدُّ من جدال حول بعض المسائل العقدية التي أثارتها هذه الفرق المذهبية، إلى جانب ما كان يظهر من جدال أهل الكتاب مع مسلمي الأندلس. وقد بيَّن هذا السجال الدائر آنذاك مقدار احترام الإسلام والمسلمين للرأي الآخر عند أصحاب الديانات السماوية اليهودية والنصرانية، وهو ملمح يُعد بحق رافدا من روافد الحضارة الإسلامية.

وقد حفظ لنا التاريخ– منذ نشأة الدولة الإسلامية- نماذج لمناظرات أجراها بعض علماء الإسلام مع مختلف الفرق وأهل الديانات عموما، نذكر منها على سبيل التمثيل:

-   مناظرة عبد الله بن عباس - رضي الله عنه- (ت.68هـ) مع الحرورية فيما أنكروه على علي بن أبي طالب – كرم الله وجهه-، وقد أوردها القرطبي في جامعه.

-  ومناظرات علي بن موسى الرضا (ت.203هـ) المعروفة بمجلس الرضا في قصر الخليفة العباسي عبد الله المأمون، وقد أوردها ابن حزم في فصله.

-  وعمل محمد بن سحنون (ت.256هـ) في مؤلفه في الرد على النصارى الموسوم بـ: "الحجة على النصارى"، ولم تفدنا المصادر بشيء عنه غير ما ذكره عنه عياض في ترتيبه بكونه من جملة مصنفاته.

-   ومناظرات القاضي أبي بكر بن الطيب الباقلاني (ت.403هـ) للروم، حيث كلفه عضد الدولة البويهي (ت.372هـ) في بعض سفراته إلى ملك الروم، في عشر التسعين من المائة الرابعة، ليظهر رفعة الإسلام، ويغض من النصرانية، "فجرَت له معهم مناظرات ومقاولات في مجالس عدة، أظهره الله فيها عليهم وأظهر لهم عوار ما هم فيه"(2).

-   ومناظرة ابن حزم الأندلسي (ت.456هـ) لابن النغريلة اليهودي، وهو المعروف بكتابه "الفصل" الذي ناظر فيه مختلف الفرق الدينية وعقائد الديانات الأخرى، وأورد فيه جملة من المناظرات.

-   ثم رسالة راهب فرنسا إلى الأمير الأندلسي المقتدر بالله - حاكم سرقسطة- يدعوه فيها إلى الدخول في النصرانية، وجواب الفقيه أبي الوليد الباجي (ت.474هـ) عليها، وكذا مؤلَّفُه في الحجاج بعنوان: "المنهاج في ترتيب الحجاج"، الذي جعله - كما ذكر في المقدمة- في باب الجدل وفروعه وأقسامه بقوله: «لما رأيت بعض أهل عصرنا عن سبيل المناظرة ناكبين وعن سنن المجادلة عادلين.. أزمعت أن أجمع كتابا في الجدل يشمل على جمل أبوابه وفروع أقسامه وضروب أسئلته وأنواع أجوبته»(3).

-   وجهود الفقيه أبي بكر الطرطوشي(ت.520هـ) في الجدل مع اليهود ومع عدد من الفرق الكلامية كالكرامية والمعتزلة والمشبهة.

-  ومناظرة أبي الحجاج يوسف بن موسى الضرير السرقسطي (ت.520هـ) نزيل مراكش لبعض أحبار اليهود.

-   وكذا جهود أبي عبد الله محمد بن علي المازري (ت.536هـ) في الرد على النصارى؛ حيث ذكر أنه صنف كتابا سماه: "قطع لسان النابح في المترجم بالواضح"، قال عنه: «وهو كتاب نقضنا فيه كتابا ألفه بعض حذاق نصارى المشرق قصد فيه إلى جمع المطاعن التي تشبث بها الملحدون وقذفها الطاعنون على ديننا»(4).

-   وجهود أبي جعفر أحمد بن عبد الصمد الخزرجي القرطبي (ت.582هـ) في الرد على النصارى ومناظرة اليهود، والذي ألف رسالة شهيرة في الرد على قسيس قوطي من طليطلة سماها: "مقامع هامات الصلبان ورواتع روضات الإيمان"، وقد حققه عبد المجيد الشرفي وصدر ضمن منشورات الجامعة التونسية.

-   ومناظرة في الرد على النصارى للفخر الرازي (ت.606هـ) الذي عرف بكثرة مناظراته مع مختلف أرباب الفرق ومع عدد من منتسبي النصرانية حتى أفرد لها كتابا خاصا سماه: "مناظرة في الرد على النصارى"، وحققه عبد المجيد النجار وصدر عن دار الغرب الإسلامي.

-   وما جرى كذلك في كتاب: "الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام"(5)، تأليف أحمد بن عمر بن إبراهيم بن عمر الأنصاري القرطبي (ت.656هـ)، وغالبا ما ينسب الكتاب إلى القرطبي المفسر.

-  ومن جهود أهل الضفة الأخرى كتاب: "السيف المحدود في الرد على اليهود" للمهتدي عبد الحق الإسلامي السبتي، الذي ألَّفه بسبتة سنة (796هـ) بعد اعتناقه الإسلام وعزوفه عن اليهودية، واعتمده الشهاب الحجري في بعض محاوراته، وقد صدر بتحقيق وتعليق الدكتور عمر وفيق الداعوق عن دار البشائر الإسلامية بلبنان، مع اختلاف بسيط في العنوان: "الحسام الممدود في الرد على اليهود".

وهكذا، جمعت المناظرة الدينية بين الإسلام والنصرانية منذ أن اضطرهما التاريخ إلى الالتقاء ببعضهما، واندفعا إلى الانخراط معا في التعايش بينهما، وعبرت عن أجزاء من تمظهرات هذا الواقع أعداد من كتب المناظرات، عمل المهتمون بها على إخراج بعض متونها وتحقيقها؛ نذكر من بينهم – بالإضافة لما سبق ذكرهم-: عبد المجيد التركي، وعبد المجيد الشرفي، وأحمد حجازي السقا، ومحمد رزوق، وغيرهم..

ودخلت الأندلس بدورها في هذه المناظرات الكلامية من خلال تحاور حضاري رفيع المستوى، لا من حيث الأسلوب فقط، ولكن من حيث المنهج والمعاني والموضوعات المطروقة التي غطت ميادين دينية وفلسفية عديدة، بفضل ما قام به جملة من العلماء المسلمين في إدارة هذا الجدل الديني بين أهل الديانات السماوية - (اليهودية والنصرانية والإسلام)- بينهم وبين أمثالهم من رهبان النصارى وأحبار اليهود، مما يصطلح عليه اليوم بمسمى: "علم مقارنة الأديان"، وكان لهذا الجو السياسي والديني والعلمي الذي أظل العلماء في الأندلس أثر في انطلاق أكبر تحاور حضاري عرفته أوروبا في تاريخها القديم والوسيط، بيَّن مقدار احترام الإسلام والمسلمين للرأي الآخر، وزكَّى ما كان معروفا في الإسلام من أن الاختلاف سنة من سنن الله في هذا الكون. ويعتبر أحمد بن الفقيه قاسم، شهاب الدين ابن الشيخ الحجري الأندلسي، المعروف اختصارا بـ"الشهاب الحجري"(6)، الذي كانت ولادته في سنة (977هـ)، الموافق للنصف الثاني من عام (1569م)، أحد هؤلاء الموريسكيين المسلمين الذين لم يتمكنوا من الهروب من الأندلس إبان سقوطها، واضطروا إلى أن يتظاهروا بأنهم نصارى خوفا من ملاحقات محاكم التفتيش التي كانت تقتل كل من تظهر عليه علامات تدل على أنه مسلم أو عربي، إلى درجة أنهم بدَّلوا أسماءهم، ولهذا لُقّب بـ"أفوقاي". وظل قابعا بالأندلس إلى أن تيسَّرت له سبل الهجرة، فاستقبله السلطان السعدي "أحمد المنصور" وأولاه عطفه حتى أصبح مترجما له بالبلاط، ثم عيَّنه سفيراً وبعثه إلى أوربا(7)؛ وبالضبط إلى فرنسا وهولندا، وهناك ناقش بعض المسيحيين واليهود وفق ما سنراه في مضمون هذه المقالة. ومما يذكره التاريخ عن هذه الشخصية أنه في سنة (1045هـ/1636م) قصد مكة للحج، وفي أثناء رجوعه زار مصر، ولما نزل بها كان يُحدِّث المسلمين ببعض قصصه، فطلب منه الشيخ "علي الأجهوري"؛ وهو من كبار علماء المالكية وقتئذ، أن يكتب كتابا يُضمِّن فيه قصته، فكتب كتابيه: "رحلة أفوقاي في وصف لاهاي" وكتاب "ناصر الدين على القوم الكافرين"؛ وهو في خمسة كراريس، اختصر فيه كتابه: "رحلة الشهاب إلى لقاء الأحباب". أما وفاته فتذكر المصادر أنه اختفى بعد عام (1047هـ/1638م) ولم يُعرف مصيره بعد ذلك، ويذكر أنه توفي بتونس بعد عام (1050هـ) الموافق لسنة (1641م).

وتكمن أهمية "الرحلة الشهباء" أو "رحلة أفوقاي في وصف لاهاي"(8) التي كانت (بين:1019هـ و:1021هـ /1611- 1613)، في أنها تروي زيارة الرحالة لبلاد الهولنديين، وظلت شاهدة ومعبرة عن العلاقات التي كانت قائمة آنذاك بين دار الإسلام في المغرب ودار الحرب في أوربا، والتي أقام خلالها مجموعة من المناظرات حول الديانات السماوية: الإسلام والنصرانية واليهودية. كما نتج عنها مجموعة من المراسلات الديبلوماسية، ومنها رسالة "أحمد بن قاسم الحجري" المرسلة من باريس إلى "الموريسكيين" بالقسطنطينية، ثم رسالتيه إلى المستشرق الهولندي "ياكوباس خوليوس"..

أما كتاب "ناصر الدين على القوم الكافرين" فهو عبارة عن مختصر لهذه الرحلة التي قام بها الشهاب الحجري أثناء هروبه من الأندلس إلى المغرب عقب طرد الأندلسيين، فهو كتاب في أدب الرحلات؛ يقول في ذلك: «وقد سميتُ الكتاب بـ: "ناصر الدين على القوم الكافرين"، وهو السيف الأشهر على كل من كفر، وجعلته ثلاثة عشر بابا»(9). يقول محقق الكتاب محمد رزوق في المقدمة: «يُعد كتاب ناصر الدين أهم مصدر تاريخي أندلسي كُتب بعد صدور قرار الأندلسيين المتبقين بالأندلس، فصاحبُه يتكلم وهو بمنأى عن محاكم التفتيش، يجادل المسيحيين واليهود، ويستعرض من خلال ذلك ما فعله الإسبان بالمورسكيين، وظروف انتقال هؤلاء إلى شمال إفريقيا»(10).

ويتمحور موضوع الكتاب حول طريقة فرار الشهاب الحجري بدينه وبدنه بغرناطة من ملاحقة محاكم التفتيش سنة (1597م)، وذهابه إلى مرسى "شنتمرية" بالبرتغال، وتنكُّره كمسيحي من إشبيلية، وركوبه سفينة برتغالية مدَّعيًا توجهه إلى مدينة "مازاغان" التي كانت تحت الاحتلال البرتغالي، ليهرب هو وجماعة معه إلى بلاد المسلمين ويرسو في ميناء "أزمور" المغربي. وقد قسمه إلى مقدمة وثلاثة عشر بابا:

من الباب الأول إلى الباب الثالث: من غرناطة إلى مراكش؛ تحدث فيه عما وقع له في غرناطة قبل الرحلة وقصة عبوره إلى مراكش.

من الباب الرابع إلى الباب الثاني عشر: خصصه للمناظرات مع النصارى واليهود في مجموعة من بلاد أوربا؛ وهي مناظرات وجدال وحجاج ديني بينه وبين مجموعة من الأحبار والرهبان حول عقيدة التثليث وتأليه النصارى لعيسى عليه السلام والفداء وتحريف الكتب المقدسة.

الباب الثالث عشر والأخير: عرض فيه لذكرياته في الأندلس ومراكش وبلاد الإفرنج ومصر وتونس.

ثم ختمه بما يمكن أن نسميه ملحقا لهذه الرحلة تحت عنوان: "مواهب الثواب". وعلى هذا يعتبر كتاب "ناصر الدين على القوم الكافرين" أو مختصر كتاب "رحلة الشهاب إلى لقاء الأحباب" لصاحبه أحمد بن قاسم الحجري الأندلسي، الوثيقة التاريخية الأكثر أهمية في التأريخ لإجلاء المسلمين من الأندلس، ما بين سنتي: (1017هـ 1022هـ/1609م و1614م).

-  موضوعات المناظرات الكلامية بالأندلس من خلال "الرحلة الشهباء":

جاء الإسلام بمفاهيم عقائدية تصحح كثيرا مما علق بعقائد الأمم السابقة كاليهودية والنصرانية من تحريف وتبديل سواء في مفهوم الألوهية والربوبية أو النبوة والأنبياء أو ما ورد في كتبهم المقدسة (التوراة والإنجيل)، وقام علماء الأندلس بجهد كبير في بحث ودراسة أهم هذه القضايا العقائدية التي داخلها التحريف، وتولَّى عدد كبير منهم الرد على هذه التحريفات كما تُوثِّقها مناظرات ومؤلفات ابن حزم (ت.456هـ) والقاضي أبي الوليد الباجي (ت.474هـ) والفقيه أبي عبد الله محمد بن الفرج المعروف بابن الطلاع (ت.497هــ) وأحمد بن عبد الصمد الخزرجي (ت.582هـ) والفيلسوف ابن رشد (ت.595) وأبي عبد الله محمد بن أحمد القرطبي (ت.671هـ)(11).. وموضوع هذه المناظرات يدور حول ما أسماه عبد المجيد الشرفي الردود على النصارى بقوله: «كانت هذه المجادلات من الجانب الإسلامي تسمى في العادة ردا على النصارى، وليس معنى ذلك أن هؤلاء قد هاجموا الإسلام بالضرورة فانبرى المسلمون للرد عليهم، وإنما هو فن كلامي قد يندرج ضمن باب التوحيد في المؤلفات الكلامية عموما، وقد تخصص له كتب أو رسائل مفردة. والغرض منه في كلتا الحالتين دحض العقائد النصرانية، وكثيرا ما يكون موجها إلى المسلمين في الدرجة الأولى لتثبيت عقيدتهم وتحذيرهم من ضلال النصارى وتضليلهم وإن احتوى على الدعوة إلى اعتناق الإسلام والعزوف عن النصرانية»(12).

ومن نماذج هذه المناظرات التي وصلت إلينا وتم الحفاظ عليها والاعتناء بها رسالة الراهب الفرنسي إلى المقتدر أحمد بن هود بالله حاكم سرقسطة (كان حكمه ما بين: 438هـ و474هـ)، ودعوته الصريحة لهذا الأمير بالدخول في النصرانية، وهو ما جعل أبا الوليد الباجي أحد العلماء والفقهاء البارزين في الأندلس، وقد أهله علمه ومكانته ليكتب رسالة رد فيها على هذا الراهب؛ سالكا فيها طريق الاعتدال، وطرق الحجة بالحجة، وهي الرسالة التي قال عنها محققها محمد عبد الله الشرقاوي: «تظهر - في تقديري- رؤية إسلامية صحيحة وعميقة، لما عليه العقيدة النصرانية من اضطراب وتناقض ووهاء، كما أنها تبرز مسؤولية القاضي الباجي في الدعوة إلى الله تعالى بين غير المسلمين، ووعيه بالطريق الأرشد إلى ذلك. فالقضية- عنده- لم تكن مجرد تدبيج جواب على رسالة راهب فرنسي بعث بها – مع رسولين- إلى المقتدر بالله حاكم سرقسطة، أقصى ما يؤمله الباجي من ورائه أن يرضى المقتدر بالله عنه، لكن طموحه السديد كان أبعد من ذلك وأعظم؛ إذ كان يروم تعريف راهب فرنسا وكبير رجالات الكنيسة فيها بمحاسن الإسلام، وما عليه النصرانية - بعد التحريف- من مجافاة للعقل والمنطق، فضلا عن مصادمتها للفطرة السليمة بأسلوب قويم حكيم، وإن كل فقرة في الرسالة لتؤكد هذا المعنى وتعمقه»(13). ومن جهته  أوضح خالد السيوطي في كتابه: "الجدل الديني بين المسلمين وأهل الكتاب بالأندلس" قيمة هذه المناظرات وما جرى فيها من دفاع عن العقيدة الإسلامية أمام اعتراضات النصارى واليهود بقوله: «قام علماء المسلمين بجهود عظيمة في الدفاع عن الإسلام ضد أصحاب العقائد المخالفة خاصة من اليهود والنصارى، وبذل هؤلاء العلماء أقصى وسعهم في التعرف على عقائد أهل الكتاب وبيان مواطن الاختلاف بينها وبين الإسلام، وتوضيح أفضلية العقائد الإسلامية واتفاقها مع العقل السليم، والرد على اعتراضات علماء أهل الكتاب ضد الإسلام، وكذلك نقد عقائد اليهودية والنصرانية»(14).

ويبقى عمل ابن الشهاب الحجري في هذا الباب عملا فريدا ثمنه غير واحد من الباحثين، ومن ذلك ما ذكره حسام الدين شاشيه بقوله: «لعل هذا الباب القائم على الرد على تصورات المسيحيين المسبقة تجاه المسلمين ومعتقداتهم يمكن تسميته بالجدل التصحيحي المبني لا على الجدل التحليلي والاستشهاد النقلي والبرهان العقلي، بقدر ما هو قائم على تصحيح المعلومات والأخبار، هذا الجدل لم نكن لنجده عند أصحاب الردود الأوائل، نظرا لأنه وكما لاحظنا في العديد من المرات السابقة أن أغلب جدلهم مبني على الجدل الفكري المكتوب في حين أن الجدل في هذا الكتاب هو جدل مناظراتي شفوي مباشر»(15)، ومنه كذلك ما بيَّنه عبد الواحد العسري بقوله: «سبق أن ذهبنا إلى أن الخلاف الأساسي الذي تدور عليه جميع المجادلات الإسلامية النصرانية يكمن في التصورات المختلفة للنصارى وللمسلمين لله وللنبوة. ذلك هو ما استقطب مجموع الدعاوى والاعتراضات التي دارت بالمجلس الخامس الذي ناظر فيه الأنصاري، رئيس كتبة الملك وحاجبه»(16) في إشارة إلى مناظرة أخرى في نفس المجال.

نصل الآن إلى ذكر بعض القضايا الكلامية التي ناقشها الشهاب الحجري مع بعض القساوسة والرهبان في مسائل العقيدة وما جرى لهم من التحريف والتغيير في نصوص التوراة والإنجيل – على حد تعبيره-.

وأول ما يطالعنا في الكتاب قوله: «من نعم الله تعالى عليَّ أن جعلني مسلما في بلاد الكفار منذ أعرف نفسي ببركة الوالدين – رحمهما الله تعالى- وإرشادهما. وقد جعل الله في قلبي محبة للخروج من بلاد الأندلس مهاجرا إلى الله تعالى ورسوله، والقدوم لبلاد المسلمين، وقضى الله تعالى الغرض والمراد، وبلغنا إلى مدينة مراكش بالمغرب»(17). ثم بعد استقراره ببلاد المغرب وخروجه سفيرا للسلطان في بعض الدول الأوربية، عزم على تدوين ما جرى له في رحلته، وبذا يدخل الكتاب في باب الردود على النصارى، الغرض منه دحض العقائد النصرانيةّ، كما جاء بيانه في المقدمة من خلال توجيه الشيخ الأجهوري لمؤلفه الحجري بالاقتصار على إثبات هذه الردود بقوله: «وطلب مني غير واحد من علماء المسلمين أن أعمل تأليفا بذاك، ولم يتفق العمل إلى أن أمرني شيخنا وبركتنا بمصر المحروسة بالله وهو العلامة الشهير علمه.. الشيخ علي بن محمد.. الأجهوري.. فأجبته بأكثر مما طلبه»(18)، ثم لما طالعه أشار إليه باختصاره كما قال: «أمرني أن أختصر منها نبذة لطيفة ونذكر ما وقع لي من الكلام في الدين مع النصارى.. وها أنا أشرع بعون الله أكتب في هذه الورقات ما وقع لي من المناظرات»(19)، موضحا عنوانه بقوله "وقد سميت الكتاب بـ: "ناصر الدين على القوم الكافرين"، وهو السيف الأشهر على كل من كفر"(20).

 وهكذا عقد ابتداء من الباب السادس إلى الباب الثاني عشر ما وقع له من المناظرات مع بعض قساوسة النصارى ورهبان اليهود، ومن بين مواضيع هذه المناظرات نختار ما يلي:

-  المسألة الأولى: هل الجنة التي أخرج منها سيدنا آدم في الأرض أم في السماء؟ وقد وردت في الباب التاسع (ص.ص.91-106)، ذكر فيها ما حدث له هناك من مناظرات، بقوله: «ومما وقع لي مع بعض القسيسين في دار قاضي الأندلس؛ جاء إليها قسيسان لقضاء غرض، وقيل لهما عني إني مسلم.. وأول ما ناظراه فيه القول بأن الجنة التي أخرج منها سيدنا آدم هي في الأرض»(21)، فجاءت مناظرته لهم وفق النقاط التالية:

أولا: (قالا: أتعتقدون أن في الجنة أكلا وشربا وتنعما مثل ما في الدنيا؟

قلت لهم: نعم، ولكن أفضل مما في الدنيا.

فضحكا.

قلت لهما: بما تنكران ذلك؟

قالا: لأن من تفل الطعام تكون النجاسة، ومن المحال أن تكون النجاسات فيها.

قلت لهما: أما عندكم في كتبكم، أن الله تبارك وتعالى حين خلق أبانا آدم – عليه السلام- أذن له أن يأكل من جميع الفواكه في الجنة، إلا من شجرة واحدة، قال له: لا تأكل منها لأنك إذا أكلت منها تموت؟

قالا: هكذا هو.

قلت لهم: لولا أكل من الشجرة لكان فيها إلى الآن.

قال (قالا): نعم هو كذلك)(22).

ثانيا: (قالا: الجنة التي كان فيها أبونا آدم كانت في الأرض، والتي تمشي إليها الناس في الآخرة هي في السماء.

قلت: ما كان أبونا آدم – عليه السلام- إلا في السماء؛ لأن كل ما يكون في الأرض لا يسمى بجنة؛ لأنه مقهور بالعناصر الأربعة، ولا بد من التغيير بسببها، ولا بد من النور والظلمة، والجنة ليس فيها تغيير ولا ظلمة، وهذا برهان أن سيدنا آدم – عليه السلام- كان في جنة في السماء، فبهت الذين كفروا)(23).

ثالثا: (قال: عندكم مسألة أخرى: أنكم تعتقدون أن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ويتنعمون بنعم مثل ما في الدنيا.

قلت له: أما سيدنا عيسى – عليه السلام- فلم ينكر ذلك إذ قال في الإنجيل: أما ماء هذه الشجرة- أعني ماء الكرمة- فإني لم نشرب منه في الدنيا إلى أن أشربه معكم في الملكوت. قلت له: هو هذا في إنجيلكم؟

قال: نعم.

قلت: وكيف تنكرون ذلك؟ لأن نعايم الدنيا دالة على نعايم الجنة، إلا أن أمور الجنة في غاية الكمال، وفيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وسيدنا عيسى – عليه السلام- ذكر الشرب في الجنة كما كان يعلمه ويعتقده أن في الجنة أكلا وشربا.. وبقي القاضي يفتش في نفسه ما يقوله، ولم يجد. وكان من أكابر علمائهم)(24).

هذا وقد أثبت أهل السنة والجماعة على أن المقصود بالجنة تلك التي في السماء، عكس ما ذهب إليه المعتزلة من أنها جنة من جنان الأرض، جاء في كتاب: "شرح معالم أصول الدين" قول ابن التلمساني: (قلت: ومما احتج به أيضا قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ ر۪ء۪اهُ نَزْلَةً اخْر۪يٰ عِندَ سِدْرَةِ اِ۬لْمُنتَه۪يٰ عِندَهَا جَنَّةُ اُ۬لْمَأْو۪يٰٓ﴾ [النجم: 13-15]، أي أن النبي – ﷺ- رأى جبريل بالصورة التي خلقه الله تعالى عليها ابتداء، وقد تواترت الأخبار في قصة آدم – عليه السلام- وسكناه الجنة وإهباطه منها)(25)، فذكر أن أبانا آدم عليه السلام قد أهبط من الجنة التي في السماء بعد خطئه وأكله من الشجرة إلى الأرض ليستقر فيها.ﷺ

-  المسألة الثانية: في الصفات الإلهية: وقد وردت في الباب الثاني عشر(26).

يحكي لنا الشهاب الحجري عن لقائه بأحد الرهبان، وما جرى بينهما من مراسلات استشكالية حول بعض مسائل الألوهية قائلا: «وبعد أن قرأ الجواب كتب لي براءة ثانية؛ وذكر فيها كلاما عن الذات الكريمة والصفات والأفعال موافقا لتوحيد المسلمين،

ثم قال: الله تبارك وتعالى خلق آدم على هيئته أو على مثاله.

وهذا القول هو ابتداء شركهم؛ لأن مرادهم بالتشبيه أن سيدنا عيسى – عليه السلام- له أصل في ذلك الخلقة للألوهية التي يقولون فيه – لعنهم الله وأخزاهم-.

ثم كتبت له الجواب على الكفر الذي ذكر في كتابه، وقلت له:  الله تعالى منزَّهٌ عن الشبيه والمثال، وبرهان ذلك أن أبانا آدم – عليه السلام- ولا شيء من جميع المخلوقات، فلا تَشبَه إلى الله تعالى في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله. أما ذات الإنسان فهي حادثة، والله تبارك وتعالى قديم. والإنسان فانٍ، والله تعالى باقٍ على الدوام. والإنسان مفتقرٌ أبدا إلى المحل، والله تعالى غنيٌّ عنه وقائمٌ بنفسه. والإنسان مفتقرٌ أبدا، والله تبارك وتعالى هو الغني، وكل ما سواه مفتقر إليه»(27).

وهذا ما بسطه الشهرستاني في القاعدة الرابعة من كتابه: "نهاية الأقدام في علم الكلام" من إبطال التشبيه، حين قال: «الرد على أصحاب الصور وأصحاب الجهة والكرامية في قولهم: إن الرب تعالى محلٌّ للحوادث. فمذهب أهل الحق أن الله سبحانه لا يشبه شيئا من المخلوقات، ولا يشبهه شيء منها بوجه من وجوه المشابهة والمماثلة»(28).

-  المسألة الثالثة: ومن ذلك أيضا ما حكاه الحجري عن مسألة بيع البابا (الراهب) صكوك الغفران للمسيحي المذنب، وهي واردة في الباب الثاني عشر من رحلة الشهاب الحجري، يقول في ذلك:  «يقولون بألوهية سيدنا عيسى – عليه السلام- وأن البابّ (البابا) خليفته، وجميع أئمة دينهم كل واحد خليفة البابّ. ويأمرون الناس في كل عام في أيام صيامهم أن يمشي كل من هو بالغ من ذكر أو أنثى إلى الكنيسة؛ ويذكر للقسيس جميع ذنوبه، ويعطيه براءة بالمغفرة، ويأخذ الدراهم عليها، حينئذ يذهب مغفورا له. وفي سائر الأيام إذا كان مريضا يمشي إليه القسيس إلى بيته ويغفر له ويأخذ أجرته دراهم»(29).

ويضيف تسفيها لأمر هؤلاء وردا على ما أتوا به من تحريف لدينهم قوله: «وإني أعطيت دراهم سنين عديدة في بروات الغفران معتقدا في كفرهم، ولكن كانوا يطلبون لكل واحد براءته بعد أيام الصيام مكتوب فيها إن فلانا استقر للقسيس الفلاني بذنوبه، وأنه غفر له، ويعلم براءته وإن لم تكن له البراءة يحكم فيه»(30)، وما كان الدافع لبيع صكوك الغفران في القرنين 15-16 إلا للحصول على المال. وقد سفَّه الإسلام هذا الأمر، وسار النبي - ﷺ - في تحريم استعمال الدين لأغراض نفعية، وتوعد القرآن الكريم في عدد من آياته من ذلك؛ كما في قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ كَثِيراٗ مِّنَ اَ۬لَاحْب۪ارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَاكُلُونَ أَمْوَٰلَ اَ۬لنَّاسِ بِالْبَٰطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اِ۬للَّهِۖ وَالذِينَ يَكْنِزُونَ اَ۬لذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اِ۬للَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ اَلِيمٖۖ﴾ [التوبة:34]،  مُندِّدا بـ (الذين يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً). ويستدل النصارى - لتقرير هذه الفرية- بدعوى وجود نصوص في بعض الأناجيل تفيد أن عيسى – عليه السلام- يغفر الذنوب، وأنه فوَّضها لغيره من تلاميذه، قال أبو عبد الله القرطبي المفسر: «ليس أحد يغفر المعصية ولا يزيل عقوبتها إلا الله»(31)، وشرح أبو حامد الغزالي معنى اسم الله تعالى (العفو) بقوله: «والعفو صفة من صفات الله تعالى، وهو الذي يمحو السيئات ويتجاوز عن المعاصي»(32).

-  المسألة الرابعة: حول عقيدة التثليث، وختم الحجري تقريره في انتقاد معتقد النصارى في ألوهية سيدنا عيسى - عليه السلام- بقوله:  «واعلم أن النصارى فتَّشوا برهان التثليث في الألوهية، ولا وَجدُوه، لأن الباطل كان زهوقا. وقالوا: ليس لنا إلا الإيمان بذلك، ويحصل به الأجر. وهي قاعدة في دينهم أن يومنوا بما في الكنيسة الكبرى التي برومة، وهي عامرة بالأصنام والصلبان، وهي الباب الكبير للدخول في النيران، يقودهم إليها وليهم الشيطان، لعنهم الله تعالى بقوله في القرآن (ألا لعنة الله على الكاذبين)». وقد عقب في إحدى تلك المناظرات لما كان يلقاه من تسديد الله تعالى له وتوفيقه في دحض حجة الخصم، ومن ذلك قوله: «والذي رأيته في مناظرة النصارى أني إذا قويت نفسي في الرد عليهم كان ينزل عليَّ من عند الله إجلال وتعظيم ونعظم في أعينهم بذكر توحيد الله تعالى وذكر فضل النبي – ﷺ- وبطلان تثليثهم»(33). والمعنى الذي يدعونه في التثليث في كتب اللاهوت المسيحي، هو باختصار: الإيمان بوجود ثلاثة أشخاص يُشكِّلون (شخص الله)، وكل منهم مُتَميز عن الآخر، وأن هذا الثالوث المُقدس أزلي أبدي، وأن هؤلاء الثلاثة إله واحد لا آلهة ثلاثة، وأنهم متساوون في كل شيء.

-  المسألة الخامسة: وتتعلق بادعاء صَلب المسيح رغبة منه في فداء البشرية من خطيئة آدم (عليهما السلام)، وهي المسألة التي ذكرها الشهاب الحجري في الباب الرابع من رحلته، فقال: «وكان قد ذكر لي رجل من علماء النصارى في مدينة مراكش، وكان راهبا ثم أسلم.. قال لي إن السلطان مولاي أحمد - رحمه الله تعالى- أمر بإحضاره بين يديه بعد أن علم أنه من علماء النصارى وقال له: ما ذا تقولون في سيدنا عيسى عليه السلام؟ قال: إنه أحد الثلاثة في الألوهية - أو كما قال- وأنه مات ليخلص العالم من الذنب الأول الذي عمله أبونا آدم»(34)، وقد رد الحجري على قول النصارى بذلك بأن وضوء المسلمين هو تعبير أو تكفير يومي عن هذه الخطيئة بقوله: «نحن عندنا خلاص لما ورثنا من الفاكهة خير من خلاصكم»، علما أن حديث القرآن عنها ختم بذكر توبة سيدنا آدم من خطيئته وقبول الله منه ذلك.. فلم تتبق لا خطيئة ولا شيء مما يعتقده النصارى.

ومن هذه الشاكلة كذلك ما ورد في الباب التاسع من تأكيد القاضي النصراني أن دينهم هو الحق بخصوص المخلص، وذكر الحجري قوله:

«قالي (القاضي): ديننا هو دين الحق، لأنه مات ليخلص الذنب الأول عن سيدنا آدم – عليه السلام- وعن الجميع بسبب الفاكهة التي نهاه الله تعالى عنها فأكلها»(35). فكان جواب الحجري بما يلي:

«قلت: نحن عندنا خلاص لما ورثنا من الفاكهة خير من خلاصكم، لأنكم تقولون أن واحدا وهو سيدنا عيسى – عليه السلام- خلص عن الجميع، ونحن نخلص كل واحد عن نفسه.

قال: كيف خلاصكم؟

قلت له: أبونا آدم -عليه السلام- كان في الجنة وما كان يخرج من جسده شيء من الفضلات حتى أكل من الشجرة التي أمر بتركها، صار يخرج من جسده ما لا كان له قبل.

قال: نعم.

قلت: فهذه الفضلات التي تخرج منا هي التي ورثنا بسبب الشجرة، واعلم أنه فرض في ديننا على كل مكلف بالغ؛ ذكرا كان أو أنثى، أنه يصلي لله تعالى في كل يوم خمس صلوات، ومن شروط فرائضها أن يكون طاهرا بوضوء؛ لأنه لا يدخل لحضرة المولى إلا بوضوء؛ والوضوء مطهر للجسد مما ورث من الفاكهة المذكورة.. وهذا خلاص خير من خلاصكم، وأنت قاضي تدرك الحق بعقلك، فالذي يخلص عن نفسه فهو بهذا العمل يدخل في الصلاة، ومن لا يصلي ولا يتوضى يطلب بذلك، وأنتم تقولون: أن سيدنا عيسى – عليه السلام- يخلص الجميع. فتعجب القاضي وقال: أبدا ما سمعت من قال هذا الكلام»(36).

- المسألة السادسة: وهي المتعلقة بادعاء النصارى واليهود حِلِّية الخمر وأكل الخنزير، وقد انتقى مجموعة من نصوص كتبهم التي جرى فيها التحريف ما يثبت تحريم الله عليهم شرب الخمر، ومن ذلك قوله:  «وتقدم لنا أن في الكتاب المسمى "بلبتق" من كتب التوراة في الباب العاشر في المقالة الثامنة قال: "كلم الله هارون قائلا: أنت وأولادك معك لا تشربوا خمرا ولا مسكرا إذا أردتم الدخول في الجامع وما تموتون، هذا أمر إلى الأبد لكل من يتنسل منكم. هذا لتفرقوا وتميزوا بين الصلاح والفساد وبين الطاهر والنجس ولتعلم بني إسرائيل وتبين لهم ما أمرهم الله به على يدي موسى". فانظر هذا القول الصريح على الخمر والمسكر أنه نجس وأنه مفسد، وجميع اليهود يشربونه»(37)،

ثم قال: «فاليهود تتعامى على ما عندهم في التوراة من المنع والتبيين أنه نجس، ويحللونه لنفوسهم.. والنصارى تقرأ هذا النص في التوراة وتقرأ أيضا ما في الإنجيل من قول الملك عن يحيى – عليه السلام- إنه لا يشرب خمرا ولا مسكرا. وتعتقد الحلية والطهارة في الخمر، حتى لا تجوز الصلاة عندهم إلا به.. فاشكر أيها الأخ الحبيب على ما وجدت في هذا الكتاب من التبيين على دين الإسلام أنه خير الأديان»(38).

الخاتمة:

-  إن من يقرأ هذا الكتاب يكتشف عمق الرجل في البحث في كتب النصارى وتحققه من المسائل التي يناقشهم فيها، وقوفا على التوراة والإنجيل في لغتيهما الأصلية وبحثا في ترجماتهما وتبيين التحريف الذي طالهما، وهو الذي يزكيه قوله: «فاتصلتُ بالتوراة باللسان العجمي الأندلسي، ووجدت فيها مسائل كثيرة للرد عليهم منها»(39)، وكذا اطلاعه على بعض مصادر الردود كما قال في موضع آخر: «اتصلتُ بكتاب يسمى بـ"السيف المحدود في الرد على اليهود" لعبد الحق الإسلامي – رحمه الله- قال أنه كان من أحبار اليهود ووفقه الله تعالى لدين الإسلام»(40).

-  كما أظهر الرجل كذلك كيف كان أحبار اليهود يخفون أصول التوراة عن الناس ولا يظهرون منها إلا ما حرفوه من تعاليمها كما قال: «ويظهر من هذا أن التوراة ليس كانت عند الناس في تلك الأزمنة، وكيف يثبتون أن هذا هي التي كانت في زمن سيدنا موسى – عليه السلام-، والحمد لله والشكر لله أن القرآن العزيز كان في كل بلد من بلاد المسلمين موجودا. وكان عندنا ببلاد الأندلس مع الحكم القوي والحرص الشديد من الكفار على من يظهر عنده يقتلونه ويأخذون ماله ويحرقونه. ومضت أكثر من مائة سنة من حين منعوه وهو موجود»(41).

-  وقد بيَّن الحجري – من خلال ردوده تلك- اطلاعه الواسع على عقائد النصارى واليهود وتشبثه بعقيدة التوحيد رغم ما كان يعانيه هو وبقية الموريسكيين المهجرين، فقال: «ولكن بعد أن رأيت ما أنعم الله تعالى به عليَّ من اليقين في الاعتقاد في توحيده، لا سيما بعد أن طالعت كتب الأديان الثلاثة، حتى لم يبق للنفس والشيطان بابا من كثرة بيبانها من الشكوك والأوهام والظنون في دين الإسلام»(42).

- فهذه نماذج من المناظرات التي كانت تجري بين المسلمين عامة وأهل الكتاب من النصارى واليهود على أرض الأندلس خاصة، تطلعنا على استمرار الجدل الديني بين الديانات الثلاث منذ أمد بعيد، وهو الجدال الذي لا زال قائما، وتختلف مواضيعه بحسب اختلاف المتحاورين.. وشكلت كذلك سمة من سمات الحوار الحضاري الذي عرفته الأندلس، ما أحوجنا اليوم لتمثله، لأن هذا الجدل وهذا الحوار، وكما اتضح من التجربة الأندلسية، جدل وحوار قائمين على قبول الرأي والرأي الآخر.

الهوامش:

(1)  انظر كتاب: "رسالة في فضل الأندلس وذكر رجالها"، رسائل ابن حزم الأندلسي (ت 456هـ)، تحقيق إحسان عباس، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط/2-1987، ج/2-86

(2)  مناظرات الباقلاني مشهورة معلومة طبعت مرارا، انظر على سبيل المثال: المناظرة العجيبة: "وقائع مناظرة الإمام الباقلاني للنصارى بحضرة ملكهم"، جمعها ونسقها: محمد بن عبد العزيز الخضيري، دار الوطن للنشر/الرياض، ط/1-2000

(3)  كتاب "المنهاج في ترتيب الحجاج"، لأبي الوليد الباجي، تحقيق: عبد المجيد تركي، دار الغرب الإسلامي، ط/3-2001، ص:7

(4)  ذكر سمير قدوري أن هذا الكتاب طبع وحقق مرات متكررة جزئيا وكليا منسوبا لغير مؤلفه، إذ لم ينجح جل محققيه في الوقوف على هوية القرطبي مؤلفه، بل نسبوا الكتاب إلى القرطبي المفسر، تقليدا منهم لإسماعيل باشا البغدادي، ولكارل بروكلمان، انظر: نص المقال في: "جهود المالكية في مجادلة أهل الكتاب" منشور الكترونيا، وقد صدر الكتاب مؤخرا بتحقيق وتقديم الدكتور سمير قدوري عن دار المالكية بتونس، ط/1-2020

(5)  نفسه

(6)  انظر ترجمة الشهاب الحجري في: "الأعلام"، خير الدين الزركلي، ج/1- 198 وما بعدها، ط/ الخامسة عشر- 2002 م، دار العلم للملايين، بيروت. وهو ليس: أحمد الحجري السبتي من أصحاب القاضي عياض المولود بألمرية (سنة 505هـ) والمتوفى بسبتة (عام591هـ)، الإمام والمحدث بمساجدها. انظر: معلمة المغرب- ج/10 ص: 3333-3334 (بقلم: أحمد متفكر).

(7)  كتاب: "دليل مؤرخي المغرب الأقصى"، لابن سودة- ضبط واستدراك مكتب البحوث والدراسات في دار الفكر- ط/1-1997- ص:234.

(8) رحلة أفوقاي الأندلسي، أو (مختصر رحلة الشهاب إلى لقاء الأحباب)" (1611-1613)، أحمد بن قاسم الحجري، ترجمة وتحقيق: محمد رزوق، المؤسسة العربية للدراسات والنشر- سلسلة: ارتياد الآفاق/2004.

(9) "ناصر الدين على القوم الكافرين"، تأليف أحمد بن قاسم الحجري أفوقاي  الأندلسي، طبع في المجلس الأعلى للأبحاث العلمية، الوكالة الإسبانية للتعاون الدولي، تحقيق: شودر فان كونكزفلد وقاسم السمرائي وجيرارد فيخرز.

(10)  رحلة أفوقاي الأندلسي، ترجمة وتحقيق: محمد رزوق

(11)  وقد أحصى الباحث سمير قدوري جملة من هذه الردود، فذكر:

- أن محمد بن سحنون ألف كتابا في الرد على النصارى موسوم بـ: "الحجة على النصارى".

- وأن عُزَيز بن محمد بن عبد الرحمن الأندلسي (كان حيا في سن عالية سنة 303هـ)، وهو فقيه من أهل مالقة يكنى أبا هريرة، له تأليف موسوم بـ: "الرد على أهل الكتاب من الكُتَّاب"، (لكنه لم يصلنا)،

- وأن محمد بن فرج مولى ابن الطلاع القرطبي (ت.497هـ) ناظر نصرانيا من قرطبة طلبه للمناظرة،

- ومن ذلك أيضا ما ثبت عن أبي الحجاج يوسف بن موسى الضرير السرقسطي (ت.520هـ) نزيل مراكش من مناظرته لبعض أحبار اليهود،

- ومنه كذلك جهود أبي جعفر أحمد بن عبد الصمد الخزرجي القرطبي (ت582هـ) في الرد على النصارى ومناظرة اليهود. والذي ألف رسالة شهيرة في الرد على قسيس قوطي من طليطلة سماها: "مقامع هامات الصلبان ورواتع روضات الإيمان"، وهي مطبوعة ومتداولة،

- وذكر منهم كذلك: كتاب "الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام"، تأليف: أحمد بن عمر بن إبراهيم بن عمر الأنصاري القرطبي (ت.656هـ)، وغالبا ما ينسب الكتاب إلى القرطبي المفسر،

- هذا إلى جانب ما وضعه عبد الحق الإسلامي السبتي، الذي ألف كتاب: "السيف المحدود في الرد على اليهود"، ألفه بسبتة سنة 796هـ بعد اعتناقه الإسلام بعدما نشأ في اليهودية، انظر مقالة: "جهود علماء المالكية في محاورة أهل الكتاب"، بقلم سمير قدوري، منشور الكترونيا. ومن بين هذه الردود على النصارى كذلك:

- ما دبجه الرازي في مناظرته المطبوعة والمتداولة بعنوان: "مناظرة في الرد على النصارى"، فخر الدين الرازي، تقديم وتحقيق: عبد المجيد النجار، دار الغرب الإسلامي، ط/1986.

(12)  الفكر الاسلامي في الرد على النصارى إلى نهاية القرن الرابع/العاشر"، عبد المجيد الشرفي، منشورات كلية الآداب- تونس، الدار التونسية للنشر، المؤسسة الوطنية للكتاب، ط/1986، ص:14

(13)  رسالة راهب فرنسا إلى المسلمين وجواب القاضي أبي الوليد الباجي عليها"، دراسة وتحقيق: الدكتور محمد عبد الله الشرقاوي، دار الصحوة للنشر والتوزيع القاهرة، ط/1986- ص: 31

(14)  الجدل الديني بين المسلمين وأهل الكتاب بالأندلس (ابن حزم- الخزرجي)"، د. خالد عبد الحليم عبد الرحيم السيوطي، مكتبة الإسكندرية، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع ط/2001

(15)  الجدل الديني من خلال كتاب ناصر الدين على القوم الكافرين"، حسام الدين شاشية، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، قسم الدراسات الدينية/2015، ص: 14 وما بعدها

(16)  مقال بعنوان: "قواعد المناظرة وأخلاقياتها من خلال مجادلة محمد القيسي ومحمد الأنصاري للنصارى بالأندلس"، عبدالواحد العسري، مجلة كلية آداب تطوان.

(17)  مختصر الرحلة"، للحجري، ص: 3

(18)  نفسه

(19)  نفسه

(20)  نفسه، ص: 91-92

(21)  نفسه، ص: 91

(22)  نفسه، ص: 91-92

(23)  ص: 92

(24)  ص: 96

(25)  شرح معالم أصول الدين" لابن التلمساني، ص: 675

(26)  مختصر الرحلة"، للحجري، ص: 157

(27)  نفسه، ص: 157-158

(28)  نفسه، ص: 97

(29)  نفسه، ص: 161

(30)  نفسه، ص: 161

(31)  انظر: "الجامع لأحكام القرآن"، لأبي عبد الله القرطبي، تحقيق: عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، ط/1-2006 ج:5/325

(32)  انظر: "المقصد الأسنى في شرح معاني أسماء الله الحسنى"، لأبي حامد الغزالي، دار السلام، ط/1-2008، ص: 195

(33)  مختصر الرحلة"، للحجري، ص: 54-55

(34)  نفسه، ص: 48

(35)  نفسه، ص: 98

(36)  نفسه، ص: 98-99

(37)  نفسه، ص: 130

(38)  نفسه، ص: 131

(39)  نفسه، ص: 108

(40)  نفسه، ص: 109

(41)  نفسه، ص: 130

(42) نفسه، ص: 172

Science
الوسوم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق