مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةدراسات عامة

المناظرات العقدية للفخر الرازي (606هـ) في بلاد ما وراء النهر(1)

 

حفظ لنا تراثنا الإسلامي أخبارا عن مجالس علمية متنوعة يُلتزم  في كل منها بضوابط وآداب تميزها، وتحصل منها ألوان من الفوائد، فمنها ما كان يعقد بين العالم والمتعلم؛ وهو المعروف بمجلس الدرس، ومنها ما يعقد بين العلماء لتبادل الأفكار والمناقشة حول مسائل مختلفة؛ ويسمى بمجلس المذاكرة، وأخرى تعقد بين المختلفين من العلماء في مختلف العلوم التي يكثر فيها الجدل كالفلسفة وعلم الكلام والفقه وأصوله؛ وتعرف بمجالس المناظرة، ولعل هذه المجالس قد استأثرت بكل خصائص المجالس الأخرى من تحصيل التعلم والتعليم والمناقشة والمجادلة وتبادل وجهات النظر، وتميزت عنها بما يظهر من خلالها من حرية الفكر، وسعة الاطلاع وسرعة البديهة، ثم القابلية للإذعان للحق حين يظهر ولو على يد الخصم.
وقد حرص علماء الإسلام على إخلاص نية القصد إلى ظهور الحق في إطار الدعوة إلى سبيل الله، فعمدوا إلى مناظرة المخالفين بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن كما أمر الله تعالى بها نبيه ثم سائر المسلمين، ونبذوا الجنوح المذموم المدفوع بالهوى والتعصب للرأي والمذهب.  
و هذه كانت وسيلة الأشاعرة  في الذب عن عقيدة أهل السنة والجماعة، فكثر الجدال بينهم  وبين الفلاسفة والملاحدة وأنصار الديانات المخالفة للإسلام، وبينهم وبين الفرق الإسلامية المبتدعة. ونذكر من بين الأشاعرة المميزين في هذا المجال الإمام ابن الخطيب فخر الدين الرازي(606هـ) الذي جعل من تدوين مناظراته في بلاد ما وراء النهر، تأريخا وحفظا لنشاطه العلمي، ودليلا على ما كان له من شأن عند العلماء والعامة، وما كان له من فضل في رجوع الكثير من أتباع الكرامية – وكان لهؤلاء شوكة في كثير من مدن ما وراء النهر- إلى مذهب أهل السنة والجماعة.
عاش ابن الخطيب في فترة تنوعت فيها الأفكار والمطارحات العقدية والفلسفية بين الفرق وأهل الأديان المختلفة، ما كوَّن لديه – إلى جانب الاطلاع الواسع- فكرا ناقدا مقارنا، تمظهر بشكل واضح في  مناظراته التي اتفقت له في كل بلد وصل إليه من بلاد ما وراء النهر[1]، وقد بلغت في مجموعها ست عشرة مناظرة، ثمانية منها عقدية – وهي التي تهمنا في هذه المقالة- ذكر ابن الخطيب في سائرها أسماء من ناظرهم وأحجم عن تعريفهم، ولم تُذكر أسماء بعضهم في غير هذا الكتاب من مصادر تاريخية[2] غير النور الصابوني والشرف المسعودي، وعموما فقد يظهر فكر كل منهم وانتماؤه المذهبي من خلال سياق المناظرة. 
مناظرات الرازي العقدية:
المناظرة العقدية الأولى مع “النور الصابوني” –كما دأب الرازي على تسميته- ودارت حول مسلك الوجود في إثبات جواز رؤية الله تعالى[3].
المناظرة العقدية الثانية مع “النور الصابوني” أيضا وموضوعها “الجوهر في الزمان”.
المناظرة العقدية الثالثة مع قاضي “غزنة” في موضوع يتعلق بالكون والتكوين.
المناظرة العقدية الرابعة مع “النور الصابوني” في مسألة البقاء، هل هي صفة زائدة على ذات الباقي؟.
المناظرة العقدية الخامسة مع “الشرف المسعودي” كشفت المناظرة عن نقاط اختلاف الرازي مع الغزالي في آراء عقدية ما لم يكشف عنه مصدر غيره، وكذا موقف الرازي من  كتاب “الملل والنحل” للشهرستاني، والفرق بين الفرق للبغدادي، وكتاب الوافي أو صوان الحكمة، وأديان العرب للجاحظ، والفصول الأربعة لحسن بن الصباح الإسماعيلي بالفارسية.
المناظرة العقدية السادسة مع علماء بخارى في قضية تكليف ما لا يطاق.
المناظرة السابعة: وهي مناظرة قد تعد من نوادر المناظرات التي جرت بين الأشاعرة والماتريدية ودارت حول صفة الكلام.
المناظرة الثامنة مع “الفريد الغيلاني” حول حدوث العالم.
المناظرة العقدية الأولى:
قد يثير المطلع في هذه المناظرة تميزها من حيث أهمية موضوعها وقوة حجة الرازي فيها،  فالرازي المتكلم الأشعري الحصيف يذهب مذهب غيره من الأشاعرة في إثبات الرؤية، وكذلك في ما استدلوا به من دلائل نقلية، لكنه أبان عن موقفه المخالف لاستدلالهم العقلي المعتمد على دليل الوجود[4]، وقد أثبت ضعفه بما أورد عليه من أسئلة في كتابه «الأربعين في أصول الدين»، ثم اعترف بالعجز عن الجواب عنها، وقرر أنه لا يثبت رؤية الله تعالى بالدليل العقلي، بل يتمسك فيها بظواهر القرآن والأحاديث[5]. 
وتجدر الإشارة إلى أن اعتماد الأشاعرة هذا الدليل العقلي لا يستغنون به عن الدليل النقلي من القرآن والسنة،  وإنما معوّلهم عليه في دحض حجج المخالفين النافين للرؤية وكذا المثبتين الزاعمين أن مصحح الرؤية هو القيام بالنفس، ولعل هذا ما دفع الآمدي إلى عقد فصل بتفصيل الدليل السمعي للمؤمنين المعترفين بالنبوات المصدقين بالرسالات[6]. 
والمسألة عموما كثر حولها الجدال بين النافين والمثبتين، وبين المثبتين فيما بينهم من حيث الدليل العقلي، ولما لم يسمح المقام بالتفصيل في الموضوع، أكتفي بموقف الرازي منها من خلال المناظرة.
يبدو من سياق المناظرة وموضوعها أن نور الدين الصابوني[7] من الماتريدية الذين اتفقوا  مع الأشاعرة في اعتماد دليل الوجود في الاستدلال العقلي على إثبات الرؤية، وهو –كما يذكر الرازي- يدعي الحذق والكياسة وأنه متكلم القوم وأصوليهم، وقد تفطن الرازي أن هذه المسألة العقدية هي التي أثارها الصابوني في مجلس الذكر خلال رحلته إلى الحج، فلما أخبره بما تفطن إليه- وكانا في دار الرازي-، أورد الصابوني عليه سؤالا عن الحال وتعلقه بهذه المسألة إثباتا ونفيا، فأجابه الرازي بملخص ما أورده في كتبه الأخرى  في هذا الموضوع قائلا: 
«إنك تقول أن السواد يصح أن يُرى، فهذه الصحة غير معللة بكونه سوادا، بل هي معللة بكونه موجودا، فإن كان سوادا عين كونه موجودا كان مورد النفي والإثبات أمرا واحدا، ومن جوزه كان خاليا من العقل، وأما إن قلنا: إن كونه سوادا مغايرا لكونه موجودا، فهذا أن المتغايران إن كانا موجودين لزم قيام العرض بالعرض، وهذا عندك محال باطل، وإن كان عدمين محضين، وهذا أيضا محال لأنه يلزم أن يقال السواد والموجود عدم محض ونفي صرف، وإن كانا لا موجودين ولا معدومين، فهذا يقتضي إثبات واسطة بين الموجود والمعدوم وذلك هو المحال، فلما ذكرت دليل الوجود في مسألة الرؤية، وكنت غافلا عن هذا المعنى، وعن هذه الدقيقة ثبت ذلك، وإن قلت صحة رؤية السواد ليس لكونه سوادا بل لكونه موجودا، مع أنك ما عرفت التمييز بين هذين المعنيين كنت قد جمعت بين النفي والإثبات على مورد واحد، والعلم بفساد هذه القضية من أقوى العلوم الضرورية[8]، والعلم الضروري يدل على فقدان العقل…»[9].
ذكر الرازي – وهو المخبر عن المناظرة- أن الصابوني اضطرب حين وجه إليه هذا الكلام وبقي مبهوتا، ولم يجد البتة إلى دفعه سبيلا، وانتهى في العي والسكوت إلى أقصى الغايات، فقام وخرج من داره.
والملاحظ في وصف الرازي انقطاعَ الصابوني نوع من المبالغة في التباهي بقدرته على إفحام الخصوم، وبرغم من تصريحه في مقدمة كتابه أن كل من ناظرهم في بلاد ما وراء النهر هم من الأفاضل والأعيان، تجده يحرص بشكل ملفت للانتباه على إظهارهم في صورة تقلل من شأنهم وتحط من علمهم. وهذا ما ظهر من خلال هذه المناظرة حين توجه في بداية حديثه بالإساءة إلى الصابوني، ونعته بما لا يليق، وأشار إليه بما يخالف آداب المناظرة، قال: “لما صرحت بهذا الكلام، حكمت عليك بأنك لست من زمرة العقلاء فضلا أن تكون من العلماء…” وهو – أي الرازي- يزعم أن في نعته تنبيها للصابوني إلى قبح الطعن في العلماء والأفاضل. 
إعداد الباحثة: إكرام بولعيش
الهوامش:
[1] انظر “المناظرات” فخر الدين الرازي، تح: د. عارف تامر، مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر، ط:الأولى 1992م، ص: 101.
[2] ذكر محقق كتاب المناظرات “عارف تامر” أنه لم يعثر -بعد جهد جهيد- في كتب التاريخية ولا كتاب الرجال ولا غيرهم، ولو على مجرد ذكر أسماء من ناظرهم الرازي، في حين أن الصابوني هو علم بارز من أعلام المذهب الماتريدي صاحب المؤلفات فيه، وكذا الرضى النيسابوري من أئمة الحنفية صاحب الطريقة “الرضوية”  في الجدل والمناظرة. 
[3] ذكر محقق كتاب “المناظرات” أن موضوع المناظرة هو انتصار الرازي لأهل العراق وخراسان لأن الصابوني نسبهم إلى الجهل (ص: 90) والقارئ يجد أن الأمر يتعلق بمناظرتين مختلفتين، اعتبرهما المحقق بمثابة مناظرة واحدة، الأولى كان غايتها الانتصار لأهل  العراق وخراسان حين نسبهم الصابوني إلى الجهل والبلادة وقلة الفهم وكثرة الحماقة، واستدل على ما نسب إليهم بكونهم لم يوردوا عليه سؤالا في ما عرض من مباحث عقدية في مجلس التذكير الذي عقده خلال رحلته إلى الحج، فضعف الرازي استدلاله؛ بأن العلماء يستنكفون من إيراد السؤالات في هذه المجالس، وهذا لا يدل على عدم علمهم بهذه المباحث، فأفحمه. وأما الثانية  فدارت حول المسألة العقدية التي أثارها الصابوني في ذلك المجلس، كما سيتوضح في ما يأتي.   
[4] هذا الدليل اتخذ عند الأشاعرة صيغا كثيرة، وصيغته العامة هي:   أنه لما ثبت اشتراك الأعراض والجواهر في صحة الرؤية، كان لابد لهذه الصحة من علة لتحققها عند الوجود، وانتفائها عند العدم، وكان لابد لهذه العلة أن تكون هي أيضا مشتركة بين الأعراض والجواهر، وإلا لزم تعليل الأمر الواحد بعلل مختلفة، وهو غير جائز عقلا، وهذه العلة المشتركة إما الوجود أو الحدوث، لكن الحدوث لا يصلح علة لأنه عبارة عن الوجود مع اعتبار عدم سابق، والعدم لا يصلح علة لأنه عبارة عن الوجود مع اعتبار عدم سابق. والعدم لا يصلح أن يكون جزءا للعلة، فبقي الوجود، وعليه فإن صحة الرؤية متحققة في حق الله تعالى لأنه موجود. انظر “الإبانة” للأشعري ص: 18، و”الإرشاد” للجويني، ص:177، و”الإنصاف” للباقلاني، ص:160، و”المواقف” للإيجي، 1/161.
[5] الأربعين في أصول الدين، فخر الدين الرازي، اعتنى به محمود عبد العزيز محمود، دار الكتب العلمية، ط الأولى 2009م، ص: 196.
[6] قرر الآمدي في مسألة الاستدلال العقلي على إثبات صحة رؤية الله تعالى المعتمد على دليل الوجود  أنه مسلك لا يقوى، والتحقيق في إيضاح الطريق يتوقف على بيان معنى الإدراك والكشف عن حقيقته، ثم قال: «ومن عرف سر هذا الكلام عرف غور كلام أبى الحسن في قوله: إن الإدراك نوع مخصوص من العلوم لكنه لا يتعلق إلا بالموجودات، وإذا عرف ذلك فالعقل يجوز أن يخلق الله تعالى في الحاسة المبصرة بل وفى غيرها زيادة كشف بذاته وبصفاته على ما حصل منه بالعلم القائم في النفس من غير أن يوجب حدوثا ولا نقصا، وذلك هو الذى سماه أهل الحق إدراكا». انظر غاية المرام في علم الكلام، الآمدي، تح: حسن محمود عبد اللطيف، المجلس الاعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة. ص:159-174.
قال مؤلف كتاب “عقائد الأشاعرة” ص: 304:  “أما الإيجي في المواقف فذكر أنها –أي الرؤية- تثبت بالسمع والعقل، وقال: والعمدة مسلك الوجود”. وحقيقة الأمر أن الإيجي ذكر العمدة في الاستدلال العقلي وهو مسلك الوجود، كما ذكر أن العمدة في الاستدلال النقلي هو قوله تعالى: “ربي أرني أنظر إليك”. انظر المواقف، الإيجي، تح: عبد الرحمن عميرة، ط: 1997م، دار الجيل بيروت، 1/158-161.
[7] هو نور الدين أحمد بن محمود بن بكر الصابوني، البخاري الحنفي في الفقه، الماتريدي في العقيدة، صاحب كتاب “الكفاية في الهداية في أصول الدين” (لا يزال مخطوطا وتوجد له نسخة بمكتبة الملك عبد العزيز بالرياض) ومختصره “البداية من الكفاية”. توفي سنة 580هـ. انظر “طبقات الحنفية” للقرشي، 1/124.  
[8] للشريف التلمساني اعتراض على دعوى نفي الحال ضرورة؛ ذلك أن البحث في إثبات الواسطة ونفيها يعد من أغمض المباحث العقلية، ثم يقول التلمساني ردا على الرازي: “إذا فسرت الموجود بما له ثبوت بوجه ما صح انقسامه إلى ما له تقرر استقلالا من خارج، وإلى ما ليس كذلك، والأول عند مثبتي الأحوال هو الموجود، والثاني هو الحال، أو الوجه والاعتبار عند من ينفي الأحوال ويعترف بالعموم العقلي، ولا يردُّه إلى مجرد الألفاظ، فقد أثبتّ الواسطة مع أنك تنفيها”. انظر “شرح معالم أصول الدين للفخر الرازي”، شرف الدين التلمساني، تح: نزار حمادي، دار مكتبة المعارف، بيروت ط الأولى 2011م، ص:  
[9] المناظرات، الرازي، ص: 113-114.

حفظ لنا تراثنا الإسلامي أخبارا عن مجالس علمية متنوعة يُلتزم  في كل منها بضوابط وآداب تميزها، وتحصل منها ألوان من الفوائد، فمنها ما كان يعقد بين العالم والمتعلم؛ وهو المعروف بمجلس الدرس، ومنها ما يعقد بين العلماء لتبادل الأفكار والمناقشة حول مسائل مختلفة؛ ويسمى بمجلس المذاكرة، وأخرى تعقد بين المختلفين من العلماء في مختلف العلوم التي يكثر فيها الجدل كالفلسفة وعلم الكلام والفقه وأصوله؛ وتعرف بمجالس المناظرة، ولعل هذه المجالس قد استأثرت بكل خصائص المجالس الأخرى من تحصيل التعلم والتعليم والمناقشة والمجادلة وتبادل وجهات النظر، وتميزت عنها بما يظهر من خلالها من حرية الفكر، وسعة الاطلاع وسرعة البديهة، ثم القابلية للإذعان للحق حين يظهر ولو على يد الخصم.

وقد حرص علماء الإسلام على إخلاص نية القصد إلى ظهور الحق في إطار الدعوة إلى سبيل الله، فعمدوا إلى مناظرة المخالفين بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن كما أمر الله تعالى بها نبيه ثم سائر المسلمين، ونبذوا الجنوح المذموم المدفوع بالهوى والتعصب للرأي والمذهب.  

و هذه كانت وسيلة الأشاعرة  في الذب عن عقيدة أهل السنة والجماعة، فكثر الجدال بينهم  وبين الفلاسفة والملاحدة وأنصار الديانات المخالفة للإسلام، وبينهم وبين الفرق الإسلامية المبتدعة. ونذكر من بين الأشاعرة المميزين في هذا المجال الإمام ابن الخطيب فخر الدين الرازي(606هـ) الذي جعل من تدوين مناظراته في بلاد ما وراء النهر، تأريخا وحفظا لنشاطه العلمي، ودليلا على ما كان له من شأن عند العلماء والعامة، وما كان له من فضل في رجوع الكثير من أتباع الكرامية – وكان لهؤلاء شوكة في كثير من مدن ما وراء النهر- إلى مذهب أهل السنة والجماعة.

عاش ابن الخطيب في فترة تنوعت فيها الأفكار والمطارحات العقدية والفلسفية بين الفرق وأهل الأديان المختلفة، ما كوَّن لديه – إلى جانب الاطلاع الواسع- فكرا ناقدا مقارنا، تمظهر بشكل واضح في  مناظراته التي اتفقت له في كل بلد وصل إليه من بلاد ما وراء النهر[1]، وقد بلغت في مجموعها ست عشرة مناظرة، ثمانية منها عقدية – وهي التي تهمنا في هذه المقالة- ذكر ابن الخطيب في سائرها أسماء من ناظرهم وأحجم عن تعريفهم، ولم تُذكر أسماء بعضهم في غير هذا الكتاب من مصادر تاريخية[2] غير النور الصابوني والشرف المسعودي، وعموما فقد يظهر فكر كل منهم وانتماؤه المذهبي من خلال سياق المناظرة. 

مناظرات الرازي العقدية:

المناظرة العقدية الأولى مع “النور الصابوني” –كما دأب الرازي على تسميته- ودارت حول مسلك الوجود في إثبات جواز رؤية الله تعالى[3].

المناظرة العقدية الثانية مع “النور الصابوني” أيضا وموضوعها “الجوهر في الزمان”.

المناظرة العقدية الثالثة مع قاضي “غزنة” في موضوع يتعلق بالكون والتكوين.

المناظرة العقدية الرابعة مع “النور الصابوني” في مسألة البقاء، هل هي صفة زائدة على ذات الباقي؟.

المناظرة العقدية الخامسة مع “الشرف المسعودي” كشفت المناظرة عن نقاط اختلاف الرازي مع الغزالي في آراء عقدية ما لم يكشف عنه مصدر غيره، وكذا موقف الرازي من  كتاب “الملل والنحل” للشهرستاني، والفرق بين الفرق للبغدادي، وكتاب الوافي أو صوان الحكمة، وأديان العرب للجاحظ، والفصول الأربعة لحسن بن الصباح الإسماعيلي بالفارسية.

المناظرة العقدية السادسة مع علماء بخارى في قضية تكليف ما لا يطاق.

المناظرة السابعة: وهي مناظرة قد تعد من نوادر المناظرات التي جرت بين الأشاعرة والماتريدية ودارت حول صفة الكلام.

المناظرة الثامنة مع “الفريد الغيلاني” حول حدوث العالم.

المناظرة العقدية الأولى:

قد يثير المطلع في هذه المناظرة تميزها من حيث أهمية موضوعها وقوة حجة الرازي فيها،  فالرازي المتكلم الأشعري الحصيف يذهب مذهب غيره من الأشاعرة في إثبات الرؤية، وكذلك في ما استدلوا به من دلائل نقلية، لكنه أبان عن موقفه المخالف لاستدلالهم العقلي المعتمد على دليل الوجود[4]، وقد أثبت ضعفه بما أورد عليه من أسئلة في كتابه «الأربعين في أصول الدين»، ثم اعترف بالعجز عن الجواب عنها، وقرر أنه لا يثبت رؤية الله تعالى بالدليل العقلي، بل يتمسك فيها بظواهر القرآن والأحاديث[5]. 

وتجدر الإشارة إلى أن اعتماد الأشاعرة هذا الدليل العقلي لا يستغنون به عن الدليل النقلي من القرآن والسنة،  وإنما معوّلهم عليه في دحض حجج المخالفين النافين للرؤية وكذا المثبتين الزاعمين أن مصحح الرؤية هو القيام بالنفس، ولعل هذا ما دفع الآمدي إلى عقد فصل بتفصيل الدليل السمعي للمؤمنين المعترفين بالنبوات المصدقين بالرسالات[6]. 

والمسألة عموما كثر حولها الجدال بين النافين والمثبتين، وبين المثبتين فيما بينهم من حيث الدليل العقلي، ولما لم يسمح المقام بالتفصيل في الموضوع، أكتفي بموقف الرازي منها من خلال المناظرة.

يبدو من سياق المناظرة وموضوعها أن نور الدين الصابوني[7] من الماتريدية الذين اتفقوا  مع الأشاعرة في اعتماد دليل الوجود في الاستدلال العقلي على إثبات الرؤية، وهو –كما يذكر الرازي- يدعي الحذق والكياسة وأنه متكلم القوم وأصوليهم، وقد تفطن الرازي أن هذه المسألة العقدية هي التي أثارها الصابوني في مجلس الذكر خلال رحلته إلى الحج، فلما أخبره بما تفطن إليه- وكانا في دار الرازي-، أورد الصابوني عليه سؤالا عن الحال وتعلقه بهذه المسألة إثباتا ونفيا، فأجابه الرازي بملخص ما أورده في كتبه الأخرى  في هذا الموضوع قائلا: 

«إنك تقول أن السواد يصح أن يُرى، فهذه الصحة غير معللة بكونه سوادا، بل هي معللة بكونه موجودا، فإن كان سوادا عين كونه موجودا كان مورد النفي والإثبات أمرا واحدا، ومن جوزه كان خاليا من العقل، وأما إن قلنا: إن كونه سوادا مغايرا لكونه موجودا، فهذا أن المتغايران إن كانا موجودين لزم قيام العرض بالعرض، وهذا عندك محال باطل، وإن كان عدمين محضين، وهذا أيضا محال لأنه يلزم أن يقال السواد والموجود عدم محض ونفي صرف، وإن كانا لا موجودين ولا معدومين، فهذا يقتضي إثبات واسطة بين الموجود والمعدوم وذلك هو المحال، فلما ذكرت دليل الوجود في مسألة الرؤية، وكنت غافلا عن هذا المعنى، وعن هذه الدقيقة ثبت ذلك، وإن قلت صحة رؤية السواد ليس لكونه سوادا بل لكونه موجودا، مع أنك ما عرفت التمييز بين هذين المعنيين كنت قد جمعت بين النفي والإثبات على مورد واحد، والعلم بفساد هذه القضية من أقوى العلوم الضرورية[8]، والعلم الضروري يدل على فقدان العقل…»[9].

ذكر الرازي – وهو المخبر عن المناظرة- أن الصابوني اضطرب حين وجه إليه هذا الكلام وبقي مبهوتا، ولم يجد البتة إلى دفعه سبيلا، وانتهى في العي والسكوت إلى أقصى الغايات، فقام وخرج من داره.

والملاحظ في وصف الرازي انقطاعَ الصابوني نوع من المبالغة في التباهي بقدرته على إفحام الخصوم، وبرغم من تصريحه في مقدمة كتابه أن كل من ناظرهم في بلاد ما وراء النهر هم من الأفاضل والأعيان، تجده يحرص بشكل ملفت للانتباه على إظهارهم في صورة تقلل من شأنهم وتحط من علمهم. وهذا ما ظهر من خلال هذه المناظرة حين توجه في بداية حديثه بالإساءة إلى الصابوني، ونعته بما لا يليق، وأشار إليه بما يخالف آداب المناظرة، قال: “لما صرحت بهذا الكلام، حكمت عليك بأنك لست من زمرة العقلاء فضلا أن تكون من العلماء…” وهو – أي الرازي- يزعم أن في نعته تنبيها للصابوني إلى قبح الطعن في العلماء والأفاضل. 

 

                                                   إعداد الباحثة: إكرام بولعيش

 

الهوامش:

 

[1] انظر “المناظرات” فخر الدين الرازي، تح: د. عارف تامر، مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر، ط: الأولى 1992م، ص: 101.

[2] ذكر محقق كتاب المناظرات “عارف تامر” أنه لم يعثر -بعد جهد جهيد- في الكتب التاريخية ولا في كتب الرجال ولا غيرهم، ولو على مجرد ذكر أسماء من ناظرهم الرازي، في حين أن الصابوني هو علم بارز من أعلام المذهب الماتريدي صاحب المؤلفات فيه، وكذا الرضى النيسابوري من أئمة الحنفية صاحب الطريقة “الرضوية”  في الجدل والمناظرة. 

[3] ذكر محقق كتاب “المناظرات” أن موضوع المناظرة هو انتصار الرازي لأهل العراق وخراسان لأن الصابوني نسبهم إلى الجهل (ص: 90) والقارئ يجد أن الأمر يتعلق بمناظرتين مختلفتين، اعتبرهما المحقق بمثابة مناظرة واحدة، الأولى كان غايتها الانتصار لأهل  العراق وخراسان حين نسبهم الصابوني إلى الجهل والبلادة وقلة الفهم وكثرة الحماقة، واستدل على ما نسب إليهم بكونهم لم يوردوا عليه سؤالا في ما عرض من مباحث عقدية في مجلس التذكير الذي عقده خلال رحلته إلى الحج، فضعف الرازي استدلاله؛ بأن العلماء يستنكفون من إيراد السؤالات في هذه المجالس، وهذا لا يدل على عدم علمهم بهذه المباحث، فأفحمه. وأما الثانية  فدارت حول المسألة العقدية التي أثارها الصابوني في ذلك المجلس، كما سيتوضح في ما يأتي.   

[4] هذا الدليل اتخذ عند الأشاعرة صيغا كثيرة، وصيغته العامة هي:   أنه لما ثبت اشتراك الأعراض والجواهر في صحة الرؤية، كان لابد لهذه الصحة من علة لتحققها عند الوجود، وانتفائها عند العدم، وكان لابد لهذه العلة أن تكون هي أيضا مشتركة بين الأعراض والجواهر، وإلا لزم تعليل الأمر الواحد بعلل مختلفة، وهو غير جائز عقلا، وهذه العلة المشتركة إما الوجود أو الحدوث، لكن الحدوث لا يصلح علة لأنه عبارة عن الوجود مع اعتبار عدم سابق، والعدم لا يصلح علة لأنه عبارة عن الوجود مع اعتبار عدم سابق. والعدم لا يصلح أن يكون جزءا للعلة، فبقي الوجود، وعليه فإن صحة الرؤية متحققة في حق الله تعالى لأنه موجود. انظر “الإبانة” للأشعري ص: 18، و”الإرشاد” للجويني، ص:177، و”الإنصاف” للباقلاني، ص:160، و”المواقف” للإيجي، 1/161.

[5] الأربعين في أصول الدين، فخر الدين الرازي، اعتنى به محمود عبد العزيز محمود، دار الكتب العلمية، ط الأولى 2009م، ص: 196.

[6] قرر الآمدي في مسألة الاستدلال العقلي على إثبات صحة رؤية الله تعالى المعتمد على دليل الوجود  أنه مسلك لا يقوى، والتحقيق في إيضاح الطريق يتوقف على بيان معنى الإدراك والكشف عن حقيقته، ثم قال: «ومن عرف سر هذا الكلام عرف غور كلام أبى الحسن في قوله: إن الإدراك نوع مخصوص من العلوم لكنه لا يتعلق إلا بالموجودات، وإذا عرف ذلك فالعقل يجوز أن يخلق الله تعالى في الحاسة المبصرة بل وفى غيرها زيادة كشف بذاته وبصفاته على ما حصل منه بالعلم القائم في النفس من غير أن يوجب حدوثا ولا نقصا، وذلك هو الذى سماه أهل الحق إدراكا». انظر غاية المرام في علم الكلام، الآمدي، تح: حسن محمود عبد اللطيف، المجلس الاعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة. ص:159-174.

قال مؤلف كتاب “عقائد الأشاعرة” ص: 304:  “أما الإيجي في المواقف فذكر أنها –أي الرؤية- تثبت بالسمع والعقل، وقال: والعمدة مسلك الوجود”. وحقيقة الأمر أن الإيجي ذكر العمدة في الاستدلال العقلي وهو مسلك الوجود، كما ذكر أن العمدة في الاستدلال النقلي هو قوله تعالى: “ربي أرني أنظر إليك”. انظر المواقف، الإيجي، تح: عبد الرحمن عميرة، ط: 1997م، دار الجيل بيروت، 1/158-161.

[7] هو نور الدين أحمد بن محمود بن بكر الصابوني، البخاري الحنفي في الفقه، الماتريدي في العقيدة، صاحب كتاب “الكفاية في الهداية في أصول الدين” (لا يزال مخطوطا وتوجد له نسخة بمكتبة الملك عبد العزيز بالرياض) ومختصره “البداية من الكفاية”. توفي سنة 580هـ. انظر “طبقات الحنفية” للقرشي، 1/124.  

[8] للشريف التلمساني اعتراض على دعوى نفي الحال ضرورة؛ ذلك أن البحث في إثبات الواسطة ونفيها يعد من أغمض المباحث العقلية، ثم يقول التلمساني ردا على الرازي: “إذا فسرت الموجود بما له ثبوت بوجه ما صح انقسامه إلى ما له تقرر استقلالا من خارج، وإلى ما ليس كذلك، والأول عند مثبتي الأحوال هو الموجود، والثاني هو الحال، أو الوجه والاعتبار عند من ينفي الأحوال ويعترف بالعموم العقلي، ولا يردُّه إلى مجرد الألفاظ، فقد أثبتّ الواسطة مع أنك تنفيها”. انظر “شرح معالم أصول الدين للفخر الرازي”، شرف الدين التلمساني، تح: نزار حمادي، دار مكتبة المعارف، بيروت ط الأولى 2011م، ص: 81.

[9] المناظرات، الرازي، ص: 113-114.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق