مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

الممارسة الصوفية والكمالات التحقيقية للعقل المؤيد[1]

د. طارق العلمي

باحث بمركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة 

    ليس يخفى على ذي تحصيل كيف أن هذه الآفات التي تقف دون القرباني في ابتغاء الوصول إلى معرفة الله، تستلزم أن يطلب الوسائل التي تعالجه وتقيه من هذه الآفات في مجال يغني عمله ويحييه، ويسمو به درجات وهو مجال «التحقق بمعاني العمل»، فلزم أن يحل محل «أهل السمع» في مواصلة السير إلى المطلوب من يعد حقائق الألوهية ثابتة لا «بالنظر» و لا «بالسمع» وإنما ب «بالذوق»، وأن يستبدل بالقربان العملي الذي حل محل المقاربة النظرية، تقرُّب متميز عنه عرف باسم «القرب».

    فلما كان هذا النوع الثالث من التقرب هو سير أحث وأرفق إلى معرفة الألوهية، لزم أن تكون روابطه أقوى تقييدا وأكثر تعقيدا من ضوابط القربان التي ذكرنا أنها أشد تركيبا من معايير المقاربة، فبالإضافة إلى انضباط القرب بمبدإ العقلانية النظري، ومبدإ الاشتغال السمعي اللذين سلف تفصيلهما، فإنه ينضبط بمبدإ ثالث، إليه يرجع أساسا الحفظ من آفتي التظاهر والتقليد، ونطلق على هذا المبدإ اسم «مبدإ التحقق الأفضل»، ونصوغه كما يلي:

* مقتضى التحقق أن يخرج المتقرب من التعلق بفرائض العبادة ويبذل الوسع في تطهير النفس، وذلك عن طريق إقامة العبادة بعد أداء فرائضها على الوجه الأفضل مع المقاومة.

    يتبن على أن هذا مبدأ يمكن استنباطه من المقدمة الأولى للعقل المؤيد الذي سبق ذكرها، ويستفاد منه أن التحقق لا يحصل إلا بطريق الإتيان بالنوافل المعززة للفرائض. وقد بينا أن النوافل التي يؤديها المتقرب على طريق الاختيار تقيه التوقف في العمل الشرعي، هذا التوقف الذي من شأنه أن يجر إلى التراجع والنقصان، وإذا ما قوي المتقرب على مواصلة السير إلى مطلوبه الأسمى بفضل هذه الزيادات في الأعمال، أخذت تلابسه أحوال خاصة هي «أحوال المحبة»، وعلى هذا، فالتحقق في جوهره هو «تجربة المحبة»، وتتخذ هذه المحبة وجهين: «وجه محبة المتحقق لله»، و «وجه محبة الله للمتحققين».

أ‌-     إن محبة المتحقق لله تورثه وصف العينية:     

    قلنا بأن العينية هي إدراك ذوات الأشياء بملابستها، وإن إدراك الملابسة غير إدراك الملامسة النظرية بل وغير إدراك الاشتغال بالفرائض وحدها، فيكون إقبال العبد على النوافل موصلا إلى إدراك الملابسة، لأن المتقرب يأخذ في «التعرف» على الأشياء لا من جهة تمييز أوصافها كشأن المقاربة، ولا من جهة الانتفاع بأفعالها كشأن القربان، وإنما من جهة أن هذه الأوصاف والأفعال تنزل منزلة معان وقيم تفتح له باب مزيد التعبد لله، ومزيد إظهار المحبة فيه، إذ لا يرى وصفا ولا فعلا إلا ويجد أنه جهة تستحق أن يتوجه منها إلى الله، فيستشعر روح العبادة في كل شيء.

    وقد أثبتنا من قبل، أن جوانب الشيء التي يقع منها توجه المتقرب إلى الله هي بالذات مظاهر تعين خَلقيتها وتحقق خُلقيتها، وأن مظاهر التعين الخَلقي والتحقق الخُلقي هذه هي العمدة في معنى الذات ومعنى الحقيقة، وعليه، يتبن أن من أدرك الأشياء على مقتضى هذه المظاهر الخَلقية والخُلقية، حصل إدراك الملابسة الذي هو إدراك ذواتها أو حقائقها.   

    ولما كان تبين مظاهر التعين الخَلقي للشيء يؤدي إلى معرفة أوصافه المميزة، وتبين مظاهر التحقق الخلقي يؤدي إلى معرفة أفعاله النافعة، اتضح كذلك أن من أدرك الأشياء بطريق الملابسة، كان أقدر على تمييز أوصافها من المقارب وعلى الانتفاع بأفعالها من القرباني.

    وعلى هذا، يكون المتقرب بالنوافل المتحقق بتجربة المحبة متعرفا على الأشياء بطريق الملابسة العينية، فحق له أن يعتقد وجود كل حقيقة يتعرف عليها في تجربته الحية التي هي تجربة محبة، وحق لمن تلقاها منه أن يحسن الظن به ويعتقد وجودها.

ب‌- إن محبة الله للمتحقق تورثه وصف العبدية:

    فقد ذكرنا أن العبدية هي إدراك التبعية الأصلية بطريق «الخلاص» الذي هو الشعور بالافتقار في الأوصاف الخَلقية والشعور بالاضطراب في الأفعال الخُلقية، فيكون إقبال العبد على النوافل موصلا إلى إدراك التبعية الأصلية، لأنه يأخذ في ترك التبعيات المختلفة للأوصاف والأفعال بما يتولد في نفسه من شعور بشمول المنة الإلهية لها جميعا.

    وقد أثبتنا من قبل أن مسالك المتقرب في التحرر من التبعيات الوصفية هي أسباب التجلي الرزقي الاستجابي لها، وعليه، يتبين أن من أدرك الأوصاف على مقتضى الأسباب الرزقية وأدرك الأفعال على مقتضى الأسباب الاستجابية، حصل له إدراك التبعية الأصلية.

    وبما أن تبين أسباب التجلي الرزقي يؤدي إلى معرفة العبد للأوصاف المخلوق بها، وأن تبين أسباب التجلي الاستجابي يؤدي إلى معرفة الأفعال المأمور بها، اتضح أن من يدرك التبعية الأصلية يكون أقدر على إدراك حقيقة ذاته من غيره، مقاربا كان أو قربانيا.

    على هذا يكون المتقرب بالنوافل الفائز بمحبة الله مدركا للتبعية الأصلية، ومدركا لذاته بواسطة هذه التبعية، ولما كان لا يدرك ذاته إلا بفضل التبعية الأصلية، ثبت أن مرد تعرفه على هذه التبعية هو تعرفها هي له، وليس تعرفه هو عليها، فيكون إذن أولى بوصف «المقرب» منه ب «المتقرب»، فوجب إذ ذاك أن يستسلم للحق بالحال والمقال كلما تعرف له في تجربته الحية التي هي تجربة محبة الله له، ووجب على الغير تصديقه كلما ألقى إليه بمعاني هذه التجربة.

    وقد ذكرنا من قبل كيف أن أهل النظر المجرد أفاضوا في بناء الأدلة لتحصيل المعرفة بالألوهية، وفي تنويع أساليب هذه الأدلة وأشكالها، حتى إن الواحد منهم قد يتقلب بينها متخليا عن بعضها بعد أن كان متمسكا به، وراجعا إلى بعضها بعد أن كان تاركا له، دون أن يحصل قط الإجماع على يقينية دليل واحد. كما أن أهل النظر العملي القرباني، وإن كانوا أوفق في إدراك عدم فائدة الدليل الذي لا يستند إلى الاشتغال بالفرائض في تحصيل اليقين بالألوهية، وفي إدراك قرب الأدلة العملية المبنية على هذه القيم الاشتغالية إلى هذا اليقين من الأدلة النظرية، لأنها تتجه إلى الاستدلال على الأفعال الإلهية، بدل الاستدلال على ذات الله وحقيقته، أما أهل النظر الذوقي الذين التزموا التجربة الحية ودليل المحبة، فقد تبينوا أن الوجود الإلهي الذي تدعي الدلالة النظرية لأهل المقاربة والأدلة العملية لأهل القربان إقامة البرهان عليه، لا يمكن أن يعرف بهذه الأدلة لأنها مفتقرة إلى هذه المعرفة التي تنصب دليلا عليها، وإنما هذا الوجود الصحيح عند أهل الذوق ليس الدليل على وجود الله، وإنما الدليل على وجود العبد، ليس إثبات الربوبية وإنما إظهار العبودية، ليس البحث في أفعال الألوهية وصفاتها وذاتها، وإنما البحث في أفعال العبد وأوصافه وماهيته، هذا البحث هو وحده الكفيل بأن يجدد الإيمان ويخرج الحظوظ من النفس، فيقبل العبد على حقوق ربه إقبال العارف بالله على الله.

    وعليه، فإن تحقق المقرب (أو التحقيق القربي) هو تجربة محبة ذات وجهين: أحدهما المقرب لله التي تؤدي إلى إدراك أعيان الأشياء عن طريق إدراك الذات (أو العينية)، وثانيهما محبة الله للمقرب التي تفضي إلى إدراك الذات عن طريق إدراك التبعية الأصلية (أو العبدية). ولما كان إدراك أهل التحقيق للأعيان متوقفا على إدراك الذات، فقد أطلق عليهم اسم «أهل الباطن»، ولما كان إدراك الذات عندهم متوقفا على الإدراك للتبعية الأصلية، فقد سموا لأجل ذلك ب «أهل الذوق» لكن البعض حملوا هاتين التسميتين على دلالات تخرج بهما عن مقتضاهما، فنسبوا أهل التحقيق إلى «الإغراق في الذاتية» و «الكلف بالغموض» و «معارضة العقل». ونحن نذكر الآن الجوانب التي فات هؤلاء إدراكها من تجربة التحقيق، حتى وقعوا في تحريف الأسامي عن مواضعها والتحامل على أصحابها.  

هـــــــوامــش   

 

[1] طه عبد الرحمن:  العمل الديني وتجديد العقل، ص ص: 157-161. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق