مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات محكمة

“المصادر الأولى في النقد والبلاغة “الدرس الثالث

نتحدث في هذا الدرس عن صحيفة بشر بن المعتمر، وعن ضرورة شرحها، وبيان ما فيها. لأنه قد يقال بأن الناس قد تحدثت كثيرا عن هذه الصحيفة إلى حد أنه لا نحتاج إلى أن نكرر القول فيها، ففيما قيل غُنية. قد يقال هذا. غير أن الرأي عندي أن هذه الصحيفة تحتاج إلى أن تُنشر مستقلة مشروحة. وذلك بأن تؤخذ من بطون الكتب التي أشرنا إليها في الدرس السابق، خاصة من البيان، ومن الموفقيات، وأن تُوازن رواياتها، وأن تُشرح شرحا دقيقا على الطريقة التي كان يشرح بها الشيخ محمود شاكر، رحمه الله تعالى، النصوص ويبين ما فيها، وإلا فإن الناس تحدثت عن أمور هي لاحقة للشرح.

 فهناك من كتب عن الخطاب التواصلي عند بشر، أو عن إشكالية المصطلح في بلاغة الكتابة في هذه الصحيفة، أو عن الأبعاد التداولية فيها، أو عن إرهاصات الدرس البلاغي في صحيفة بشر، أو عن (مسار) الخطاب التواصلي عند بشر، وما إلى ذلك مما يشبه هذه المواضيع والعناوين.

ونحن لا ندفع بأن للدارسين أن يقولوا ما بدا لهم في هذه الصحيفة، ولكن لا بد من شرح سابق على كل دراسة حتى لا يكون كلامنا بعيدا عن مقصود المتكلم الأول، وحتى لا يكون عبارة عن استيحاء أكثر مما هو عبارة  عن فهم دقيق لا يُحَمِّل النص ما لا يتحمله النص. ولنا، بعد الشرح، أن نتحدث عن دراسةٍ تبين أثر هذه الصحيفة في البلاغة العربية، بعد أن نعرف من خلالها، وبموازنتها بما كان يقوله علماء القرن الثاني للهجرة، كيف كانت المعرفة البلاغية على ذلك العهد.

 ماذا نقصد بالشرح؟

إذا أُطلقت كلمة الشرح فهي حقيقة في الأعيان، ولكنها استعارة في المعاني. فالمقصود هنا بالشرح الفسحَ، والكشفَ، والتفسير، و التبيين. ومن ذلك: شرح الله صدره. قال تعالى: ألم نشرح لك صدرك؟ وتقول: شرح الله صدرك. أي: وسعه بالبيان. والأصل في ذلك بسط اللحم.

ثم نُقِلَ البسط من هناك إلى البسط في الكلام. أي: إظهار ما خفي من معناه. فالشارح إنما يتكلم عن الخفي في المعنى، وليس يتكلم عن الظاهر في المعاني مما يدركه كل الناس. والذي يُشْرَحُ له الكلام من الناس طبقات. ويترتب عن ذلك أن يكون للشرح أساليب، وطرق، ومدارس، ومقاصد. ولهذا السبب تجد للكتاب الواحد أكثر من شرح، وأحيانا تجد العالم الواحد يَشرح الكتاب الواحد أكثر من شرح بناء على الذي يُشْرَحُ له الكلام، هل هو مبتدئ في العلم، أم هو متقدم مُنْتَهٍ. فتجد في عناوين الكتب القديمة الشرح الصغير، و الشرح الكبير، والوجيز، والموجز، وقد تجد أحيانا ما يسمونه اختصار شرح و ما أشبه ذلك.

ولا نريد أن نطعن في الأقدمين أو أن  نشك في مناهجهم بزعم أن الشرح منهج قديم، فهو منهج صالح ضروري نحتاجه، ولكن نحتاجه في مرحلة سابقة على التحليل، لا نقف عنده، ولا نعتبره أكثر من مدخل سليم إليه.

فإذا اتفقنا على شرح نص، وعلى بيان ما فيه، وعلى أن لا نَكْذِبَ على العَالِم عندما نتحدث، يمكننا بعد ذلك أن نقبل اختلاف العقول في التحليل، واختلاف المناهج فيه، وأن تكثر أقوال أهل العلم في ذلك.

فإذا أدركتَ هذا فقد أدركتَ سِرَّ قولي بأنني أُفضل لو أن هذه الصحيفةَ نُشِرَت على الطريقة التي ذكرتُ. أي مشروحة منزوعة من البيان والتبين، ومن الموفقيات، ومن العقد، ومن العمدة، ليظهر أثرها جليا في النقد العربي.

فقد لاحظنا أن بعض الرسائل أخفى ما فيها عن الناس أنها موجودةٌ ضمن كتاب آخر، لو جُرِّدت من ذلك الكتاب لعلم الناس ما فيها من علم.

ومن أشهر الأمثلة عن ذلك، رسالة «الاقتناص في الفرق بين الحصر والقصر والاختصاص»، لتقي الدين السبكي (683هــ/ 756هــ). وهي الرسالة التي أوردها ولده بهاء الدين( 719هــ / 773هــ)، في كتابه «عروس الأفراح». فهي رسالة لو أنها أُخذت من هذا الكتاب ونشرت مستقلة لتنبه لها الناس أكثر من تنبههم لها وهي مضمنة في كتاب ضخم ككتاب “عروس الأفراح”. وإن كان هذا لا ينفي أن القدماء أشاروا إليها. أذكر منهم: شهاب الدين الخفاجي المصري الحنفي (ت: 1069 هـ) في حاشيته على تفسير البيضاوي التي سماها: عناية القاضي وكفاية الراضي على تفسير البيضاوي، والجلال السيوطي (ت: 911هــ ) في حاشيته على البيضاوي المسماة بنواهد الأبكار وشوارد الأفكار، وفي كتابه: الإتقان في علوم القرآن، والكشميري الهندي (ت: 1353هـ) في فيض الباري على صحيح البخاري. حيث ذكر هناك بأن الشيخ تقي الدين السبكي صنف في الرد على الحافظ ابن تيمية، رحمه الله تعالى، رسالة سماها: الاقتناص في الفرق بين القصر والاختصاص، وأورد رأي السبكي في أن التقديم لا يفيد القصر بل يفيد الاختصاص، وأن الفرق بين القصر والاختصاص يكمن في أن الاختصاص: اسم لإفادة الشيء بخصوصه، بخلاف القصر فإنه اسم للإثبات والنفي جميعا.

ولسنا هنا للحديث عما ورد في هذه الرسالة، فإنه قد يكون لنا عودة إليها، إن شاء الله تعالى، في غير هذه  الدروس. فنذكر كل هذا وغيره مما ليس هذا محله. لذلك لا نقف هنا عند كل من أشار إلى هذه الرسالة، فقد أشار إليها قوم آخرون، نذكر منهم، مثلا، ابن النجار في شرح الكوكب المنير. ولست أرمي هنا إلى أكثر من التمثيل على مسألة، هي ضرورة طبع بعض الرسائل المتضمَّنة في الكتب الضخمة مستقلة، ومنها صحيفة بشر بن المعتمر.

Science

الدكتور محمد الحافظ الروسي

  • رئيس مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق