مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات محكمة

“المصادر الأولى في النقد والبلاغة “الدرس الرابع

حديثنا عن صحيفة بشر بن المعتمر، وأول ذلك أن نعرف معنى الصحيفة. فالصحيفة في اللغة هي الكتاب، وأيضا الكتابُ الصحيفةُ يُكتب فيها. وَتُجْمَعُ صحيفة على صُحُفٍ، على غير قياس، لأن القياس صحائف. وصار صُحف أشهر وأفصح من صحائف، كما قالوا في جمع سفينة سفن، فكان أفصح من سفائن. وهذا هو الجمع الذي ورد في القرآن الكريم في قوله تعالى:«أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى» [النجم:36-37]. وتطلق الصحيفة على ما هو مكتوب فيها على وجه المجاز المرسل. فإذا قلنا: صحيفة بشر بن المعتمر، فنحن نقصد ما هو مكتوب في هذه الصحيفة. وذلك كما في قوله تعالى: « وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَاب » [ص:16]، أي: ما في قطنا وهو صك الأعمال.

معنى الصَّحَفي والمِصْحَف والتَّصْحِيف في العربية:

الصَّحَفِيُّ في العربية من يخطئ في قراءة الصحيفة.

 والمِصحف مأخوذ في المعنى من أُصْحِف أي جُعِلت فيه الصحف المكتوبة بين الدفتين وجمعت فيه.

والتصحيف الخطأ في الصحيفة بأشباه الحروف، وهذه كلمة مولدة يقولون: تَصَحَّفَ عليه لفظُ كذا. فهذا هو معنى هذه الكلمة.

 وقد يزعم بعض الزاعمين أن لها أصلا في غير العربية، في الحِمْيَرِيَّة والحبشية. وأنها تعني هناك الكتاب والرسالة مطلقا، وأن أصل الكلمة من الحبشية كلمة سريانية. وهو زعم لويس شيخو(1275 ـ 1346 هـ/ 1859 ـ 1927م) في كتابه: «النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية». وليس لويس شيخو ممن يوثق بكلامه، على غزارة علمه، لغلبة التعصب عليه. وفعله ببعض الدواوين من تغيير ألفاظ الشعراء، وإعادة صياغة المعاني، لتوافق العقيدة النصرانية معلوم معروف عند من درس أعمال الرجل. وعلى العموم فإن النصارى العرب لهم اهتمام بهذا الموضوع. ومن ذلك ما نشره في مجلة المجمع العلمي العربي، ما بين سنتي (1948_ 1949م)، أغناطيوس أفرام الأول، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للسريان الأرثدوكس، من بحث عن الألفاظ السريانية في المعاجم العربية. وليس في هذا البحث أن كلمة صحيفة أصلها سرياني.

 وسواء كانت هذه الكلمة ذات أصول في لغات أخرى، أو أن أصلها عربي، فإنها قديمة في العربية. وفي المثل القديم: صحيفة المتلمس.

وقصة المتلمس معروفة لا نطيل الدرس بذكرها، ولكن خلاصتها أن المتلمس كان قد هجا عمرو بن هند، وهجاه أيضا طرفة بن العبد، فكتب لهما إلى عامله بالبحرين كتابين أوهمهما أنه أَمَرَ لهما بجوائز، وهو قد أمر فيهما بقتلهما. فلما وصلا إلى الحيرة، دفع المتلمس كتابه إلى غلام ليقرأه، فإذا فيه: أما بعد، فإذا أتاك المتلمس فاقطع يديه ورجليه، وادفنه حيا. فرمى المتلمس كتابه في نهر الحيرة وهرب إلى الشام، ولم يفعل ذلك طرفة فَقُتِلَ. والقصة معروفة مشهورة في كتب الأمثال، وإليها يشير الفرزدق في بيته:

ألقِ الصَّحيفةَ يا فرزدق لاَ تكن /// نكْداءَ مثل صحيفةِ المتلمِّس

فإذن كلمة صحيفة معروفة عند القدماء، مستعملة عندهم. ومن الصحف المشهورة نذكر صحيفة المدينة، وقد كُتِبَتْ في السنة الأولى للهجرة. وفيها: وإنَّ يثربَ حرامٌ جَوْفُهَا لأهل هذه الصحيفة.

 ومن الصحف المشهورة صحيفة قريش التي كانت كتبتها لمقاطعة النبي صلى الله عليه وسلم ومن أسلم معه، وفي السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي طالب: يا عم إن ربي قد سَلَّطَ الأرَضَةَ على صحيفة قريش فَلَحَسَتْهَا إلا ما كان اسما لله فأبقته. وإن كان في هذا الحديث كلام من جهة صحة سنده.

ومن الصحف المشهورة، صحيفة علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير القرآن الكريم. وهذه من أقدم الروايات التي دُوِّنت عن ابن عباس، رضي الله عنه. وهي من أصح الطرق عنه. وقد نقل هذه الصحيفة البخاري، وابن جرير الطبري، وغيرهما في كتبهم. فهي في غاية الشهرة، حتى قال الإمام أحمد: إن في مصر صحيفة في التفسير عن ابن عباس لو رحل إليها رجل ما كان كثيرا.

 ومن الصحف المشهورة صحيفة علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وصحيفة جابر بن عبد الله، وصحيفة همام بن مُنَبِّه.

فإذا وجدناهم يقولون بعد ذلك: صحيفة بشر بن المعتمر، فإنه مما كان مستعملا عندهم، معروفا، متداولا أن يشار إلى العلم المكتوب بأنه صحيفة، على وجه المجاز المرسل.

Science

الدكتور محمد الحافظ الروسي

  • رئيس مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق