المصادر الأولى في النقد والبلاغة “الدرس الحادي عشر”
نَستنتج من كل ما ذكرناه في شرح العبارات السابقة أمورا منها أن بشرا:
1 ـ كان قد أعد هذه الصحيفة قبل ذلك، وهيأها، ونظر فيها، وحبَّرها، وحسَّنها.
2 ـ وأنه كان قد أعاد فيها النظر زمانا بالمراجعة والتحكيك وإدمان النظر. فإن التحسين، والتحبير، والتنميق، كل أولئك دالٌّ على أنه راجع ما كتبه، وحككه، وأعاد فيه النظر. وأنه لم يكن قد نظر فيه من قريب.
- ـ وأنه قد كتبها بخطه. فإن التحبير يحتمل أن يكون وصفا للخط أيضا.
- ـ وأنه كان شديد الثقة بما عنده، وبما في صحيفته. يظهر هذا في قوله لمخاطَبيه: «أعرضوا عما يقوله السَّكُوني صفحا...».
ثم كان أول كلام بشر في صحيفته أنْ قال: «خُذْ مِنْ نَفْسِكَ سَاعَةَ نَشَاطِكَ، وَفَرَاغِ بَالِكَ، وَإِجَابَتِهَا إِيَّاكَ...».
قوله: «خذ من نفسك» عبارة نادرة، لعلك لا تكاد تجدها في كتاب أدب، ولكنك تجدها في كتب الزهد، وذلك كـَ «كتاب الزهد» لأحمد بن حنبل، في مثل قوله: «ولكن خُذْ من نَفْسِكَ لِدينِك، ومن دِينِكَ لِنَفْسِك، حتى تَسْتَقِيمَ لكَ عَلَى عِبَادَةٍ تَرْضَاهَا».
فأنت ترى أن هذه من عبارات الزهاد لا من عبارات الأدباء، وهي أليق أن تكون في كلامهم، ولعل بشرا لاشتغاله بعلم الكلام، والجدل الديني، ولمعرفته بمثل هذه العبارات، نقلها إلى هنا. والعادة أن يقال: «خذ من غيرك»، لا من نفسك. فأقام النفس، هنا، مقام الغير في وجوب التحيل عليها، وانتظار أوقات تَسَمُّحِهَا، لِاستجلاب ما عندها. وأنا أستعمل عبارة الاستجلاب أخذا مما كان يستعمله حازم -رحمه الله تعالى- في «المنهاج». فهو يستجلب ما عند النفس. والمستعمَلُ في مثل هذا: خذ من الغير. كما في قوله سبحانه وتعالى في سورة التوبة: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) [التوبة:103].
و في قول حسان في شعر له:
خُذْ مِنْهُمُ مَا أَتَى صَفْوًا إِذَا غَضِبُوا //// وَلَا يَكُنْ هَمُّكَ الأَمْرَ الَّذِي مَنَعُوا
ولهذا البيت رواية أخرى، أراها أدخل في الشعرية، وهي الرواية التي فيها:
خُذْ مِنْهُمُ مَا أَتَى صَفْوًا، وَإِنْ مَنَعُوا، //// وَلَا يَكُنْ هَمُّكَ الأَمْرَ الَّذِي مَنَعُوا
لذلك قلت: هذه عبارة نادرة استعملت هنا، أرى أصلها في عبارات الزهاد، إذ هم الذين كانوا يخاطبون النفس هذا الخطاب، وينظرون إليها هذا النظر، لأنهم ينظرون إلى النفس كأنهم انفصلوا عنها.
وقد قال البوصيري -رحمه الله تعالى- في بردته، أو برأته:
وَخَالِفِ النَّفْسَ وَالشَّيْطَانَ وَاعْصِهِمَا ////وَإِنْ هُمَا مَحَضَاكَ النُّصْحَ فَاتَّهِمِ
فالنظر إلى النفس هذا النظر لا تجده في كتب الأدب على حسب علمي.
والنشاط في قوله: «خُذْ مِنْ نَفْسِكَ سَاعَةَ نَشَاطِكَ، وَفَرَاغِ بَالِكَ...»، معروف، وهو ضد الكسل. فمعنى العبارة: ساعة يخف عليك الأمر، وتؤثر فعله.
وإن شئت صياغة العبارة بلغة العصر فلك أن تقول: استغل من نفسك. وإن كنت لا أرى لك استعمال مثل هذه العبارات، فهي ليست عبارة قوية ولا فصيحة، وإنما هي لتقريب المعنى لا غير.
والمقصود بالبال في قوله: «وَفَرَاغِ بَالِكَ» الحال التي تكترث لها. يقال: «مَا بَالَيْتُ بِكَذَا بَالَةً» أي ما اكترثت به. ومنه قوله سبحانه وتعالى: (وَأَصْلَحَ بَالَهُم)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللهِ فَهُوَ أَبْتَر». وهذا كنا وقفنا عنده في شرحنا لكتاب «موجز البلاغة» للشيخ الطاهر ابن عاشور -رحمه الله تعالى-.
فمعنى «كل أمر ذي بال»؛ أي: كل أمر شريف، يُحْتَفَلُ له، ويُهتم به، لا يُبدأ فيه بحمد الله فهو أبتر.
قال:« وَإِجَابَتِهَا إِيَّاكَ». يقصد: تطلب منها جيدَ الكلام فتجيبك. فالإجابة مصدر: أَجَابَ يُجِيبُ، والاسم: الجَابَةُ، بمنزلة الطاعة والطاقة. وفي أمثال العرب: «أَسَاءَ سَمْعًا فَأَسَاءَ إِجَابَةً»، ولذلك قصة. قالوا: «إن غلاما قيل له: أين أَمُّك؟ أي: قَصْدُكَ؟ فسمع: أين أُمُّك؟ فقال: ذهبت تشتري دقيقا. فقيل: أساء سمعا، فأساء إجابة». وقد يقال: «أساء سمعا، فأساء جَابَةً». فهذا معنى قوله: «خُذْ مِنْ نَفْسِكَ سَاعَةَ نَشَاطِكَ، وَفَرَاغِ بَالِكَ، وَإِجَابَتِهَا إِيَّاكَ...».
وفي هذه إشارة إلى مسألة، وهي أن النفس قد تجيب، وقد لا تجيب، وأن الشاعر قد يحسن في حال، ولا يحسن في أخرى.
وهذا كان من مداخل الباقلاني -رحمه الله تعالى- في كتابه «إعجاز القرآن» للكلام عن وجه من وجوه إعجازه، وهو الاستواء. ذلك أن كلام الله تعالى ليس فيه تفاوت، فالتفاوت لا يكون إلا في كلام الآدميين. بمعنى أنك لا تستطيع أن تقول عن سورة من القرآن بأنها أفضل من سورة، أو عن آية هي أحسن من آية. وهذا يكون في كلام المخلوق، إذ تستطيع، مثلا، أن تقول بأن في شعر المتنبي، أو غيره، قصيدةً أفضل من قصيدة، وبيتاً أفضل من بيت.
وقد استشهد على ذلك بقوله سبحانه وتعالى: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا). ثم قال:" فأخبر سبحانه أن كلام الآدمي، إن امتد وقع فيه التفاوت، وبان عليه الاختلال".
وهذا لا يكون في كلام الله عز وجل. فوقوع التفاوت في كلام المخلوقين من دلائل إعجاز القرآن الكريم.
وذلك أن الله سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى ساعة نشاط، ولا إلى فراغ بال، ولا يشغله أمر عن أمر، وليس فيه ضعف المخلوقين. فلذلك لا يوجد تفاوت في كلام الله عز وجل، فهو مستوٍ. وهذا الاستواء من الأدلة القوية على أن هذا الكلام من عند الله عز وجل. لأن كلام النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو أفصح كلام بعد كلام الله عز وجل، يقع فيه تفاوت قليل. لأنه -صلى الله عليه وسلم- بشر، فتقع له أحوالٌ بشريةٌ يظهر أثرها في كلامه. ولو كان القرآن الكريم من عند محمد - صلى الله عليه وسلم- لظهر أثر هذه الأحوال فيه كما ظهر في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم-. فعلمنا بذلك أنه من عند الله عز وجل.
ولست أظن أن مثل هذه الأمور قد غابت عن ذهن متكلمٍ، كصاحب هذه الصحيفة -رحمه الله تعالى-، وهو يقول: «خُذْ مِنْ نَفْسِكَ سَاعَةَ نَشَاطِكَ، وَفَرَاغِ بَالِكَ، وَإِجَابَتِهَا إِيَّاك...»