وحدة الإحياءدراسات وأبحاث

المرأة المغربية بين سلطة التقاليد ونهضة العلم

ترصد هذه المساهمة مختلف الظواهر الاجتماعية التي عرفتها المرأة المغربية خلال فترة الحماية والاستقلال، وذلك من خلال العناصر التالية: أولا: سيادة التصور التقليدي واثره على المرأة. ثانيا: الدعوة إلى تعليم الفتاة بين بادرة محمد بن الحسين الحجوي وسياسة سلطة الحماية. ثالثا: تعليم المرأة والنهوض بأوضاعها بادرة وطنية.

أصبح مسلما لدى المجتمعات الكونية أن الاستثمار البشري في التنمية الشاملة للأوطان هو إحدى بديهيات التطور الاقتصادي ومواكبة الركب الحضاري.

لذلك نجد أن القرآن الكريم اهتم بكينونة الإنسان وآدميته على اعتباره مناط الاستخلاف ومحور عمارة الأرض.
وتجلى الاهتمام الرباني لبني آدم بأن هداه إلى طريق العلم والهداية عبر رسالات النبوات لأجل عمارة راشدة واضحة المعالم مستنيرة السبل والغايات.

هكذا اهتمت الرسالات السماوية بالرصيد البشري وكان أول مخلوق استخلف في الأرض وهدي بالعلم أبو البشر آدم عليه السلام. حيث قال تعالى في حقه: ﴿وعلم ءادم الأسماء كلها﴾.
وعلى هذا النحو كانت غاية الجهد البشري أفرادا، وجماعات، أمما، وحكومات، هو الرقي بالتنمية البشرية في مجتمع المعرفة.

ولعل المغرب هو إحدى الدول العربية الإسلامية التي شهدت تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية، كان أثرها الأكبر على الرأسمال البشري؛ هذا الأخير الذي ظل يتأرجح بين كفة النهوض والنكوص على كافة المستويات.
وظل البناء الاقتصادي والاجتماعي في المغرب وكغيره من الدول العربية رهين بالاتجاهات الفكرية والأيديولوجية السائدة تجاه قضايا المجتمع عامة والمرأة خاصة كعنصر بارز في تحريك عجلة التمنية.

لذا سنحاول من خلال هذا الموضوع أن نرصد مختلف الظواهر الاجتماعية التي عرفتها المرأة المغربية خلال فترة الحماية والاستقلال؛ مساهمة مني في التعريف بوضعيتها آنذاك والتحولات المرحلية التي عرفتها في مرحلة الاستقلال.

أولا: سيادة التصور التقليدي وأثره على المرأة

إن الحديث عن وضعية المرأة المغربية في عهد الحماية لا ينفك ولا ينفصل عن الأوضاع العامة التي عرفتها البلاد آنذاك.
لقد توالت على المغرب في أواسط القرن التاسع عشر أزمات اقتصادية مدمرة نتجت بفعل موقعتي إيسلي (1844) وموقعة تطوان 1860، مما كان له أثره السيئ على الأهالي نتيجة غلاء المعيشة.

ويحكي الناصري[1] أن المغرب عرف في الفترة نفسها كوارث وأوبئة فتاكة، إضافة إلى كارثة المجاعة التي أصابت المغرب سنة 1878، وكثير من الأزمات الاقتصادية التي أدت إلى تراجع اقتصاد المغرب تراجعا لا مثيل له مما أثر على وضعية المجتمع المغربي وجعله في حالة تبعية مالية أجنبية حقيقية. كل هذه العوامل وغيرها مهدت لحماية فرنسا على الجزء الأكبر من المغرب.
فكان لهذه الأزمات الاقتصادية والسياسية المتتالية أثراً اجتماعياً بارزاً على استقرار الأسرة المغربية التي ظلت حبيسة الضعف اللاإرادي على كافة المستويات، مما فجر ينبوعا حقيقيا لتطور الخرافة والعادات والتقاليد المنافية للشريعة الإسلامية، والتي وجدت مرتعا خصبا لتناميها وتغلغلها في الفكر المغربي.

ومن أبرز الكتابات المغربية، في عهد الحماية، التي تؤكد نفوذ التقاليد والعادات والخرافة على فكر معظم المجتمع المغربي رجاله ونسائه نذكر من بينها:

1. “أدب المغاربة وحياتهم الاجتماعية والدينية وبعض خرافاتهم”: لمحمد بخوشة (الناشر المطبعة الاقتصادية، الرباط، مكتبة فاربر الدار البيضاء 1357/1938).
من أهم موضوعات الكتاب:
ـ الفروض والأعياد الاجتماعية.
ـ فضائل ومعايب المغاربة.
ـ خرافات.

2. “وعظ الجمعة” لمحمد الطنجي التطواني. طبعت الخطبة بتطوان سنة (1361ﻫ/1942م). هذا الكتاب الذي قدم له عبد الله كنون الأمين العام لرابطة علماء المغرب آنذاك ومما قاله في هذا التقديم: “وكان مما تناوله بالدرجة الأولى إنكار البدع الشائعة والمحدثات التي ليست من الدين في شيء والحض على العمل بالكتاب والسنة… ونبذ التقليد للأجانب فيما يتعاطون من مفاسد وعادات مخالفة لآداب الشريعة الإسلامية”.

3. “مرآة المساوئ الوقتية”، ويسمى أيضا “السيف المسلول على المعرض عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم” لمحمد بن محمد بن عبد الله الموقت: طبع الكتاب في سنة 1932، مطبعة البابي الحلبي بالقاهرة.
وكما جاء في الكتاب على لسان المؤلف أنه كتاب يتحدث “عن إحداث أحداث وبدع في الشريعة ليس من قياسها ولا سياقها” ص2.
وسرد فيه بالخصوص عوائد وعادات أهل مراكش وما أحدثوه من مخالطة البدع للعقيدة الإسلامية.

4. “إظهار الحقيقة وعلاج الخليقة” لمحمد المكي الناصري (مطبعة النهضة تونس (1343ﻫ/1925م). وهو من أهم الكتب التي كشفت الغطاء عن الفكر الطرقي. وقد لخص الكاتب النتائج المترتبة عن هذا الفكر السائد في الآتي:
“أولها: احتجاب نور الشريعة عن أنظار العالم الإسلامي وراء ستر تقليد من لا علاقة له بالدين.
– ثانيها: شيوع البدع والأحداث ونزولها منزلة أمهات المسائل الدينية.
– ثالثها: استكانة النفوس لتلك البدع والركوع أمامها من العلماء جهلا أو تجاهلا أو تأولا وتقولا من العامة تقليدا لهم.
– رابعها: قعود أهل الإيمان والنظر الصحيح عن بيان حقيقة الدين الإسلامي.
– خامسها: وقوع المسلمين في الحيرة إذا توجب عليهم اعتراض في أمر قامت عليهم حجة العقل في قبحه ظنا منهم أن ما هم عليه هو الدين”. انظر الكتاب ص: 25.

5. “صور من حياتنا الاجتماعية “: لمحمد الخضر الريسوني، وهو عبارة عن مجموعة قصص من صميم الحياة لمحمد الخضر الريسوني (المطبعة الحسنية بتطوان يوم 17 أكتوبر 1953).
يتناول المؤلف في صفحات كتابه صور حقيقية كما قال: “من حياة مجتمعنا أبرزها للناس، وإذ أعرضها عليهم أعرض حقائق صادقة ملموسة، توخيت فيها الصراحة المرة حتى لا أكون كاذبا ولا مرائيا هي صور طبق الأصل لحياة أسر…” حكى فيها ما آل إليه المجتمع المغربي من التردي والنكوص وانهزامه أمام العادات والتقاليد المنافية للمبدأ الإسلامي والإنساني.

6. “في بعض العادات المغربية” لأحمد بن محمد الصبيحي: (مطبعة أندري فاس: (1344ﻫ/1925م).
وكانت الغاية من التأليف كما قال المؤلف: “ما رأيته للعادات من الدخل العظيم في الدلالة على ترقي الناشئة ولاسيما في طور تلاطم أمواج القديم والحديث، والسير في منهاج التمدن والحضارة والسير الحثيث. وإن من العوائد المغربية الحالية ما هو حسن في نفسه ينبغي المحافظة عليه احتفاظا بالقومية، وتمييزا بها بين باقي الشعوب الشرقية والغربية ومنها ما ينبغي تحسينه وتلطيفه وتليينه جريا على سنن الترقي في كل شيء. ومنها أيضا ما ينبغي نبذه بالكلية، وإخراجه من سلك العوائد في فصول يتلو بعضها بعضا، راجيا من إخواني المغاربة أن يمعنوا النظر فيما حررته بشأنها حتى يأخذوا من العوائد بأحسنها”.

غير أنه وعلى الرغم من قلة التأليف في هذه الفترة من تاريخ المغرب، فإن الكتابات في موضوع الخرافة والتقاليد المنافية للدين والذوق كانت من أولويات الأقلام المغربية التي عالجت بموضوعية الأثر السيئ الذي خلفه الفكر الخرافي على الحياة الاجتماعية للبلاد.
لقد شكلت سيادة التقاليد محطات مهمة من الظلم الاجتماعي الذي شمل المرأة حتى ظلت بعيدة عن ينابيع العلم

والمعرفة لسنوات عديدة في ظل فترة الاستعمار الغاشم الذي أوحى عبر بنود معاهدة الحماية 1912 حسن نيته التي استبطنت في الحقيقة سوء النية.
إن فشو التصور التقليدي لدى الكثير من الأسر المغربية شكل عقلية منغلقة أدت إلى حجب الفتاة نحو التوجه إلى المدرسة، مما كان سببا عميقا في تزايد نسبة الأمية في صفوف المرأة.
ذلك أن الخطاب الأبوي كان خطابا سلطويا يرتكز على سيادة الذكور وسلطتهم على الإناث، ونهج سياسة القمع وحجب الأستار عن خروج المرأة واحتكاكها بالعالم الخارجي: )الشارع، المدرسة، السوق(، فتظل الفتاة حبيسة البيت، وظيفتها الرئيسة المساهمة في الإعداد التربوي للإخوة والأخوات الصغار تحت سلطة الأم في انتظار قدوم الزوج الذي يقتلعها من سلطة القمع والتعبير عن الرأي إلى سلطة الخادمة الطائعة للزوج المنتظر. مع الاقتناع الكامل لدى الفتاة أن هذه الممارسات هي قيم لا ينبغي الخروج عنها وإلا كان ذلك عارا ووبالا على حشمة العائلة وخدشا لكرامة الوالدين.

إن هذه العوامل الداخلية النابعة من الثقافة التقليدية لبعض الأسر المغربية كان لها أثر كبير في إبعاد الفتاة عن المدرسة وعالم المعرفة. هذا بالإضافة إلى نفور المغاربة من السياسة التعليمية التي سنتها الإدارة الاستعمارية الفرنسية على المغرب. وفي هذا الصدد يقول الدكتور محمد عابد الجابري “إن الأغلبية الساحقة من أبناء الشعب المغربي بقيت طوال عهد الحماية بدون تعلم، فهو يعود كذلك إلى مقاطعة الشعب المغربي للمدارس التي أنشأتها فرنسا في المغرب”[2].

ثانيا: الدعوة إلى تعليم الفتاة بين بادرة محمد بن الحسن الحجوي وسياسة سلطة الحماية

إن المبادرات المغربية في تأسيس المدرسة العصرية انطلقت آخر أيام السلطان مولاي عبد الحفيظ حين أسندت نيابة الصدارة العظمى في وزارة العلوم والمعارف -التي أحدثت لأول مرة– لمحمد الحجوي ما بين سنة 1912 إلى سنة 1914، ففتحت العديد من المدارس الابتدائية أبوابها بالمدن المغربية، ويقول الحجوي: “أنه بإدخال اللغة العربية والدروس الدينية والقرآن العظيم بها. وبسبب ذلك حصل الإقبال على التعليم وامتلأت المدارس شيئا فشيئا وانتشرت في عموم المملكة حتى البوادي منها. فكان ذلك أول ترق أدبي فكري ناله المغرب”[3].

لقد حاول الحجوي وهو على رأس وزارة المعارف أن ينهج طرق حديثة في التعليم، وتجلى ذلك في خلق مؤسسات ابتدائية حديثة، ودعا أيضا إلى تعليم اللغة الفرنسية خاصة بمدينة فاس، التي أقبل أبناؤها على هذا النوع من التعليم وشجعه الحجوي في إحدى خطاباته قائلا: “لقد سررت كثيرا برغبتكم في تعلم الفرنسية رغم كبر سنكم. إن معرفة اللغة الفرنسية كلغة حية وكلغة للعلوم الحديثة هي الوسيلة الحديثة التي تمكنكم من تبادل أفكاركم مع الأمم المتمدنة. وأطمئنكم أن الدين الإسلامي لا يمنعكم من تعلم اللغات الأجنبية بل يلزمكم بها، فقد تعلم زيد بن ثابت أحد أصحاب النبي صلى الله علبه وسلم وكاتبه، العبرية والآشورية في أيام معدودة تلبية لدعوة نبيه الذي طلب منه أن يتعلم العبرية”.

إن بدايات إصلاح التعليم التي شهدها المغرب في عهد الحماية وتحوله من التعليم في الزوايا والمساجد والكتاتيب على النهج التقليدي إلى المدارس العصرية، صحبه دعوة الفتاة إلى ولوج المدارس وإخراجها من دنيا الانغلاق والتقاليد الظالمة إلى عالم العلوم والمعرفة. فهو أول نداء صريح أعلنه الحجوي في إحدى محاضراته بمعهد الدروس العليا بالمؤتمر الذي انعقد بالرباط سنة 1922. حيث يقول: “لا سبيل لأن تغير أمة معدودة من الأمم الحية إلا بتعميم القراءة والكتابة بين الحواضر والبوادي وتعميم التعليم الابتدائي حتى يصير جل أفرادها رجالا ونساء يقرؤون ويكتبون باللسان العربي الفصيح ليستوي الناس فيما لهم وما عليهم”.

[ويعد الحجوي بذلك أول مدافع عن المرأة وعن حقها في التعليم]. في الوقت الذي كانت تنهج فيه سياسة الحماية الفرنسية، بقيادة ليوطي، التحكم في الإنسان المغربي باتباع أسلوب الهدوء والتدرج البطيء، هذه السياسة التي أقصت بعض الفئات الاجتماعية من دائرة المعرفة والتربية وخاصة الفتيات وأبناء القرى والفئات الضعيفة، فكان التعليم على نهج السياسة الاستعمارية تعليما نخبويا بحجة الحفاظ على تقاليد المجتمع المغربي وعدم كشف حياء الفتاة المغربية[4].

إن دعوة الحجوي إلى تعليم الفتاة صادفت الكثير من العراقل المتمثلة بالأساس في العقلية التقليدية من لدن آباء البنات، وهي عقلية عمت جميع المدن المغربية بما فيها العاصمة العلمية فاس [التي وقفت مواقف ظلت حبيسة الأعراف، التي تنظر إلى المرأة على أنها جزء من متاع الرجل الفاسي ومظهر من مظاهر ثرائه. وتحكي الروايات التاريخية أنه حدث مرة أن تقدم أحد أعيان فاس بطلب لباشا المدينة من أجل إحداث مدرسة فرنسية لبناته فكان الجواب: ” إنه من الأحسن أن أقتل ابنتي بيدي على أن أبعث بها إلى المدرسة”[5].

استطاعت سلطات الحماية في إقناع الأهالي وخاصة الفقيرة منها بإرسال فتياتهن في المرحلة الأولى إلى مراكز التكوين الحرفي، فكان أول معمل حرفي فتح أبوابه في وجه الفتاة انطلق من مدينة سلا، ولقي هذا النوع من التعليم الحرفي النسوي إقبالا واسعا لدى الأوساط الفقيرة.

وعرفت سياسة البطء والهدوء التي سنتها سلطات الحماية -نحو إقناع الأهالي في خروج الفتاة لولوج المدارس الحرفية- طريق النجاح والتطبيق. ثم انتقل الإقناع تدريجيا والسيطرة نسبيا على العقلية المغربية قصد توجه الفتاة إلى المدارس العصرية لكن على منهج سياسة ليوطي التي عرفت كثيرا من التردد والتراجع.

لقد عرف تعليم الفتاة ما بين سنة 1925 وسنة 1934 “تحولات عميقة بالنظر إلى فترة الاهتمام إذا ما قورنت بالحيرة والتردد التي دامت قرابة قرن من الزمن في الجزائر، وتتمثل بالخصوص في تزايد مدارس الفتيات، ففي سنة 1929 كانت هناك ثلاث عشرة مدرسة عمومية للفتيات تضم 1915 فتاة تتوزع إلى ثلاثة أنواع حسب طبيعة التعليم والوسط الاجتماعي: ستة مدارس لبنات الأعيان بفاس ومكناس وآسفي والرباط وسلا ومراكش.

ومدارس النوع الثاني مفتوحة في وجه بنات الأسر الفقيرة بالرباط وسلا ومراكش. ونوع ثالث جمع بين الفئتين، الأعيان والفقراء في كل من الجديدة والصويرة ووجدة وصفرو، بالإضافة إلى مدرستين جديدتين بالدار البيضاء… وفي أكتوبر 1934 أضيفت أربع مدارس جديدة بكل من طنجة وتطوان وفاس الجديد والحاجب.
فضلا عن استقبال كثير من مدارس الفتيات في المغرب الشرقي للفتيات خاصة ببركان وفكيك وتاوريرت. وهكذا بلغ عدد الفتيات المتمدرسات في هذه الحقبة 2992 تلميذة”[6].

بالرغم من النجاح الواسع الذي تحقق على مستوى إنشاء المدارس وانتشارها في العديد من المدن لمغربية، ظلت الرؤية بعيدة عن المطلوب، ألم يقل فولتير أحد رواد الفكر الغربي: “إن تطورات العقل بطيئة وجذور الأفكار القبلية عميقة”؟!

إن ترسخ العادات والتقاليد في فكر المجتمع المغربي انتصر بشكل كبير في المراحل الأولى من دعوة الحجوي إلى تعليم الفتاة. حيث ظلت العقول حبيسة الأفكار القبلية ورهن إشارة العادات المعطلة لأي دعوة نهضوية. كل ذلك بسبب غياب الوعي الثقافي والعلمي وعدم فهم مقاصد الشريعة الإسلامية التي جعلت من تعليم المرأة واجبا شرعيا لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “طلب العلم فريضة على كل مسلم”.

وفي ذلك يقول الحجوي معربا عن هذا النكوص والتأخر: “أنا لا أنكر معكم أن المرأة تأخرت… فأصابها حظها من التأخر أو أكثر من حظها، وليس الذنب على الشريعة، بل على المسلمين حيث أهملوا تعليم المرأة كأنه منكر من الأمور وفجور أو كسل وجهل”[7].

انحصرت دعوة الحجوي وخف ضياؤها، لأنها لم تجد مساندا لها من لدن المجتمع الذي سادته سلطة العادة والاستبداد وأيضا من لدن الفقهاء المحافظين والتقليديين، وكذا عدم مساندة الدعوة من لدن سلطة المخزن المتمثلة في الوزير الأول آنذاك محمد المقري الذي أوقف الحجوي حينما كان يحاضر في موضوع “تعليم الفتاة ومشاركتها في الحياة”. وينقل عبد الله الجراري موقف محمد المقري قائلا: إن الدين الإسلامي لا يساعد على تعليم البنت تعليما يجعلها تشارك الرجل وتزاحمه في الحياة مهنيا، في نفس الوقت وجه سؤالا إلى الشيخ أبي شعيب الدكالي، فما قولك أيها الأستاذ في الموضوع أيجوز هذا أم لا يجوز؟ فأجابه الشيخ بالمنع، وأن تعليم  الفتاة يبلغ بها هذا الحد لا تقره مبادئ الإسلام”[8].

دافع الحجوي عن مشروعه النهضوي تجاه المرأة باستقصاء نصوص الشريعة الإسلامية في الموضوع وإقرار حق المرأة في التعليم، على غرار ما كانت عليه نساء النبي، صلى الله عليه وسلم، وعلى رأسهم عائشة، رضي الله عنها، التي كانت معلمة الرجال والنساء.
واستشهد الحجوي في ذلك بسير النساء زمن النبي، صلى الله عليه وسلم، اللواتي شاركن في بناء الدولة الإسلامية بالكثير من أعمالهن كالبيعة والجهاد والنصرة ونشر مبادئ الدين.
وأن الرسول، صلى الله عليه وسلم، خص النساء بيوم في الأسبوع لتعليمهن أمور دينهن. وعليه فالسيرة النبوية قدوة للمسلمين في كل العصور.

لقد كانت دعوة الحجوي إلى تعليم الفتاة واضحة المقاصد جلية الغايات. وربط تعليمها بأربعة مقاصد كبرى تهدف إلى ما يلي:

1. “أن يرتبط بتكوين الشخصية الدينية للفتاة أي بقراءة ما تيسر من القرآن والقراءة والكتابة والرسم والخط وتعليم ضروريات الدين من عقائد وعبادات ومبادئ النحو والآداب العربية.
2. أن يرتبط بتكوين الشخصية الاجتماعية من تعليم الأخلاق الإسلامية لسمو العواطف وتسهيل حياة الزوج وتدبير المنزل وتعلم فن التربية.
3. أن يتعلق بشخصها من تدبير للصحة والرياضة البدنية لحفظ صحتها وصحة أولادها وتعلم صنعة من الصنائع كالخياطة أو الطرز.
4. تعلم بعض العلوم العملية كقواعد الحساب الأربع ومبادئ العلوم مما له علاقة بالهندسة العملية – التي قد تحتاجها في فن الخياطة والجغرافية والتاريخ، فإذا حصلت الفتاة على هذا القدر من التهذيب أمكنها أن تؤدي وظيفتها وكانت خيرا على أمتها”[9].

ثالثا: تعليم المرأة والنهوض بأوضاعها ضرورة وطنية

إن تطور وعي الشعب المغربي في النهوض بأوضاع الفتاة والمرأة مادامت هي جزء مهم من الرأسمال البشري المغربي، وبالالتفات إلى تحقيق مطالب الحركة الوطنية نحو تعليم الفتاة سينهض الفكر الاجتماعي للأسرة المغربية لأنها مطالبة آنذاك بالدفاع عن حوزة الوطن والمقاومة من أجل تحريره، مما أنضج فكرة الحجوي لدى الكثير من المغاربة، فتحولت من دعوة فردية إلى دعوة وطنية تزعمها محرر البلاد محمد الخامس، رحمه الله، حيث أثمرت هذه الدعوة لدى العقلية المغربية وأسفرت عن قناعات متنورة حلت إشكال سلطة بعض العادات والتقاليد التي اتخذها الاستعمار كذريعة للحفاظ على هوية المغاربة وإنما هي حجة تضمر العداء للمغاربة وعدم فتح فرص موسعة نحو الوعي والنهضة.
فتولد عن النخبة المثقفة بالمغرب حزب كثله العمل الوطني كأول حزب سياسي ظهر في المغرب سنة 1934 والذي سيتفرع عنه فيما بعد حزب الاستقلال سنة 1943، ثم بعد ذلك ظهرت الحركة القومية التي تحولت إلى حزب الشورى والاستقلال سنة 1946.

إن تطور الوعي السياسي لدى المجتمع المغربي نتج عنه تصور واضح نحو القضية الوطنية الكبرى وهي استقلال المغرب، ثم تصورات أخرى كأساليب ودعامات قوية للقضية الوطنية ألا وهي النهوض بالتعليم في بلادنا على اعتبار أنه طريق الحرية والتنمية، لذلك شددت ودعت هذه الأحزاب إلى تعليم الفتاة مثل الذكور، على أن يكون هذا التعليم قائما على أساس الثقافة الإسلامية.

هذا إلى جانب دعوات بعض المفكرين الإصلاحيين مثل عبد الرحمان بن زيدان الذي أراد من الفتاة المغربية أن تقتدي وتحذو حذو بنات القصور السلطانية اللواتي تميزن بالعلم والمعرفة في عهود الدولة العلوية وكن نموذجا نهضويا يقتدى به. وفي هذا الصدد يقول ابن زيدان “فلم توجد بنت شريفة أو مشروفة ولدت بالقصور السلطانية أو أدخلت إليها قبل السابعة من عمرها لا تحسن القراءة والكتابة إلا نادرا وربما وجد في نساء القصر من كانت تقرأ برواية البصري. أما من يحفظ برواية ورش فكثير”[10].

ومن الدعوات البارزة في مجال تعليم الفتاة دعوة محمد بلعربي وزير العدل آنذاك والفقيه المتنور، الذي كان لدعوته أثر قوي في نفوس الأسر وإقناعهم بفتح المجال أمام تعليم المرأة. لقد ألقى محاضرته المشهورة عبر الإذاعة الوطنية يوم ثالث عيد الفطر سنة 1943، وكان لها بالغ الأثر في نفوس الأسر المغربية[11].

ومن الأسباب الداعية لنضوج فكرة تعليم الفتاة المغربية لدى المفكرين المغاربة هو التأثر والاقتداء بحركة النهضة المشرقية من خلال الرحلات العديدة إلى المشرق وكذا الإقبال المتزايد على المؤلفات المشرقية وخاصة منها الداعية إلى النهوض بأوضاع المرأة، وممن تزعموا هذه النهضة علال الفاسي وغيره.
ولم تقتصر دعوة الفتاة إلى التعليم والتخلص من ربقة الجهل والأمية وأغلال التقاليد وهيمنتها على الرجال فقط بل تبنت هذه الدعوة أيضا أول امرأة مغربية مناضلة صدع صوتها بالحق، حين دعت مثيلاتها إلى عالم العلم والمعرفة، وهي السيدة مليكة الفاسي المرأة الوحيدة التي وقعت على وثيقة الاستقلال في 11 يناير.
وفي هذا الصدد تقول “كلما ألقيت نظرة عامة على نساء مغربنا لا أجد إلا جهلا مطبقا عميقا وعوائد وتقاليد ألصقت بالإسلام وتلوث بها وهو منها بريء، وأنا إن خصصت هذا المقال بالكلام عن المرأة فما ذلك إلا لما أراه عليه في الحالة الراهنة من الجمود والانحطاط داعية بذلك إلى انجذابها وانتشالها من ربقة الجهل والأمية والتحدي بها إلى الأخلاق الشريفة وبث الآداب في روحها”[12].

و كان أيضا للقوة السياسية والإرادية في خطاب الأميرة لالَّة عائشة أيضا بطنجة )11 أبريل 1947( له دلالته وسلطته من أجل تحرير العقول من سلطة التقاليد ووهم المغالطات الاجتماعية. حيث امتزج خطاب الأميرة في المطالبة بالحرية والاستقلال بالدعوة إلى تعليم الفتاة تعليما كاملا كأساس لنهضة الوطن[13].
ومن ضمن ما قالته في خطابها السامي الذي يضمن حق الفتاة والمرأة في التعليم “إليكن بنات المغرب أوجه النداء حاثة على التحرر من أغلال الخرافات والأوهام، وعلى التخلص من قيود الخوف والرجعية”.

لقد أبلغت الأميرة لالَّة عائشة رسالة محرر البلاد محمد الخامس في تحرير المرأة من قيود الجهل قائلة: “كان الميدان الاجتماعي أهم الميادين التي انتصرت فيها الشجاعة المولوية على جحافل الخمول والتقاعس والتشبث بأذيال ساقط العادات ومتلاشي الخرافات. فلقد أوحى أرباب الأغراض السيئة والنيات الفاسدة إلى طبقات الأمة المغربية أن المرأة خلقت لتكون فريسة للجهل ومطية للأوهام، فظلت زمنا طويلا تعيش في عالم ضيق بعيدة عن العرفان، جاهلة لكل ما تتوقف عليه حياة الإنسان، تفصلها في عصرها وعصره أحقابا وقرونا، وبين فكرها وفكره سهولا وحزونا. ألف المغاربة تلك الحال، وظنوها كافية لصيانة المرأة وحفظها من الهوان، فما فتئوا يحيطونها بسياج الجهالة ويطفئون دونها أنوار الثقافة.”[14].

لقد أسفرت هذه المحطات المهمة في حياة المغرب والتي عرفت نضالا واسعا لأجل الدفع بقاطرة التنمية عن طريق الدعوات المتكررة وبوسائل مختلفة لأجل تعليم المرأة إلى نتائج يمكن اعتبارها انطلاقة وعي لدى كل الفاعلين، وخاصة لدى الفكر الأسري الذي عاش سنوات مديدة على سلطة التقاليد والأعراف المجحفة. هذا الفكر الأسري وخاصة الأبوي منه الذي ظل وعيه بطيئا لا يرقى إلى متطلبات آثار الغزو الاستعماري مخلفا وراءه تراكمات سلبية على مستوى الذهنية المغربية والثقافة والاقتصاد والدين. كل هذه العوامل تتطلب استراتيجية حقيقية تشرك فيها كل القوى الحية، وكل الرأسمال البشري الوطني نساءه ورجاله لأجل النهوض بأوضاع الوطن.

إن المتأمل في أوضاع المغرب منذ الاستقلال إلى الآن ليجد نفسه حائرا أمام عائق الأمية والجهل الذي صاحب العديد من الأسر المغربية وخاصة المرأة التي لم يتخلص حالها من أوهام الأعراف والتقاليد المجحفة، وكذا البعد عن الفهم المقاصدي للشريعة الإسلامية التي دعت إلى العلم ولم تقصره على الرجال دون النساء. حين قال تعالى في محكم تنزيله: ﴿والمومنون والمومنات بعضهم أولياء بعض، يامرون بالمعروف وينهون عن المنكر﴾ (التوبة: 72). وقال أيضا: ﴿من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مومن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم بأحسن ما كانوا يعملون﴾ (النحل: 97).
فالتاريخ يعيد نفسه لكن بنسب متفاوتة وبأوضاع مغايرة، لما أصبحت الأمية شبحا مخيفا أمام قاطرة التنمية واستطاع ملوك الدولة العلوية في كل مرحلة من مراحل تاريخ المغرب وخاصة بعد الاستقلال النهوض بأوضاع المرأة وفتح أوراش العلم والمعرفة في وجهها. فما عليها إلا أن تعي بدورها اتجاه مجتمعها وتتوجه بكل مصداقية ومسؤولية إلى أوراش العلم والنور لتنهل من ينابيع المعرفة لما يؤهلها لتكون عنصرا فاعلا يساهم في النهوض بأوضاع المجتمع بدءا من الأسرة وانتهاء بالأمة مستنيرة في ذلك بسير الصحابيات وكل النساء الصالحات عبر تاريخ الحضارة الإسلامية.

الهوامش

1.  انظر الاستقصا للناصري ج: 9/ ص119.
2. المثقف العربي وإشكالية النهضة، مجلة الوحدة العدد: 10 المجلس القومي للثقافة العربية.
3. انظر المحاضرة الرباطية في إصلاح تعليم الفتيات بالديار المغربية  لمحمد بن حسن الحجوي: مطبعة النهضة نهج الجزيرة تونس.
4. انظر الخطاب حول التعليم واستراتيجيات السلطة للدكتور الخمار العلمي: منشورات اتحاد كتاب المغرب ط1، 1004. ص176–182.

5. Tharaud.(1930) Fes ou les bourgeois de l’Islam. Plon. P. 241.

6. الخطاب حول التعليم، م، س، ص226.
7. انظر المحاضرة الرباطية في إصلاح تعليم الفتيات بالديار المغربية مطبعة النهضة نهج الجزيرة تونس.
8. من أعلام الفكر المعاصر بالعدوتين الرباط وسلا، مطبعة الأمنية سنة 1971، ص68.
9. الخطاب حول التعلي، م، س، ص251.
10. في القصور السلطانية مجلة المغرب عدد غشت شتنبر 1935.
11. انظر أعلام المغرب لعبد الله الجراري، ص76.
12. حول تعليم الفتاة، مجلة المغرب السنة 3 عدد 2 سنة 1935 ص2.
13. انظر الخطاب نحو تعليم الفتاة، م، س، ص287.
14. خطاب يناير 1947 بطنجة.

دة. سعاد رحائم

أستاذة التعليم العالي بكلية الآداب
عضو المجلس العلمي بالجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق