وحدة الإحياءدراسات عامة

المجتمع الأندلسي من خلال بعض فتاوي أبي إسحاق الشاطبي في القرن الثامن الهجري

لقد مثل فقهاء المذهب المالكي في المجتمع الأندلسي طبقة قوية بفضل السمعة الطيبة التي كانوا يتمتعون بها، وتولى عدد منهم القضاء والفتيا والحسبة والإمامة والخطابة، ومختلف المناصب الدينية...

وظهر من بينهم علماء كبار، ومؤلفون بارزون كان لمؤلفاتهم الصدى الجميل في المشرق والمغرب مثل: مؤلفات ابن عبد البر، وأبي الوليد الباجي، وابن العربي، وابن رشد – الجد والحفيد، وابن خير، وابن عطية، وابن جزي، والشاطبي، وابن عاصم، وغيرهم، فمؤلفات الفقهاء المالكية بالأندلس ساهمت مساهمة كبيرة في إثراء المكتبة الإسلامية.

وأصبحت أمهات كتب الأندلس مصدرا أساسيا يرجع إليها المدرسون، والقضاة، والمفتون، وطلبة العلم...ويستعان بها في فهم الأحكام الشرعية المتعلقة بمختلف مجالات الحياة، وعلى يد الفقهاء عرفت الأندلس ازدهارا علميا كبيرا حيث كثرت المؤلفات في جميع فروع المعرفة، وازدهرت النهضة الأدبية وظهر على الساحة أدباء كبار مثل: ابن عبد ربه، ويحيى الغزال، وابن الفرضي، وابن شكوال، وابن عبد البر، وابن حزم، وأبناء سعيد، والفتح بن خاقان، ولسان الدين بن الخطيب...

لقد كان الفقيه الأندلسي عالما مشاركا في النحو واللغة والبلاغة والأدب والشعر والحساب والفلك، وعلوم القرآن وعلوم الحديث إلى تضلعه في الفقه والأصول... وهذه المشاركة أتاحت للفقيه بالأندلس أن يندمج في قضايا مجتمعه، وأهلته للقيام بمهام متعددة. مما جعله يحتك بمشاكل المجتمع وقضاياه، ويجيب عن أسئلة الناس، ويوجههم للالتزام بمبتدأ الدين، وبانتهاج الأسلوب الإسلامي في السلوك والتصرفات والمعاملات... وهذا مما جعل كتب الفقه والنوازل تبلور الأوضاع الاجتماعية، وتعطي صورة واضحة المعالم عن المجتمع، وعن تطوره، وعن واقعه الاجتماعي والفكري والاقتصادي والعقدي... انطلاقا من القاعدة المعروفة: إن المسلم لا يقدم على عمل حتى يعلم حكم الله فيه. ومن هنا كانت كتب الفقه والنوازل سجلا صادقا عن الحياة الاجتماعية.

ونجد عبر تاريخ الأندلس أمثلة لامعة من كبار الفقهاء الذين كانت لهم الكلمة المسموعة وسط المجتمع الأندلسي، وقد كان الناس وضمنهم الأمراء يحسبون لفتاويهم ألف حساب.

ونقل المؤرخون وكتاب التراجم قضايا كثيرة في هذا الباب، ومن ذلك ما ذكره القاضي عياض في المدارك أن عبد الرحمن الناصر طلب من القاضي أحمد بن بقي بن مخلد أن يفتيه بجواز مبادلة أرض جوار منتهزة بأرض للأمير أحسن وأوسع منها، وجمع القاضي العلماء فأفتوا بعدم الجواز، إلى أن أفتى بجواز ذلك الفقيه محمد بن لبابة اعتمادا على المذهب الحنفي في المسألة... وكانت فتوى ابن لبابة هذه مما أحط بقدره عند العلماء[1].

واستطاع فقهاء الأندلس أن يحافظوا على مكانتهم الرفيعة وسط شرائح المجتمع الأندلسي رغم التغلبات السياسية والتطورات الاجتماعية...وبذلك ظلت الفتاوي الصادرة عن العلماء إلى عهد الشاطبي وما بعده إلى نهاية الوجود الإسلامي بالأندلس؛ ظلت من أهم مصادر التاريخ الاجتماعي والاقتصادي والفكري والعقدي وحتى السياسي في كثير من الأحيان.

الحياة الفكرية على عهد الشاطبي

لقد اهتم ملوك الدولة النصرية بإنشاء المدارس بغرناطة، ويستفاد من ترجمة محمد أبي بكر القاضي ابن عاصم أن دراسة العلوم الإسلامية ظلت نشيطة جدا في العهود المتأخرة من حياة غرناطة، وظل طلبة العلم يزدحمون على الشيوخ في مجالسهم العلمية بالمساجد والمنازل، وكانت حلقات العلم في مواد مختلفة، وتتناول بالدرس أمهات الكتب في مختلف فنون المعرفة من نحو ولغة وبيان وبلاغة وفقه وأصول وتفسير وحديث وقراءات... وبعدما أتى أبو يحيى بن عاصم صاحب التحفة بقائمة طويلة بالعلوم التي كان يتقنها والده والتي كان يسهر على تحصيلها وتدريسها... قال: إن والده كان يتقن صناعة التفسير والتذهيب...[2].

وخصص السلطان أبو عبد الله محمد بن محمد بن يوسف الملقب بالفقيه سلطان غرناطة – 671 – 701 منزلا للفقيه محمد بن أحمد الرقوطي، بعد أن أحضره من مرسيه ليتولى بغرناطة تعليم الطلبة، وكان من جملة ما يدرس بها الطب، وكان السلطان يحضر بعض المجالس العلمي بهذه المدرسة.

ومن أشهر المدارس العلمية بغرناطة المدرسة النصرية التي أصبحت من أشهر المراكز التعليمية بالأندلس، بنيت على عهد أبي الحجاج يوسف الأول – (733–755هـ) باقتراح من الحاجب رضوان النصري صديق ابن الخطيب، وابن الخطيب نوه بشأن هذه المدرسة، وعدها من حسنات صديقه الحاجب رضوان، ونقل المقري في نفح الطيب: 5 – 457 البيات المكتوبة على باب هذه المدرسة، وهي لابن الجياب جاء في مطلعها قوله:

يا طالب العلم هذا بابه فتحا           فادخل شاهد سناه قد لاح ضحى...

ويصادف افتتاح هذه المدرسة عنفوان شباب الشاطبي.

 ولقد قام بالتدريس في هذه المدرسة كبار علماء غرناطة مثل قاسم بن لب حامل لواء التحصيل، ومحمد بن علي الخولاني أستاذ الجماعة، وشيخ النحاة في عصره، ويحيى بن أحمد بن هذيل آخر حملة الفنون العقلية بالأندلس، ومن أساتذتها مجموعة أخرى من المبرزين في العلوم النقلية والعقلية بغرناطة منهم إبراهيم الربيعي التوني (ت: 874هـ) وإبراهيم بن فتوح: 867 وأبو جعفر ابن خاتمة الأنصاري (ت: 770هـ) والفقيه أبو محمد بن جزي الغرناطي: (ت: 757هـ) وشيخ الجماعة فرج بن قاسم بن لب (780هـ) الذي كان عليه مدار الشورى، وإليه المرجع في الفتوى... وغيرهم...[3].

وهذه المدارس كانت لها أوقاف تتفق على تسييرها وكان لبعضها أوقاف كثيرة كالمدرسة النصرية التي كان لأوقافها ناظر خاص، هو محمد بن قاسم الأنصاري وصفه ابن الخطيب في الإحاطة بالتقى والإكثار من تلاوة القرآن.الإحاطة 78 – ج3، وهذه المدرسة كانت آية في الرونق والجمال زخرفت جدرانها بالآيات القرآنية، والأبيات الشعرية... في هذا الجو من النشاط الفكري نشأ وترعرع أبو إسحاق الشاطبي.

إبراهيم أبو إسحاق الشاطبي

نشأ الشاطبي بغرناطة بين (720 – 790هـ) على الأرجح لأن مصادر ترجمته لم تحدد سنة ولادته، وذكرت أنه نشأ وترعرع بغرناطة، وتحدث مترجموه عن شيوخه الغرناطيين وعن جده واجتهاده في طلب العلم...والظاهر أنه لازم غرناطة إلى أن توفي بها سنة: 790هـ.

وعايش الشاطبي أهم فترات الدولة النصرية، وشاهد انتصارات جيوش بني الأحمر، واسترجاع بعض المدن والقرى على عهد محمد الغني بالله – (755 – 793هـ) الذي استطاع أن يسترجع ثغر بطرنة سنة 767هـ والجزيرة الخضراء سنة 770هـ واشبيلية سنة 771هـ وهاجم جيان، بل تمكن من محاصرة قرطبة[4].

وهذه الانتصارات أنعشت الأمل في النفوس وكانت غرناطة قد استقطبت عددا كبيرا من المسلمين الذين سقطت مدنهم وقراهم في يد الأسبان فلجئوا إليها فرارا بدينهم من دار الكفر إلى دار الإسلام، فكثر بالمدينة الصناع والتجار والفلاحون، وازدهرت حلقات العلم، ومدارسه، وكانت بوادر التحضر ظاهرة في عوائد الأندلسيين، وتصرفاتهم...[5].

ولبس الناس الثياب الفاخرة في أحسن زي وأناقة مظهر، يقول ابن الخطيب: "تبصرهم في المساجد أيام الجمع كأنهم الأزهار المفتحة في البطاح الكريمة تحت الأهوية المعتدلة... وغالى بعض الناس في الترف ولاحظ ابن الخطيب فشو الغناء حتى في الدكاكين التي تجمع كثيرا من الأحداث، وتفنن الناس في "الزينة"، يقول ابن الخطيب: "تنافسن في الذهبيات والديباجيات والتماجن في أشكال الحلي إلى غاية بعيدة".

ووصف لباس الرجال بأنه من الملف الملون في الشتاء ومن الكتان والحرير والقطن في الصيف، والعمائم تقل في زي أهل هذه الحضرة إلا ما شذ من شيوخهم وقضاتهم وعلمائهم، والجند المغربي منهم... إلى أن قال: وأعيادهم حسنة مائلة إلى الاقتصاد...[6].

وبعد مضي فترة يسيرة من الزمن تغيرت أحوال الناس عما كانت عليه أيام ابن الخطيب الذي توفي سنة: 776هـ وعجز بيت المال عن القيام بما كان يقوم به من التجهيزات والمنشآت وعجزت الطاقة المالية عن تلبية حاجات الناس بسبب ما كان يتطلبه الاستعداد للحرب ومواجهة العدو المتربص من أموال ودعي الأهالي لبناء أسوار الحصون والمدن، وهو أمر راجع في الأصل إلى بيت المال، واختلف الفقهاء في توظيف ذلك على الناس وفيما يأتي سنجد فتوى للشاطبي في هذا الموضوع، وعمد بعضهم لتزوير العملة، ومزج ذهبها بالنحاس، وهو ما أشار إليه ابن عاصم في شرح تحفة والده.

واتجه كثير من الناس إلى النشاط البحري وإجارة السفن وهذا مما تحدث عنه ابن عاصم السالف الذكر كذلك، واخذ الناس يتجرون مع العدو، وهذا موضوع إحدى فتاوي الشاطبي، رحمه الله، واتجه الناس للبيع والشراء فيما كانوا ينتزهون عنه سابقا، وهذا موضوع إحدى فتاويه أيضا، وهي تطلب بيان موقف الشرع من صنع الأعضاء من الشمع، ومال بعض الناس إلى الكسل والتهاون في العمل، وهذا مما جعل الشاطبي يدعو الناس إلى العمل ويشجعهم عليه، ونقل ابن الأزرق عنه أنه كان يقول: "كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بين عامل في سوق، وعامل في أرضه، ومسافر يبتغي فضل الله، وهم القدوة لمن سواهم ولم يكونوا يتحاشون من ذلك، ولا يلحقهم فيه كسل، وكان الغنى من مقاصدهم، والتكسب من شأنهم، وعلى صحة ذلك اتفق العلماء..."[7].

الشاطبي والفتوى

يلاحظ الدارس لفتاوي الإمام الشاطبي، رحمه الله، أنها من النوع الذي يتجه إلى تغيير مسار، وإلى إشاعة إصلاح جذري يستهدف الحفاظ على الثوابت الأساسية للشريعة الإسلامية. فاغلبها حوار مع العلماء والفقهاء لتصحيح بعض القضايا الاجتهادية، أو لتقويم اعوجاج، أو انتقاد أنواع من السلوك حاد أصحابه عن الجادة، وعن الخط القويم، أو تذكير بالمقاصد الأساسية للشريعة الإسلامية... فتاوي الشاطبي تصب في هذا الاتجاه أكثر منها فتاوي تهتم بالجزئيات المختلفة. والقضايا المتنوعة... لأن الإمام الشاطبي كان يترك الإجابة عن ذلك للفقهاء الآخرين، ولا يتدخل هو إلا عندما يلاحظ انحرافا بينا تخشى عواقبه...

والشاطبي منذ البداية رسم لنفسه الخط الذي يسير فيه، وفتاويه تسير وفق الخط الذي رسمه لنفسه والذي يتمثل في فهم النصوص الشرعية على أساس إدراك أهداف الشارع ومقاصده، حتى لا تتميع الأمور، ويقع البعد عن الثوابت والمعالم الأساسية للشرع. ففتاوي الشاطبي تستهدف بالدرجة الأولى الإصلاح الجذري، إذ كان يرى أن مجتمعه في أمس الحاجة إليه، وبذلك نستطيع أن نقول أن فتاويه، فتاوي مصلح اجتماعي قبل أن تكون فتاوي فقيه، يجيب عن النوازل بالرجوع إلى أقوال المتأخرين...

فتاوي الشاطبي تعتمد الأصول من الكتاب الكريم، والسنة الصحيحة، واجتهادات السلف الصالح، ولا تقنع بكل تأويل أو اجتهاد غير سليم أو فهم قاصر...بل هي فتاو تستسقي من المصادر الأصيلة ومن مقاصد الشرع وأهدافه وغاياته...

ولا نبعد إذا قلنا: إنها نماذج تطبيقية لمنهجه في إدراك مقاصد الشريعة، فهي لا تتميز بكثرتها، بل بمنهجها في تحليل الواقع، وبجعل الجواب في النازلة ينسجم انسجاما كليا مع نفاذ بصيرة الرجل وعمق إدراكه لأسرار التشريع.

ومن خلال قراءة الموافقات يتبين أن الشاطبي، رحمه الله، وضع منهجا قويما للفتوى والإفتاء، واشترط شروطا في المفتي. ويستفاد منه في هذا الباب، أن المفتي لا ينبغي أن يصدر فتواه إلا وهو ملتزم بما يفتي به يعطي المثل من نفسه أولا، فلا يفتي بما لا يطمئن إليه، ولا بما يتحرج هو من فعله، وعلى المفتي أن لا يحمل الناس على الشطط والشدة، أو الانحلال والتهاون، لأن مقصود الشارع من المكلف الحمل على الوسط من غير إفراط ولا تفريط، فإذا خرج عن ذلك خرج عن المذهب الوسط، وبذلك يكون مذموما عند العلماء الراسخين...لأن العنت والحرج يؤديان إلى بغض الدين، والانحلال مظنة أتباع الهوى والشهوة، وذلك مهلك، وعلى هذا يكون الميل إلى الرخص في الفتيا بإطلاق، مضادا للمشي على التوسط، كما أن الميل إلى التشديد مضاد له أيضا..."[8].

ولخص القاضي أبو عبد الله محمد بن الأزرق الغرناطي (ت: 896هـ) كلام الشاطبي هذا، وهو يتحدث عن خطة الفتيا ضمن الخطط الدينية فقال: قال الشيخ أبو إسحاق الشاطبي: المفتي البالغ ذروة الدرجة، هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهب الشدة ولا يميل بهم لي طرف الانحلال، ثم أطال في شرح هذا القول[9].

ونقل ابن الأزرق عن شيخ شيوخه الشاطبي عدة قواعد أصولية في كثير من أبواب كتابه (بدائع السلك) ويظهر من نقوله عنه أنه كان من المعجبين به، ويبدو كذلك أنه ممن تقيد بمذهبه في الفتوى حسب ما يستنتج من بعض فتاويه في المعيار (11: 111) كفتواه في موضوع هدايا اليهود لجيرانهم من المسلمين بمناسبة أعيادهم الدينية، وجاء في هذه الفتوى أن كثيرا من جهلة المسلمين يقبل ذلك منهم"

وذكر ابن الأزرق في المسألة الرابعة، وهو يتحدث عن خطة الإفتاء: أن المفتي الذي يصدره الإمام دون تعرف ما عند غيره فيه... قال الشيخ الإمام أبو إسحاق الشاطبي عن مثل هذا المفتي: "هو فقيه نفسه، والناظر لها، فإن رأى نفسه أهلا لذلك عمل عليه إذا كان من أهل الاجتهاد..."والشاطبي هنا يوقظ ضمير هذا المفتي ويكله إلى نفسه، ويختم قوله، بأنه على صدره أن ينظر غيره المتصف بأوصاف العلماء من التقى والورع، وإن لم يكن من أهل الاجتهاد...[10].

فالشاطبي هنا يعطي الأهمية الكبيرة للتقوى والورع، ويراهما ضروريين لمن يتولى النظر في أمور الناس. ومن ذلك الإفتاء.

وينقل ابن الأزرق كذلك انتقاد الشاطبي لمحمد بن يحيى ابن لبابة الذي أفتى لعبد الرحمن الناصر بجواز المعاوضة في أرض محبسة على المرضى بجوار منتزه بقرطبة... قال الشاطبي: "وشأن مثل هذا لا يحل لوجهين الخ[11].

وذكر القاضي عياض قصة ابن لبابة بتوسع[12] وقد سبقت الإشارة إلى ذلك. وكانت فتاوي الشاطبي تختلف عن فتاوي شيوخه وأمثالهم من المفتين والفقهاء...

ولقي من أجل ذلك صعوبات ومضايقات... ويشير إلى ذلك فيقول: "...وقع علي من الإنكار ما وقع، مع ما هدى الله إليه وله الحمد، ولم أزل أتتبع البدع التي نبه عليها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وحذر منها وبين أنها ضلالة وخروج عن الجادة....[13].

ويقول: "فتردد النظر بين أن اتبع السنة على شرط مخالفة ما اعتاد الناس، فلا بد من حصول نحو مما حصل لمخالفي العوائد، لاسيما إذا ادعى أهلها أن ما هم عليه هو السنة، لا سواها...وبين أن أتَّبعهم على شرط مخالفة السنة والسلف الصالح، فأدخل تحت ترجمة الضلال عائذا بالله من ذلك...فرأيت الهلاك في اتباع السنة هو النجاة، وأن الناس لن يغنوا عني من الله شيئا، فأخذت في ذلك على حكم التدريج في بعض الأمور، فقامت علي القيامة وتواترت علي الملامة وفوق إلي العتاب سهامه، ونسبت إلي البدعة والضلالة وأنزلت منزلة أهل الغباوة والجهالة..." [14].

وهكذا يتضح أن الرد على أصحاب البدع في المجتمع الأندلسي لم يكن من الشيء الهين،  فالشاطبي، رحمه الله، تعرض للمحن والمشقة، ووجهت إليه كثير من التهم التي يقول عنها: "وتارة نسبت إلي الرفض وبغض الصحابة رضي الله عنهم.

وتارة أضيف إلي القول بجواز القيام على الأئمة... وتارة أحمل على التزام الحرج، والتصنع في الدين، وإنما حملهم على ذلك إني التزمت في الفتيا الحمل على مشهور المذهب لا أتعداه، وهم يتعدونه ويفتون بما يسهل على السائل، ويوافق هواه وإن كان شاذا في المذهب الملتزم أو في غيره. وتارة نسبت إلي معاداة أولياء الله، وسبب ذلك أني عاديت بعض المبتدعين المخالفين للسنة، المنتصبين بزعمهم لهداية الخلق، وتكلمت للمجهور على جملة من أحوال هؤلاء الذين نسبوا أنفسهم إلى الصوفية ولم يشتبهوا بهم...وتارة إلى مخالفة السنة والجماعة...[15]".

فالشاطبي، رحمه الله، يصور بهذا الكلام ما كان يعانيه من خصومه الذين تفننوا في إلصاق التهم به، وفي إذايته... كل ذلك ليظلوا منساقين مع أهوائهم، وشهواتهم...

وذكر ابن الأزرق أن الشاطبي كان يشترط شروطا للاستعانة على تغيير المنكر منها:

  1. صحة القصد.
  2. عدم جدوى النصح لوحده.
  3. غلبة الظن أنه يزول برفع أمره.
  4. المرفوع إليه لا يغيره بمنكر آخر.
  5. ذاكر المنكر ينبغي أن يكون علمه يقينا لا بظن أو تهمة[16].

وجاء في ترجمته في النيل: أنه تكلم مع كثير من الأئمة في مشكلات المسائل، من شيوخه وغيرهم: كالقباب وقاضي الجماعة الفشتالي، والإمام ابن عرفة والولي الكبير ابن عباد... جرى له معهم أبحاث ومراجعات أجلت عن ظهوره فيها، وقوة عارضته وإمامته... وله أبحاث جليلة في التصوف، وله فتاو كثيرة... [17].

وما ألزم به الشاطبي نفسه من الصراحة في القول، والبعد عن المداهنة. جعله يحظى بكثير من التقدير والتنويه من طرف بعض علماء عصره ومن بعدهم.

نجد صدى ذلك عند الذين ترجموا له أو تحدثوا عن عمله أو منهجه أو عن أسلوبه في الدعوة والإصلاح... فالذين تحدثوا عنه نوهوا به غاية التنويه، بل نجد بعضهم ألف كتابا كاملا في الانتصار له، والرد على خصومه، لقد أورد الشيخ أحمد بابا السوداني في النيل أن الفقيه العلامة محمد بن محمد أبا يحيى ابن عاصم الغرناطي الشهيد من جملة تآليفه جزء كبير من الانتصار لشيخه الإمام الشاطبي والرد على شيخه الإمام أبي سعيد ابن لب... في غاية النبل والجودة[18].

وذكر الشيخ أحمد بابا: أن الشاطبي يلقب عند علماء عصره: "بناصر السنة"[19]. هذا ولقد توزعت فتاوي الإمام أبي إسحاق الشاطبي بين كتب النوازل وكتب الفقه وكتب الطبقات، وغيرها...

والجزء الأكبر منها متعلق بمسائل فقه العبادات بالدرجة الأولى، لأن الخلاف حول مسائل محددة منها كان يشغل بال الناس بالأندلس.

ويلاحظ الدارس أن المجتمع الغرناطي في القرن الثامن الهجري عرف خلافات حادة بين الفقهاء حول مسائل العبادة، فمن الفقهاء من يبيح بعضها، ومنهم من يكرهه أو يرى منعه، وهم ما بين متشدد ومتساهل، وهذا مما جعل الناس يستفتون في النازلة الواحدة عددا من الفقهاء والمفتين...

ونرى الشاطبي، رحمه الله، يفتي في بعض الأحيان بما يخالف فتاوي شيوخه وأضرابه من الفقهاء في هذه المسائل الحساسة من مسائل العبادة.

ونلاحظ أن موضوعا آخر كثرت حوله الفتاوي وهو موضوع الأحوال الشخصية، من زواج وطلاق، والخلاف حول متاع البيع بين الزوجين، أو بين ورثة أحدهما...

وهذا النوع من الفتاوي نتعرف منه على أثاث البيت، وثياب النساء وحليهن وما كان يستعمل من ذلك. ثم بعد هذا تأتي الفتاوي المتعلقة بالمعاملات وهي فتاو لها دلالتها فيما يتعلق بأحوال المجتمع وتعطي صورا واضحة عما كان الناس عليه في حياتهم اليومية وأحوالهم المعاشية من تجارة وفلاحة وصناعة ووظائف دينية وغيرها...

والعادات التي تعودها الناس بالأندلس وألصقوها بالدين شغلت حيزا وافرا من فتاوي الشاطبي، وقد أظهر فيها شدة وصرامة في محاربة البدع.

وقد اعتمدت في النماذج المتحدث عنها من فتاوي الشاطبي على كتاب "فتاوي الإمام الشاطبي"[20] وعلى المعيار للونشريسي الذي نجد به مجموعة هامة من فتاويه، وقمت بمراجعة كل فتوى في مظانها للتأكد والمقارنة، ووجدت بعض فتاويه في مظان لم يشر إليها جامع الفتاوي، من ذلك ما وجدته بكتاب بدائع السلك في طبائع الملك لابن الأزرق، وهي وإن لم تكن فتاوي بالسؤال والجواب، فهي مما كان يفتي به الشاطبي، ويدرجه ضمن كتاباته وآرائه.

ودعاني البحث في فتاوي الإمام الشاطبي إلى تتبع ما جاء عن الرجل في مصادر ومراجع مختلفة ابتداء من كتبه: الاعتصام، والموافقات، والإفادات والإنشادات، وما جاء عنه في النيل، والنفح، وأزهار الرياض، وبدائع السلك، والمعيار، ودرة الحجال، وشجرة النور، والفكر السامي، والأبحاث السامية، وفهرس الفهارس، والعلام، وغيرها...

وما كتب عنه في الفترات الخيرة كنظريات المقاصد عنده، وأبحاث أندلسية... مع الرجوع إلى بعض المجلات...

نماذج من فتاوي الشاطبي

  1. فتوى حول تنازع الزوجة مع الورثة في الشوار، وتدخل ضمن المشاكل الزوجية، وهي مشاكل عادية تقع في كل مجتمع.

والذي يستفاد من فتوى الشاطبي في هذا الباب أن شوار المرأة كانت له قيمة في المجتمع الغرناطي، ويحتوي على ثياب نفيسة، وألبسة ذات اعتبار، ويستفاد منها أيضا أن الزوج أحيانا كان يجهز بيت الزوجية من ماله، مما هو خارج عن صداق المرأة... فالمستفتي يسأل: هل ما في البيت من أثاث وما فيه مما يخص النساء من لباس بعد موت الزوج هل هو للمرأة وحدها، أم للورثة نصيب فيه؟.[21]

  1. فتوى أخرى في نفس الموضوع عن زوجة رجل تاجر في الثياب ادعت زوجته أن ما في البيت من الثياب هو لها.

ويؤكد الشاطبي في الفتوى الأولى ، وفي الثانية، أن على الزوجتين إثبات ذلك ببينة[22]. ومن فتاوي المعاوضات تتعلق بالزيادة في البضاعة بعد أن يقول صاحبها للدلال: بعها.

والدلال: مأخوذ من الدلالة، فهو دليل التجار على مكان البضاعة، ويعرف أرباب الصنائع بالتجار، هذا هو أصل الكلمة، والدلال في العرف: هو الصائح على السلعة ليبيعها بالمزايدة، والمدن الإسلامية كانت بها عدة أسواق، وبكل سوق دلالون... وكان بعض هؤلاء الدلالين بعد أن يستقر البيع على أحد المزايدين، يزين في البضاعة لشخص آخر قصد أن يزيد الثمن. فالسؤال هو: هل يصح ذلك أم لا؟ ويذكر الشاطبي أن ذلك جائز إذا لم تصل السلعة إلى المشتري[23].

وهناك فتوى أخرى يسأل صاحبها: هل يباح لأهل الأندلس بيع الأشياء التي منع العلماء من بيعها من أهل الحرب كالسلاح وغيره لكونهم محتاجين إلى النصارى في أشياء أخرى من المأكول والملبوس وغير ذلك...يؤكد الشاطبي في هذه الفتوى أنه لا فرق بين أهل الأندلس وغيرهم من أرض الإسلام[24].

وفي نفس الفتوى جاء السؤال هل ينزل الشمع منزلة ما ذكر؟ فإن قلت بالمنع من بيعه منهم، فهل يصح بيعه لعطار يبيعه لهم. وإن قلت بالترك فهل هو على سبيل الفرض أو الندب؟ وتصريح الشاطبي بأن ما يجري على الجزيرة يجري على غيرها من بلاد الإسلام نستشف منه أن أهل الأندلس كانوا يشعرون في هذه الفترة وهم محاطون بالأخطار من كل جهة، أن وضعهم يختلف عن البلاد الإسلامية الأخرى، يقول الشاطبي: "وما عللتم به من حاجاتنا إليهم فليس بموجب لتسويغ البيع منهم، وأما بيع الشمع من العطار فالأمر فيه خفيف، لأنه لا يبيعه من أحد بعينه...[25].

ويستفاد من هذه الفتوى أن العلاقات التجارية بين المسلمين والنصارى كانت قائمة في مواد مختلفة، والسؤال يدل على ذلك. وإنما يريد صاحبه أن يتأكد ليعرف ما يباح بيعه و مالا يباح، وفتاوي البيوع تدل على أن المنتجات المحلية من الزيت، والزيتون، والجبن، والشمع... كان بيع ذلك متداولا بين الناس بكثرة.

ويستفاد من فتوى أخرى أن الناس كانوا يتعاملون بالدراهم الفضية، وبالقراريط التي هي أجزاء من الدرهم، وجاء السؤال هل يجوز الرد بالقراريط على ما تبقى من الدرهم الفضي مع أن المشرع يشترط في ذلك أن يكون وزنا بوزن، وجاءت فتوى الشاطبي هنا معتمدة على فهم القباب (ت: 779هـ) ومعترضة على ابن علاق*، الذي كان يجيز ذلك للضرورة، سواء اتحد الوزن أو لم يتحد[26].

ومن فتاوي الشاطبي: فتوى تتعلق بالزعفران، والزعفران الأندلسي من أجود أنواع الزعفران، وكان الناس يستعملونه في الطهي لأنه يعطي للأكل نكهة مستحبة، ومدحه أطباء المسلمين – ومنهم ابن الأزرق في تسهيل المنافع – وقالوا: إنه يبعث على السرور، وأن شمه يبهج النفس، وهو مسهل للهضم، ويستعمل مغلاه في تهدئة آلام المعدة. ويستعمل في حالة التهاب المفاصل بعد غليه في الماء، وينصح للحوامل بعدم الإكثار منه، وبخاصة في الشهور الأولى من الحمل، وهو مدر للطمث... والسؤال: هل الأجزاء السفلى البيضاء من الزعفران يعد تركها فيه غشا أم لا؟ والشاطبي لا يرى ذلك غشا لأنه شيء يسير، وهو من أصله"[27].

ومن فتاوي الشاطبي فتوى تتعلق بلقط الزيتون بجزء منه، أو بزيته.

والأراضي الغرناطية يكثر فيها الزيتون، ونجد عددا من الفتاوي تتعلق بهذا الموضوع. والشاطبي يشترط في الأجر ألا يكون مجهولا فإن كان كذلك فلا يصح.

ومن الفتاوي فتوى تتعلق بالشركة في تربية دود الحرير[28].

عرفت الأندلس تربية دود الحرير في وقت مبكر، والشاطبي في هذه الفتوى يحيل على فتوى أصبغ ابن محمد من فقهاء القرن الثالث الهجري، والسؤال عن علف الدود من التوت وعن آلات تحتاجها العملية لإنتاج الحرير، وتربية دوده. وصناعة الحرير من الأشياء التي انتقلت مع الغرناطيين إلى مدينة شفشاون، وكان الأهالي بهذه المدينة يعتنون بتربية دود الحرير ويصنعون منه الجدائل، وكانت التجارة فيه قائمة بين شفشاون وفاس حيث كان ينسج هناك.

ولقد تحدث الحسن بن محمد الوزان عن صناعة الحرير في بعض جهات المغرب، يقول الوزان وهو يتحدث عن خميس مطغرة غرب فاس على15 ميلا منها: منذ أن قدم أهل غرناطة، وأقام بعضهم في هذه المدينة تمت زراعة كثير من أشجار التوت الأبيض للانتفاع بها في تربية دود الحرير، لأن الغرناطيين من كبار تجار الحرير كما زرعوا قصب السكر[29]... ويذكر مارمول كاربخال: أن خميس مطغرة واقع على الطريق بين فاس ومراكش وأن هذه المدينة كانت آهلة بالغرناطيين الذين غادروا غرناطة[30].

ومن الفتاوي فتوى تتعلق بصناعة الجبن والسؤال هل يجوز خلط الألبان ثم اقتسام الجبن بعد ذلك. وأفتى الشاطبي  بعدم الجواز لأن نسبة الجبن في اللبن غير متساوية، والمزابنة منهي عنها، ثم رجع عن هذه الفتوى واعتمد قول ابن رشد بان ذلك جائز للضرورة[31].

ومن الفتاوي فتوى تتعلق بإرث المرتد. وتعتبر هذه الفتوى من أهم فتاوي الشاطبي لأنها تتضمن فوائد جمة، منها: أن الأحوال في مملكة غرناطة كانت تدعو بعض الناس للارتداد عن دينهم، لأن تضييق النصارى على المسلمين كان مستمرا وكان سكان الأطراف يلاقون عنتا ومشقة من جيرانهم النصارى، فكان بعضهم – وإن كان قليلا – يضطر للارتداد عن دينه، وهذا مما تتحدث عنه هذه الفتوى التي جاء فيها: بأن أحدهم ارتد في حياة أبيه، ثم لما مات أبوه وعلم بموته قال: إن صح إرثه من أبيه فإنه يرجع إلى الإسلام، ويؤكد السائل أن أهل موضعه راغبون في رجوعه إلى دينه خوفا من أن تنتشر العدوى...ويظهر أنه في هذه الآونة كان النصارى يعاملون المرتدين معاملة خاصة تشجيعا لهم على الارتداد، وإلا لما كان الخوف من العدوى.

والشاطبي، رحمه الله، أفتى بأنه لاحق له في الإرث؛ لأن المال يخرج عن ملك الميت بمجرد موته، سواء قسم أولم يقسم، وبعدما قرر هذا، أخذ يرغب في أن يعطيه الورثة مقدار ما كان سيرثه، أو ما يقرب منه، أما إن كانوا يتامى، أو شحت نفوسهم فيندب لأهل الموضع اصطناعه لما يخافون من عواقب التمادي على ارتداده، فإن لم يفعلوا فيعطى من الزكاة بقدر ميراثه أو ما يقرب من ذلك، لأن من مصاريفها: المؤلفة قلوبهم، أو يعطى من بيت المال.

فالشاطبي راغب في أن ينقذ هذا المرتد، ويحبذ ذلك ويرشد إلى سبله. وفي هذه الفتوى جاء اعتراف الشاطبي بأنه مقلد لمذهب مالك، ويفتي بالمشهور المعمول به؛ جاء ذلك في معرض رده على السائل الذي يلتمس من المفتي أن يفتيه، ولو على قول ضعيف أو خارج عن المذهب.

يقول الشاطبي: أما نقل مذاهب فقهاء الأمصار سوى مذهب مالك والفتوى بها بالنسبة إلينا فهو أشد؛ (أي أشد من الفتوى بالقول الضعيف) لأنها مذاهب يذكر لنا منها أطراف في مسائل الخلاف، لم نتفقه فيها، ولا رأينا من يتفقه فيها، ولا من عرف أصولها، ولا من دل على معانيها، ولا حصل قواعدها التي تبنى عليها، فنحن والعوام فيها سواء فكما أنه لا يحل للعامي الذي لم يقرأ كتابا، ولم يسمع فقها أن يأخذ كتب الفقه فيقرأها لنفسه، ويفتي بها بما حصل عليه من علمه، كذلك من لم يتفقه في غير مذهب مالك وإن كان إماما في مذهب مالك[32].

ومن فتاوي الشاطبي فتوى تتعلق بتصوير الشماعين للأيدي وبعض الأعضاء البشرية، جاء في المعيار: "وسئل الأستاذ أبو إسحاق الشاطبي عن الأيادي التي يصنعها الشماعون من الشمع والفنايد، وما يصنع من العجين هل ذلك جائز أم داخل تحت الوعيد الذي ورد في المصورين؟[33].

فأجاب: "وقفت على سؤالكم المكتوب فوق، وظاهر كلام الشراح للحديث أن الوعيد المذكور في الأحاديث في شأن المصورين إنما هو كان فيما كان تصويره كاملا على حكاية الحيوان بجميع أعضائه الظاهرة، وأن تصوير بعض الأعضاء على الانفراد ليس بداخل تحت الوعيد المذكور، حتى إن عياضا حكى عن بعض العلماء، أن رأس الصورة إذا قطع جاز الانتفاع بباقيها، وقد جاء في بعض الأحاديث ما يؤيد هذا القول. فخرج أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتاني جبريل فقال لي أتيتك البارحة، فلم يمنعني أن أكون دخلت إلا أنه كان على الباب تماثيل، وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل، وكان في البيت كلب، فمر برأس التمثال الذي في البيت يقطع، فيصير كهيئة الشجرة، ومر بالستر فليقطع، فتجعل منه وسادتين منبوذتين يوطآن، ومر بالكلب فليخرج، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم[34] الحديث. فموضع الشاهد قوله: فَمُرْ برأس التمثال يقطع فيصير كهيئة الشجرة، ومعلوم أنه لا يصير كهيئة الشجرة إلا من بعض الوجوه؛ لأن أشكال سائر الأعضاء باقية على هيئتها. فشكل عنصر واحد كاليد أولى أن يصير كهيئة الشجرة أو الخشبة، فجائز من باب أولى إن كانت أيدي الفائد كأيدي الشمع في تحديق الصنعة، وإن كانت كالخمسات المبيعة في الأسواق، فليس فيها من صور الحيوان شيء يعتد به، فهذا أولى بالجواز، إلا أن هناك أمرا ينبغي النظر فيه، فإنه يخشى في استعمال أيدي الشمع أن يكون من باب الإسراف المكروه. إن كانت الأيادي ذات قدر، ويخشى في استعمالها من العجين أن يكون من باب اللعب بنعمة الله تعالى، والاستخفاف بها. وهو مظنة وعرضة لزوالها. إن أحكمت الأيدي كإحكام الشمع، فإن لم يكن كذلك فالأمر أخف"[35].

والفتوى تفيد أن بعض المسلمين بالأندلس كانوا يصورون بعض الأعضاء البشرية من الشمع والحلوى، والعجين، ويتاجرون فيها، وأن الخمسات كانت تباع في الأسواق، وجاء السؤال ليعلم حكم الشرع في هذا النوع من التجارة. ونلاحظ أن الشاطبي يعتمد في هذه الفتوى على الحديث، ومنه يستنبط الحكم، ويستدل به على ما قاله القاضي عياض رحمه الله.

ومن فتاوي الشاطبي فتوى تتعلق بتزيين الأضاحي وتعليقها جاء في المعيار: "وسئل، رحمه الله، عما يفعله الناس اليوم بأضاحيهم بعد الذبح من التزيين والتعليق، هل له مدخل في الشريعة أم لا؟ فإن لم يكن له مدخل وفعل الإنسان ذلك بقصد إدخال السرور على عياله وأولاده من غير مفاخرة ولا مباهاة، هي يباح له ذلك أم لا؟

فأجاب: الحمد لله، لا أذكر في هذه المسألة نصا عن أحد، ولكن المقاصد أرواح الأعمال، فمن زين أضحيته وعلقها أو لم يعلقها وقصد بذلك المباهاة والافتخار فبئس القصد، لأن الأضحية عبادة لا تحتمل هذا، وإن لم يقصد إلا ما هو جائز أن يقصد فيها فلا حرج والله اعلم"[36].

والفتوى كما نلاحظ تتحدث عما كان يفعله الناس بالأندلس في القرن الثامن الهجري من الاحتفاء بالأضاحي بعد ذبحها يوم عيد الأضحى، حيث كانوا يزينونها ويعلقونها... وما تزال بعض الأسر في تطوان تفعل شيئا من ذلك، تسربت إليهم هذه العادة من الأندلسيين الذين سكنوا المدينة.

ونلاحظ من خلال هذه النماذج من فتاوي الشاطبي أنه يؤكد على المقاصد ويقول: "إن المقاصد هي أرواح الأعمال".

وهذه النماذج المقدمة من فتاوي الشاطبي على قلتها تعطي صورة عن بعض الملامح من المجتمع الأندلسي في القرن الثامن الهجري.

والموضوع جدير بالدراسة والبحث، ولعل المتتبع لهذا النوع من الفتاوي يستطيع أن يخرج بصورة كاملة عن الواقع الاجتماعي لحياة المسلمين بالأندلس.

(انظر العدد 3 من مجلة الإحياء)

الهوامش

  1. انظر المدارك للقاضي عياض ترجمة ابن لبابة، 6/87.
  2. نيل الابتهاج: 289.
  3. تاريخ التعليم بالأندلس للدكتور ع: الحميد عيسى 388.
  4. نهاية الأندلس للأستاذ عبد الله عنان، ط 2 ص 112.
  5. الملحمة البدرية لابن الخطيب، ص 41.
  6. المصدر نفسه، ص 38.
  7. بدائع السلك في طبائع الملك لبن الأزرق،2 ص861.
  8. الموافقات، ج4/256 المطبعة الرحمانية بمصر، ط1.
  9. بدائع السلك...1/245 لابن الزرق.
  10. بدائع السلك: 1/250 – 251.
  11. المصدر نفسه: 1/247 – 248.
  12. المدارك: 6/87 وما بعدها.
  13. الاعتصام: 13.
  14. الاعتصام: 11.
  15. الاعتصام، 1/11.
  16. بدائع السلك: 2/568.
  17. نيل الابتهاج: 49/50.
  18. نيل الابتهاج:285.
  19. المصدر نفسه: 290.
  20. جمع الأستاذ محمد أبي الأجفان، مطبعة الكواكب تونس: 1987.
  21. المعيار نوازل النكاح، ج3/209.
  22. المصدر نفسه، ج5/214.
  23. المصدر نفسه، ج5/220.
  24. المعيار: 5/213.
  25. المصدر نفسه.
  26. المعيار، نوازل المعاوضات، 5/23.

*. محمد بن علي الغرناطي إمام مشهور تولى قضاء الجماعة بغرناطة له شرح على مختصر ابن الحاجب، وعلى فرائض ابن الشاط (ت: 806هـ).

  1. المعيار: 5/26 في البيوع والمعاوضات.
  2. المعيار: 5/59.
  3. وصف افريقيا) للحسن بن محمد الوزان الترجمة العربية عن جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية: 1399هـ بالرياض.
  4. (إفريقيا) لمرمول كاربخال ج: 2/142.
  5. المعيار، 5/215.
  6. المعيار، 9/27/229.
  7. المصدر نفسه ج11/110.
  8. الحديث كما قال: في سنن أبي داود، ج4/74/75، بل في سائر كتب السنن وفي صحيح مسلم، يذكره المحدثون في كتاب اللباس، باب الصور.
  9. المعيار: ج/11/110.
  10. نوازل الجامع بالمعيار، ج/11/115.
Science
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق