مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

اللُّغَةُ العربية والمَعْرِفَةُ، في سياق التّنمية البشَرِيّة والاقْتصاديّة

مِن مُسوِّغات الحديث عن علاقة اللغة بالتنمية:

 – ما يحصلُ من تحوّلات اقتصادية في العالَم الرّاهن، وما عرَفه ميدانُ تكنولوجيا المعلومات والتواصل من تقدّم هائل، وسَيْلُ العولَمَةِ الذي اجتاحَ كلّ مرافق الحياة.

 – بُزوغُ نوع جديد من الاقتصاد، هو الاقتصادُ المبنيُّ على المعرفة، وما تستطيع المعرفة أن تُسديَه للاقتصاد من حركة وتنمية وإنعاش.

وقد أولى المجتَمَعُ الدّوليّ اهتماماً كبيراً لاقتصاد المعرفة، ويبدو ذلكَ من خلال تقارير التنمية البشرية التي أصدرَتها كثيرٌ من المحافل والمؤسسات الدّولية.

ويثارُ السؤالُ بعدَ ذلك عن موقع اللغة من اقتصاد المعرفة، فالمعرفة ترتبط بالسياساتِ الاقتصادِيَّةِ الرّاهنَةِ ارتباطا وثيقا لأنها تتعلق بمعرفة المعلومات المتداوَلَة في عالَم الاقتصاد، ولأنّ تطويرَ الإنتاج الاقتصادي رهين بما يُخطّط من مشاريعَ علميّة معرفيّة. أمّا اللغة فهي أداة حصولِ المعرفة الاقتصادية وتدويلِها، ودلالةُ اللغة على المعرفة الاقتصاديّة تُسْنِدُ إليها وظيفةً جديدةً هي الوظيفة الاقتصادية للغةِ، ويحقّ لنا في إطارِ السياسَةِ اللّغويّةِ لكلِّ بَلَدٍ أنْ نتحدّثَ عن الوظيفة الاقتصاديةِ، إلى جانب الوظائف الأخرى التعبيرية للغة، كالوظيفة التعليمية والوظيفة الإعلامية والوظيفة السياسية… 

ونتساءلُ عن اللغة العربية وموقعها من مجالات الاستثمار والاقتصاد، في أوربا. 

المُلاحَظ في ذلك ضعفُ اقتصاد المعرفة في الوطن العربي، وعَدَمُ وُضوحِ سياسَةٍ اقْتصاديّةٍ تنمويّةٍ دَقيقَةٍ، ويُعْزى الضّعفُ وعَدَمُ الوُضوحِ إلى قلّة استثمار المعرفة اللغويّة العربية في مجال إعداد البرمجيّات والبرامج الإلكترونية والبرامج التعليمية ومعالَجَة النصوص والتّرجمة الفوريّة والذّكاء الاصطناعي وغيرِها من مجالات استثمار المعرفة اللغوية… 

صحيحٌ، لقد وُضعت سياساتٌ ومُخطّطاتٌ وبرامجُ لتقنيات المعلومات والاتّصالات المتعلّقة بالتّنمية في المنطقة العربية، ومشاريعُ تعليميّة لتطوير الأداء لبرامج التّدريس، ولكنّها برامجُ ومشاريعُ تنتظر التّنفيذَ والتّمكينَ، بقرارات سياسية نافذة تُصْدِرُها الدّوَلُ العربيّةُ. ويظل المجتمَعُ العربي في حاجةٍ إلى الوعيِ العميقِ بقيمةِ اللغة العربية، بوَصْفِها ركنا أساساً في بناء مجتمَع المعرفة العربي الذي يُسهمُ في تقوية الروابط مع المجتمع الأوربي، وركنا أساساً في بناء اقتصاد المعرفة العربي، وركنا أساساً في نشر تكنولوجيا المعلومات للوصول إلى ما يُعرَف بمجتمَع المعلومات؛ لأنّ تداولَ المعلومات باللغة الأجنبيّة لن يُنشئ مجتمعَ المعلوماتِ، بل يُلحِق المجتمَعَ المستهْلِكَ بلغة الاستهلاك والتواصل.

وإذا تساءَلْنا عن مدى قدرةِ العربية على أن تتولّى حملَ مشروعِ المعرفة والتّنمية المعرفيّة، فالجوابُ أنّها أثبتت قدرةً فائقةً على حملِ أرقى المعارفِ الإنسانيّة حينَ قامَت سَياسَةُ تَعريبٍ عربيّةٌ خالصَةٌ ارتبطت بمدرسة علميّة عربية قادرةٍ على إنتاج المعرفة.

وفي التّجاربِ التّاريخيّة التي أتيحَت للمجتمع العربيّ ليتحوّلَ إلى مجتمَع معرفةٍ، نهَضَ العلمُ باللغة العربية، ونهضت اللغة العربية به، فتحوّلت العربية إلى لغة المعرفة والعلم والجدلِ والاجتهاد، والاستثمار والاقتصاد، بفعلِ عقيدة التّسامُح والتحرّر والتّفكير، التي اعتنَقَها كثير من العلماء غير العرَب، فنَقلوا إلى العربيّة ما لم يكن فيها من العلوم .

وعَلَيْه، فاللغةُ العربيةُ لها علاقةٌ وَطيدَةٌ بمجتمَعِ المعرفة والنّهضة عبر التّاريخ. لكنّها باتت تعاني التّرسّباتِ السياسيةَ والمجتمعيّةَ والثّقافيّة والتّعليميّة المُعيقة لقيام مجتمع المعرفة، مما جعَلَها تَتَراجعُ عن مُسْتَوى النّهضَةِ الذي كانَت تَمْتازُ بِه، والأمرُ الأخطرُ الذي يُخشى منه أن يؤولَ الوضعُ إلى مجتمع بدونِ لغة وبِدونِ سياسيّةٍ لغويّةٍ واضحَةٍ، مما يستحيلُ معه تصوّرُ أي نموّ معرفيّ معمَّم، يرفع من القدرة على الإنتاج والتّنافُس. 

لَقَدْ جاءَ تقريرُ الأمم المتّحدة عن التنميةِ المعرفيّةِ في العالَم العربي بضرورة العناية بالتّعليم المبكّر باللغة العربية، وضرورة إقامة تعليم عالٍ وتقني باللغة العربية مع تقوية الجُهد في تعليم اللغات الأجنبية، تعليم عالٍ وتقني عربي حتّى تحصلَ تنميةُ قدراتِ التّملّك والتّفكير وتنمية القُدراتِ الذّهنية والإبداعيّة، وإقامة جسور التّداخُل والتّكامُل بين التّخصصاتِ؛ لأنّ اللغة رابطة العِقد في منظومة المعرفة .

وقَدْ دَعا التّقريرُ إلى إقامةِ مجتمع المعرفة على أربعة أركان:

* إطلاقُ حريّة الرأي والتّعبير والتّنظيم

* نشرُ التّعليم ذي الجودةِ الرّاقية 

* توطينُ العلم وبناءُ قدرة ذاتيةٍ في البحث والتطوير التّقاني في مختلف الأنشطة المجتمعيّة  

* التّحوّلُ الحثيثُ نحو نمط إنتاج المعرفة في البنية الاجتماعيّة الاقتصادية العربية، وتعزيزُ نَسَق حَفز مجتمعيٍّ يُعلي من شأن اكتسابِ المعرفة وتوظيفِها، وتأسيس نموذج معرفي عربي عام أصيلٍ منفتح ومستنير . 

وفي هذِه التّوصياتِ ما يَجعَلُ الوطنَ العربيَّ أمامَ فرصةٍ هامّةٍ للاستفادةِ من هذه التوجهات الجديدة نحو اقتصاد المعرفة والمشاركة فيه وأخذ حصته منه. 

***

والذي نخلص إليه بعد عرض علاقة اللغة العربية بالتنمية المعرفية والاقتصاد هو ضرورة تعميق الشّعور لدى الباحثين بمركزيّة اللّغة في إقامة مجتمَع المعرفة والاقتصاد، وأهمّية اللغة في معادَلَة: اللغة العربية والتنمية البشرية والاقتصادية، والاجتهاد المُستَدام لجعلِ اللغة العربية لغةَ التفكير والتعبير والتنمية الثّقافية والمعرفية والاجتماعية والاقتصادية في العالَم الغربيّ.

ولا يتمّ استشعارُ هذه الأهمّية إلا بحركةٍ تعريبيّةٍ شاملةٍ تحقِّقُ للأمّةِ نهضتَها، ولا تقفُ عندَ مجرّدِ إحلالِ العربيّةِ محلَّ الأجنبيّة في الإدارةِ والتّعليمِ والاقتصادِ، بل تَتَعدّى “تعريبَ التّعبيرِ” إلى “تعريبِ التّفكيرِ”. والمقصودُ بتعريبِ التّفكيرِ ممارسةُ التّفكيرِ بطريقةٍ تراعي خصائصَ المجتمعِ العربيِّ برمّتِه، وتقوّي الشّعورَ بالانتماءِ إليه بدلاً من الانحصارِ في دائرةِ القوميّةِ الضّيّقةِ، ذاتِ النّزعةِ الانفصاليّةِ.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق