مركز الدراسات القرآنيةشذور

الله تعالى كما عرف بذاته العلية في آية الكرسي

إن الإنسان عاجز عن إدراك حقيقة الله تعالى وجوهره؛ فمعرفة الإنسان كنه الله وكيونته فوق طاقة مداركه وقواه العقلية؛ لأن الله جل علاه ليس كمثله شيء، وهو خالق كل شيء، والإنسان من مخلوقاته، والمخلوق لا يستطيع أن يدرك حقيقة خالقه.

 وبما أن الإنسان مكلف بالإيمان بخالقه الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، فإن الله تبارك وتعالى تفضل بالتعريف بنفسه لعباده بالقدر الذي تستوعبه عقولهم وتعقله ألبابهم، وذلك ببيان أسمائه وصفاته وأفعاله التي ترسخ في نفسهم العقيدة الصحيحة والإيمان القوي بهذا الإله العظيم المستحق لإفراده بالعبادة دون سواه مما يُعبَد من المخلوقات التي لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا، بل أن تنفع غيرها؛ لأنه هو الخالق ودونه مخلوق، وهو الأول بلا ابتداء وآخر بلا انتهاء، وهو المدبر الحكيم لما خلق، وهو الملك المهيمن الخبير العزيز الجبار.

 وقد عرف الله تعالى بنفسه في العديد من المواطن في كتابه العزيز، ومنها الآية العظيمة المفعمة بالدلالات الجليلة، والمعاني الإيمانية الواضحة، وهي آية الكرسي من سورة البقرة.

قال الله تعالى: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [البقرة: 255].

وهذه الآية (آية الكرسي) لها شأن عظيم، فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  «يا أبا المُنْذِرِ، أتَدْرِي أيُّ آيَةٍ مِن كِتابِ اللهِ معكَ أعْظَمُ؟ قالَ: قُلتُ: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ. قالَ: يا أبا المُنْذِرِ أتَدْرِي أيُّ آيَةٍ مِن كِتابِ اللهِ معكَ أعْظَمُ؟ قالَ: قُلتُ: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [البقرة: 255]. قالَ: فَضَرَبَ في صَدْرِي، وقالَ: واللَّهِ لِيَهْنِكَ العِلْمُ أبا المُنْذِرِ».

وعظمة آية الكرسي وأفضالها مستمدة من معانيها التوحيدية الجليلة ومقاصدها الإيمانية السامية المتمثلة في ترسيخ الإيمان بالله تعالى والتعريف بأسمائه الحسنى وصفاته العلى.

وقد ابتدأ الله في التعريف بذاته العلية بذكر اسمه الأعظم  ﴿اللَّهُ﴾  الذي هو اسم علم لذاته القدسية الذي لم يتسم به أحد غيره.

ــ ﴿ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ﴾

يتضمن هذا الجزء أعظم صفة لله تعالى وهي الألوهية الحقة، فالله هو الإله الحق الذي يستحق العبودية والخضوع التام؛ لأنه هو خالق كل شيء والقادر على كل شيء، وكل شيء تحت تصرفه وسلطته وإرادته ومشيئته، وكل المخلوقات خاضعة له طوعا أو كرها، وكل ما أُله وعُبد سواه فهو باطل، وعبادته فاسدة، وسيتبرأ ممن ألهه وعبده. قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ ۚ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ ۖ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ﴾ [يونس: 28]، وقال تعالى: ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا ۚ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)﴾ [مريم: 81، 82]، وقال تعالى: ﴿وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ﴾ [الأحقاف: 6]، وقال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَٰؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ ۖ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ ۖ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)﴾ [سبأ: 40، 41].

ــ ﴿ٱلحَيُّ ٱلقَيُّومُ﴾:

وصف الله تعالى نفسه بصفتين جليلتين:

«الحي»؛ أي المتصف بالحياة التي تناقض الموت والفناء. وحياة الله تعالى تفارق حياة المخلوقين التي حصلت بعد العدم وتنتهي بالموت، وأما حياة الله تبارك وتعالى فهي حياة أزلية لا مبدأ لها ولم تُسبق بالعدم، وأبدية مستمرة لا يعقبها موت وفناء؛ لأن حياة الله تعالى حياة ذاتية غير ممنوحة كحياة المخلوقات التي وهبهم الله تعالى إياها ليحيوا بها ويعيشون مدة محددة للابتلاء والاختبار ﴿ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَوٰةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ﴾ [الملك: 2]، ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الكهف: 7].

 «القيوم» القائم بذاته، والقائم بجميع أمور خلقه، المدبر لها، المتحكم والمتصرف فيها بالإيجاد والإفناء وغيرها من أنواع التصرفات والأعمال والأفعال وفق حكمته ومشيئته؛ ولذا فإن صفة القيوم جامعة لجميع صفات أفعاله.

ــ  ﴿لَا تَأخُذُهُۥ سِنَة وَلَا نَوم﴾:

فالله تعالى وصف نفسه بأنه لا يعتريه ما يعتري الإنسان من النعاس والنوم، وهذا نفي عن الله تعالى ما يصيب بني آدام من أوصاف النقصان كالتعب والإرهاق والملل وغير ذلك من العوارض التي تستلزم الراحة بالسنة والنوم وغيرها مما يُحتاج إليه لتجديد الطاقة، فالله تعالى متصف بكمال قدرته وقوته وشدته لا يشوبه أي وهن وضعف ونقصان.

ــ  ﴿لَّهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرضِ﴾:

ومن تجليات قيومية الله تعالى واقتداره على تدبير خلقه أنه المالك للسماوات والأرض وما فيهن يدبرها بحكمته وعلمه وقدرته وعنايته، بلا كلل ولا ملل، ولا يشاركه في ذلك أحد، وهو غني عن الشركاء، فهو رب العالمين ومالكها.

ــ  ﴿مَن ذَا ٱلَّذِي يَشفَعُ عِندَهُۥ إِلَّا بِإِذنِهِ ﴾:

ومن كمال ملكه وقيوميته ألا أحد قادر على أن يفعل أمرا دون إذنه؛ كالشفاعة التي لا يتجاسر أحد أن يشفع في أحد مهما بلغت رتبته وسمت منزلته؛ كالأنبياء والرسل إلا بإذن الله وإرادته وأمره بذلك لمن اصطفاه من خلقه كنبينا محمد ﷺ. قال تعالى: ﴿مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ﴾ [يونس: 3].

ــ  ﴿يَعلَمُ مَا بَينَ أَيدِيهِم وَمَا خَلفَهُم﴾:

ومن صفاته تعالى الأزلية القائمة بذاته تعالى: العلم المطلق المحيط بكل شيء باطن و ظاهر، غير مسبوق بجهل، وغير مستفاد من الأشياء، فهو عالم بكل مخلوقاته المختلفة وبجميع أمورها وشؤونها وأحوالها وصفاتها وجميع الأخبار عنها، ماضيا وحاضرا ومستقبلا، فلا تخفى عنه خافية  ولا يعزب عنه مثقال ذرة؛ لأنه خالق العالم وما فيه بسمائه وأرضه وعلوه وسفله وبره وبحره. وعلم الله تعالى مطلق محيط بكل شيء.

ــ ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيء مِّن عِلمِهِۦ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾:

إذا كان الله تعالى هو العالم المتصف بالعلم التام المطلق، فهو في الوقت نفسه هو المعلم لمخلوقاته، وهو مُطلعُهُم على ما يشاء من علمه، من عالم الغيب والشهادة، فلا أحد يقدر على إدراك أمر إلا بمشيئة الله تعالى وتوفيقه وتسخيره، ﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [البقرة: 32]، لأنه عز وجل مصدر العلم والمعرفة، وعلمه تام محيص شامل، وعلم غيره محدود ناقص، والواجب على الإنسان أن يطلب علم ما ينفعه من الله تعالى؛ فاللهم علمنا ما ينفعنا وزدنا علما.

ــ  ﴿وَسِعَ كُرسِيُّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرضَ﴾:

تأتي هذه الجملة  لتؤكد ما سبق من سعة علمه تعالى، وسعة سلطانه المقررة بالجزء الموالي ﴿وَلَا يَ‍ُٔودُهُۥ حِفظُهُمَا﴾، فسلطانه يعم السموات والأرض، ولم يخرج شيء عن سيطرته وحكمه وتدبيره، فكل شيء خاضع لمشيئته وحكمته وقوته وقهره.

ــ  ﴿وَلَا يَ‍ُٔودُهُۥ حِفظُهُمَا﴾:

فالله خالق السماوات والأرض وما فيها المسيطر عليها بسلطته المطلقة لا يشق عليه رعايتها وحفظها، ولا يعسر عليه تدبيرها وتسييرها، ولا يحدث فيها شيء خارج إرادته ودون إذنه، فإذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون فبيده ملكوت كل شيء.

ــ  ﴿وَهُوَ ٱلعَلِيُّ ٱلعَظِيمُ﴾:

وقد ختمت هذه الآية الكريمة بذكر صفتين لله تعالى شاملتين لكل معاني الصفات السابقة، وهما صفة: “العلي” و “العظيم”، فبكل الصفات المذكورة كان الله عليا فوق كل شيء من خلقه لا يصل درجته أحد، ولا يشبهه ولا يماثله أحد، وهو مترفع عن كل عيب ونقصان، وهو فوق مخلوقاته المسيطر المهيمن عليها، الذي يتصرف فيها كيف ما شاء، لأنه “عظيم” ذو الجلال والمهابة والتقديس والفخامة، وهو الإله الواحد الحي القيوم الرب المالك القادر المقتدر القاهر العليم الخبير الحكيم.

ولهذه المعاني العظيمة الجليلة التي تحتوي عليها آية الكرسي كانت أعظم آية في كتاب الله تعالى؛ لأنها تعرفنا بالله تعالى المنفرد بالألوهية المستحق لإفراده بالعبادة دون سواه ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ، الحي الباقي القائم بجميع أمور خلقه ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ الرب المالك ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ المتصف بكل صفات الكمال الخالي من أي نقص وعيب ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ العالم الذي يحيط بكل شيء علما جليه وخفيه ظاهره وباطنه كليه وجزئيه كبيره وصغيره فلا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ واحد في سلطانه وتدبيره وقوته وجبروته، العلي العظيم  ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ[البقرة: 255].

والحاصل أن آية الكرسي لهي سيدة آيات القرآن لما تتضمنه من توحيد خالص لله تعالى في أسمائه وصفاته وأفعاله وألوهيته، وسعة ملكه وعلمه، وقوة سلطانه وعلو شأنه وعظمة جاهه مع إثبات الله تعالى ما يليق بجنابه من التبجيل والتعظيم والتقديس.

Science

د. مصطفى اليربوعي

باحث بمركز الدراسات القرآنية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق