مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات عامة

الكسب عند السادة الاشاعرة 6

محمد كرماط 

باحث متخصص في العقيدة الأشعرية

 

الفرق بين الجبر المتوسط  والجبر المحض

من التقرير السالف لمذهب الجبرية يتبين خطأ من غمز مذهب الأشاعرة بالجبر المحض ،إذ إن الجبر المتوسط المعترف به في مذهب الأشاعرة، بمعنى الجبر بالواسطة أعني أن الإنسان غير مجبور في أفعاله مباشرة بل مختار فيها، وإنما يسري الجبر إلى أفعاله بواسطة كونه مضطرا في اختياره بما أن واسطة الجبر هو الاختيار. فهذه الواسطة لا تشبه الوسائط الأخرى فمنها يسري الجبر إلى الفعل ، ومنها أيضا يصح أن يعد الفعل اختياريا لأن الفعل المستند إلى الاختيار يستحق أن يقال عنه أنه فعل اختياري. والذي جعل مسؤولية العباد ومكلفيتهم معقولة وجعل مسألة القضاء والقدر أحجية وأغلوطة،كون واسطة الجبر هو الاختيار فبهذا الكسب ظهرت الاختيارية في الفعل. وخفي الجبر بحيث لا يزول خفاؤه حتى بعدما فهم، إذ بعد ذلك أيضا يبقى اقتران الفعل بالاختيار واستناده إليه محفوظا ولو أثر الجبر في الفعل بلا واسطة أو كانت الواسطة بين الجبر والفعل غير الاختيار لما خفي الجبر لهذا الحد، ولم يحتفظ الفعل باختياريته. قال الإمام الشعراني:” أما أرباب العقول من الفرق فهم تائهون في إدراكها وآراؤهم مضطربة فيها، وذلك أن أفعال الإنسان وجميع الحيوانات وحركاتهم في معايشهم وتصرفاتهم مشاهدة لا إنكار لها من أحد، ثم إن رجحنا حاكم العقل لا يكاد يحكم بثبوتها حكما جليا بحيث لا يبقى منها حزازة في الصدر[1]اهـ

 بل نقول إن الاختيار الذي يكون واسطة بين الجبر والفعل لا يوصل الجبر إلى الفعل ولا ينقله وهو جبر، بل يبدله على مقتضى طبيعة نفسه ولذا تبقى اختيارية الفعل محفوظة. ومن هذا يحق أن لا يسلم لزوم كون الفعل المسند إلى الاختيار- الذي هو اضطراري- اضطراريا! بل لا يسلم وجود الجبر المتوسط في مذهب الأشاعرة. أعني كون الأفعال الاختيارية في هذا المذهب مجبورية بالواسطة، لأن الجبر ،وإن وجد في المبدإ وكان مؤثرا إلى الاختيار الذي يقال عنه اضطراري، إلا أنه بعد ما دخل الاختيار في البين وأخذ يجري على طبيعته فلا يبقى الجبر. ويعد ما وراءه اختياريا ويصير في الحقيقة كذلك. ولا يقال :هل يكون الاختيار الاضطراري؟! وهل تبقى فيه ماهية الاختيار؟! وبعبارة أخرى هل يلزم ،بدلا من أن لا يبقى حكم الاضطرار ولا يسري إلى الأفعال بفضل توسط الاختيار بين الفعل والاضطرار، أن لا يكون حكم للاختيار الذي هو اضطراري؛ وأن لا تبقى طبيعة الاختيار وماهيته فيه؟ لأنا نقول أن القائلين بكون اختيار العباد اضطراريا لم يريدوا بقولهم هذا كونهم مكرهين في اختيارهم! ولو كان كذلك لأفسد الإكراه الاختيار! بل المعنى المراد من كون اختيارهم ولو كان اضطراريا وقوع الاختيار بأي حال: إما بأن يخلقه له مباشرة أو ينشئ مما يخلقه في الأذهان من الداعية والمرجح. ولا سبيل لوقوع الاختيار عن هذين، ولا يمكن أن يكون اختياره الأفعال الاختيارية اختياريا حتى يكون وإلا لزم التسلسل في الاختيارات.

فقد استبان، بعد الدقة العميقة إلى هذه النقاط ، أن لا جبر بمعناه المتعارف في مذهب الأشاعرة ، ولا إصابة في تعبير الجبر المتوسط أيضا وأن المقصود من ذاك التعبير هو تشويه مذهب الأشاعرة من الذين لم يقدروه قدره  فأرادوا أن يلحقوه بمذهب الجبر.

وأيضا إن الجبر الذي فسرناه بمعنى كون الإنسان يتابع مشيئة الله ولا يخالفها مطلقا فهو من حيث كونه جبرا معنويا وعد مشابهته الجبر المتعارف الذي هو بمعنى الإكراه، لا يمنع مختارية العباد ومسؤوليتهم. فإذا كانت إرادة الله تُميل إرادة البشر إلى متعلقها من غير تضييق وإرهاق بل بطريق الإقناع والإرضاء به وتزيينه له وتحبيبه إليه، وكان الإنسان يعمل على وفق إرادته وقناعته فليس هناك جبر ولا مخلص عن المسؤولية[2]. فلو قال فاعل فعل:”لم يكرهوني على ما فعلت بل أمالوني إليه بالإقناع والإرضاء” لا يدفع به المسؤولية عن نفسه لكونه فعله باختياره، مع أن إقناع إنسان لإنسان قد يكون ممزوجا بإغفاله وإخفاء تبعة الفعل الذي يحرضه عليه منه؛ لكن الله تعالى يُميل إرادات عباده على جهات مختلفة بما يلقيه إلى قلوبهم من سوانح الأفكار، لما قد كان فرق بين طرق الطاعات والمعاصي بشرائعه المنزلة على رسله وبين منافع هذه ومضار تلك، كان تأثيره في إراداتهم خاليا عن شائبة الإغفال والإكراه والإرهاق، ولو كان في هذا التأثير إرهاق لتعارض مع إرادة البشر. والحال أن إرادة الله تجري أحكامها في إرادة البشر باتفاق بينهما دائم ولا تتعارضان أصلا[3].

قال سيدي محمد المهدي الوزاني:” إذا أراد الله تعالى صدور الفعل أو الترك فوقع الهم بإذنه تعالى وهو أول درجات القصد، فإذا تأكد صار عزما ثم يمده بخلق القدرة فيه مقترنة بإبراز الفعل بقدرة الله تعالى، وبحسب جري العادة وهي خلق القدرة والفعل إذا خلق فيه إرادة وعزما عليه، وعدم خلق القدرة والفعل إذا خلق فيه كراهة له. ولا يدرك العبد كونه مجبورا، وأن الفعل فعل الله به وإنما يدرك ذلك بالبرهان أو الكشف لمن فتح الله بصيرته. وهذا الاختيار الظاهر هو مناط التكليف وبه سمي العبد مكتسبا ومستطيعا ورتب له الثواب والعقاب ومدح وذم وكل ذلك بجعل الله تعالى ولا مدخل للعقل في ذلك إلا بالتسليم والقبول”[4]اهـ

قال الشيخ الغرسي:”وإذا كانت قدرة العبد عند الأشعري غير مؤثرة لا في الفعل ولا في وصفه ولا في تعلق كل من الإرادة والقدرة به ، فما معنى كون العبد مختارا عنده؟ وما هو الفرق بين هذا المذهب ومذهب الجبرية؟ والجواب: أن معنى كونه مختارا عنده كون فعله اختياريا مسبوقا بالقصد، فلما كان الفعل مسبوقا بالقصد كان اختياريا بهذا المعنى، ولما لم يكن قبل القصد قصد آخر لأن القصد مخلوق[5] لله تعالى في العبد بدون تأثير لقدرته فيه، وهذا القصد عبارة عن الإرادة الجزئية لم يكن القصد مسبوقا بالقصد[6] ، فلم يكن اختياريا، وهذا معنى قول الأشعري: (أن العبد مختار في أفعاله مضطر في اختياره أو في إرادته)”[7]اهـ

وقال شيخه خالد النقشبندي:”مدار كسب الأشعري على ما قررته على تعلق الإرادة الذي هو أمر لازم للإرادة فما معنى اختيار العبد عنده؟ والجواب:أن الإرادة تابعة للعلم فكذا مقتضاها، فإذا علم العبد تكليفه بالطاعة والاجتناب عن المعصية وأن الله تعالى وعده على ذلك النظر إلى وجهه الكريم والفوز بالنعيم المقيم يصير هذا العلم داعيا له إلى الطاعة كما أن وساوس الشيطان اللعين بمعونة النفس الأمارة مع شهوة الاستراحة والتفكه باللذائذ الفانية وتقديمها على الدولة الباقية تصير داعية له إلى المعصية، فيتشعب تعلق الإرادة بأحد الطرفين لانجذابها إلى الخير لأجل الداعي الأول، وإلى الشر لأجل الداعي الثاني.وكون العبد مجبورا في الإرادة لا يستلزم الجبر في الأفعال الصادرة بها كما في أفعال الباري تبارك وتعالى فإن إرادته تعالى صادرة عنه بطريق الإيجاب مع أنه فاعل مختار في أفعاله وفاقا، كما صرح به غير واحد من المحققين، على أن بداهة الفرق بين الحركتين محققة للاختيار وجهل السائل بكيفيته لا يضر”[8]اهـ وهو نفيس.

 

 


[1] – الشعراني”اليواقيت والجواهر” ص:128

[2] – بل حتى ولو قيل بأن العباد مجبورون جبرا محضا فإن الثواب والعقاب- والحالة هذه- يبنى على مسألة التحسين والتقبيح التي مردها إلى الشرع لا إلى العقل.

[3] – انظر”تحت سلطان القدر”ص:  148- 149-175-176

[4] – بواسطة “النشر الطيب”(1/460-461)

[5] – ولو كان شيئا اعتباريا لا وجود له خارجا خلافا للماتريدية وصدر الشريعة ويأتي.

[6] – وإلا لزم التسلسل وهو باطل.

[7] – صالح الغرسي “مجموع رسائل الغرسي” لم تطبع.

[8] – خالد النقشبندي”العقد الجوهري في الفرق بين كسبي الماتريدي والأشعري”ص:41

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق