مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات عامة

الكسب عند السادة الاشاعرة 15

محمد كرماط 

باحث متخصص في العقيدة الأشعرية

وقال إبراهيم الحلبي نقلا عن “التلويح”” :”إن المحققين من أهل السنة على نفي الجبر والقدر وإثبات أمر بين أمرين وهو أن المؤثر في فعل العبد (أصله ووصفه) مجموع خلق الله تعالى واختيار العبد، لا الأول فقط ليكون جبرا ولا الثاني فقط ليكون قدرا. فكان القول بتأثير القدرتين قدرة الله تعالى في الإيجاد وقدرة العبد في الكسب والاتصاف، كما دل عليه مجموع الكلام قولا متوسطا جامعا لمقتضى جميع الأدلة[1]اهـ

ويقول التفتازاني: ” لما ثبت بالبرهان أن الخالق هو الله تعالى وبالضرورة أن لقدرة العبد وإرادته مدخلا في بعض الأفعال كحركة البطش دون البعض كحركة الارتعاش احتجنا في التقصي عن هذا المضيق إلى القول بأن الله خالق، والعبد كاسب. وتحقيقه إنّ صرف العبد قدرته وإرادته إلى الفعل كسب، وإيجاد اللّه تعالى الفعلَ عقيب ذلك خلق. والمقدور الواحد داخل تحت قدرتين، لكن بجهتين مختلفتين. فالفعل مقدور اللّه تعالى بجهة الإيجاد، ومقدور العبد بجهة الكسب، وهذا القدر من المعنى ضروري[2]

وللعلامة الطوفي في بيان المذهب الوسط في القدر كلام قيم، قال –رحمه الله-: “وثالثها (أي ثالث الفرق في القدر) من ذهب إلى أنها (أي أفعال المخلوقين) خلق للرب وكسب للعبد، وفرقوا بين الخلق والكسب بأن الخلق هو الإنشاء والاختراع من العدم إلى الوجود، والكسب هو التسبب إلى ظهور ذلك الخلق على الجوارح، ورسموه بأنه ظهور أثر القدرة القديمة في محل القدرة الحادثة، وذلك كالولد هو مخلوق لله عز وجل مكسوب للأبوين بالجماع، فالخالق موجد ، والكاسب متسبب، وهؤلاء هم الكسبية وهم الجمهور والسواد الأعظم من المحدثين والفقهاء..”ثم قال:”وأما الكشف عن سره فذلك يظهر بمقدمات:

             الأولى: أن الله -عز وجل- أحب أن يكون له في خلقه المشيئة النافذة.

              الثانية: أنه -عز وجل- أحب أن يكون له عليهم الحجة البالغة.

              الثالثة: أنه -عز وجل- علم ما سيكون منهم قبل أن يوجدهم، فعلم مثلا من آدم وإبراهيم وموسى ومحمد -عليهم الصلاة والسلام- أنه سيكون منهم الطاعة، وعلم من إبليس ونمرود وفرعون وأبي جهل وأبي لهب أنه ستكون منهم المعصية، وعلم أنه لو ترك كلا واختياره وفوض إليه أفعاله لم يكن منهم إلا ما تعلق به علمه من طاعة أولئك ومعصية هؤلاء. وحنيئذ استوت حالتا جبرهم على أعمالهم وتفويضها إليهم، فلو فوض إليه أعمالهم والحالة هذه لضاعت فائدة التفويض، ولم يبق فيه إلى مجرد مفسدة مشاركة المخلوق له في الاختراع، فرغب سبحانه وتعالى ببالغ حكمته عن هذه المفسدة المجردة، وآثر التوحيد في خلقه من غير مشارك صيانة لجانب الإلهية والملك عن وصمة المنازعة والشرك.

ثم إنه عز وجل لما علم أن في خلقه من يعترض عليه ويقول: إنك إذا أجبرتنا لم تعدل فينا، ولو فوضت أعمالنا إلينا لقمنا من طاعتك بما علينا، أخفى عنهم طريق الجبر بلطيف حكمته ليقيم عليهم بالغ حجته، وذلك بأن خلق فيهم أفعالهم بواسطة مشيئاتهم، فظنوا أنهم لها خالقون، وإنما هم بلطيف الحكمة وعظيم القدرة مجبورون غالطون، وذلك اللبس عليهم من شؤم اعتراضهم، ولو سلموا الأمر لرب الأمر لكشف لهم عن حقيقة الأمر.

وتقرير ذلك أنه عز وجل إذا شاء من عبده فعلا خلق له مشيئة ذلك الفعل ، ثم خلق ذلك الفعل على أدوات العبد موافقا لإرادته. وهذا مستفاد من قوله عز وجل: ﴿وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين﴾[3]فمشيئة الله عز وجل سبب مؤثر أبعد، ومشيئة العبد سبب مقارن أقرب.”[4]اهـ 

إلا أن هذه الواسطة ( الكسب) لشدة غموضها حتى اعتذر بعض الأيمة عن بيانها بقوله: “وإن لم نقدر على أزيد من ذلك في تلخيص العبارة المفصحة عن تحقيق كون فعل العبد بخلق اللّه تعالى وإيجاده، مع ما فيه للعبد من القدرة والاختيار[5] ، قد اختلف الأصحاب في بيان حقيقتها على أقوال لزم بعضها شوب الاعتزال؛ ولله در التاج السبكي حيث قال:”فإن سئلنا عن التعبير عن هذا الكسب بتعريف جامع مانع،قلنا: لا سبيل لنا إلى ذلك

 والسلام[6]؛ فرب ثابت لا تحيطه العبارات ومحسوس لا تكتنفه الإشارات.”[7]اهـ

ولا شك أن الجميع –كما مر-على بطلان الجبر المحض من ناحية و استقلال العبد بأفعاله من ناحية أخرى[8]، وهي ذي  المذاهب (مشهورها وضعيفها) مقررة بشيء من التفصيل .

 

 

 


[1] – إبراهيم الحلبي”اللمعة”ص:49

[2] – التفتازاني”شرح العقائد النسفية”ص: 98-99

[3] – سورة التكوير،الآية: 29

[4] – سليمان الطوفي “الإشارات الإلهية إلى المباحث الأصولية”(نسخة مخطوطة ص:19-21-22) ، وقد طبع في ثلاث مجلدات بتحقيق:حسن قطب.

[5] – التفتازاني”شرح العقائد النسفية”ص:99

[6] – ومنه تعلم قصر نظر من قال:”ولم ينته الأشاعرة فيه إلى قول مستقيم”(موقف ابن تيمية من الأشاعرة)(3/1339)، وفي كتابه هذا أخطاء  في التصورات والتصديقات يندى لها الجبين. والله المستعان.

[7] – التاج السبكي “شرح مختصر ابن الحاجب”(1/462)

[8] – حشر الشيخ النابلسي في “الكوكب الساري”(ص: 13) ضمن القائلين بالتوسط بين الجبر والاستقلال طائفة الظاهرية ( القائلين بأن أفعال العباد صادرة منهم بتأثيرهم فيها بإذن الله) ، وهو مذهب الأشعري في “الإبانة” والظاهر أن هذا المذهب من الاستقلال بالواسطة-كما هو مذهب المعتزلة- أقرب منه إلى المذهب الوسط.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق