مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات عامة

الكسب عند السادة الأشاعرة 10

محمد كرماط 

باحث متخصص في العقيدة الأشعرية

 

ويجاب عن استدلالهم بقوله تعالى: ﴿والله لا يحب الفساد﴾[1]، بمعنى أنه لا يثيب عليه، ولا يمدحه، لأن اسم المحبة إنما يقع على ما يثاب عليه، ويمدح فاعله وليس كل ما يريده المريد يقال أنه أحبه ، كضرب الرجل ولده ليؤدبه، وهو لا يحب ذلك[2]. كما أن المحبة تتعلق بما ليس فيه تبعة ومؤاخذة، والإرادة أعم، فهي منفكة عنها فيما إذا تعلقت بما يتبعه تبعة ومؤاخذة[3].

وأما قوله تعالى: ﴿لا يرضى لعباده الكفر ﴾[4] فيجاب عنه بأن كلمة “العباد” عام يراد به الخصوص، حيث يحمل على عباد الله الموفقين للإيمان، الملهمين للإيقان؛ كقوله تعالى: ﴿عينا يشرب بها عباد الله﴾[5]، والمراد ليس كل العباد بل أولئك المصطفون منهم للنعيم المقيم[6].قال ابن حجر:”وأجاب أهل السنة-أي عن هذه الآية-بما أخرجه الطبري وغيره بسند رجاله ثقات عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر  ﴾يعني بعباده الكفار الذين أراد الله أن يطهر قلوبهم بقول لا إله إلا الله، فأراد عباده المخلصين الذين قال فيهم:﴿إن عبادي ليس لك عليهم سلطان﴾ فحبب إليهم الإيمان وألزمهم كلمة التقوى شهادة أن لا إله إلا الله”[7]اهـ المراد منه.

وأما تمسكهم بقوله تعالى: ﴿إن الله لا يأمر بالفحشاء﴾[8] فلا حجة لهم فيه، لأنه لا تلازم بين الأمر والإرادة[9].يقول ابن حجر:” وحرف النزاع بين المعتزلة وأهل السنة أن الإرادة عند أهل السنة تابعة للعلم[10] وعندهم تابعة للأمر، ويدل لأهل السنة قوله تعالى: ﴿يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة﴾”[11]اهـ المراد

 فالصحيح إذن أن الإرادة تابعة للعلم ولا تلازم الأمر، بمعنى أن إرادة الله تعالى للشيء تقع وفق علمه السابق منذ الأزل[12]. ويؤكد ذلك أدلة ،منها:

    1/قوله  تعالى: ﴿ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها﴾[13] ، فدل على أنه لم يرد أن يؤتي كل نفس هداها مع أنه تعالى أمر كل نفس بهداها[14]، ولا خلاف أنه يعلم منذ الأزل بمن يهتدي ومن يضل.

     2/ قد أمر الله تعالى خليله إبراهيم عليه السلام بذبح ولده مع عدم إرادته لهذا الأمر، كما سبق في العلم السابق أن إسماعيل[15] عليه السلام لن يذبح فوافقت الإرادة العلم وخالفت الأمر[16].

      3/ وكذلك أمر الله أبا لهب بالإيمان وقد سبق في علم الله تعالى أنه سيكفر. وكفر أبي لهب واقع  بإرادة الله تعالى التي تطابق علمه الأزلي. مع أنه خالف ما أمره الله به، وحثه عليه[17].

وأما استدلالهم بقوله تعالى: ﴿ سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء﴾[18] ،فيقال في الإجابة عنه: أن الله تعالى وبخهم لأنهم تعلقوا بالمشيئة لرد الشريعة، فلما طولبوا بالالتزام بالإسلام والتزام الأحكام، تعلقوا بهذه الحجة الباطلة،فوبخهم الله تعالى، ولو كانوا ناطقين بحق مفصحين بصدق لما قرعوا[19]. قال ابن حجر” فلما عاند المشركون المعقول وكذبوا المنقول الذي جاءتهم به الرسل وألزموا الحجة بذلك تمسكوا بالمشيئة والقدر السابق، وهي حجة مردودة لأن القدر لا تبطل به الشريعة وجريان الأحكام على العباد بإكسابهم فمن قدر عليه بالمعصية كان ذلك علامة على أنه قدر عليه العقاب إلا أن يشاء أن يغفر له من غير المشركين، ومن قدر عليه بالطاعة كان ذلك علامة على أنه قدر عليه بالثواب[20]اهـ.

وهذه الآية من أقوى الحجج التي ترد عليهم، لأن الله تعالى لم ينكر عليهم صدر الآية﴿لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون﴾[21] ولو أنكره لكذبهم فيه، وإنما أنكر عليهم لما أخرجوا ذلك مخرج  التحجج بالقدر لأنفسهم، أو مخرج الاحتجاج على الرسل-عليهم الصلاة والسلام- كما كذب الذين من قبلهم[22].وكيف يمكن أن ينكر قولهم: ﴿ لو شاء الله ما أشركنا﴾ أو يكذبهم فيه، وقد أخبرنا جل وعز هذا نصا في نفس السورة في قوله تعالى: ﴿ولو شاء الله ما أشركوا﴾[23] ؛ وهكذا بطل أن يكون لهم في الآية متعلق أصلا[24].

يقول مصطفى صبري:” إنهم ما ذموا في قولهم: ﴿ ولوشاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء﴾ لأنهم كذبوا في تلك القضية الشرطية بل لأنهم أرادوا بذلك القول تكذيب الرسل الذين منعوهم من الشرك وتحريم ما أحل الله وتبكيتهم حجة إلزامية مسلمة عند الرسل وهي قولهم: ﴿لو شاء الله ما أشركنا..﴾ والقرينة على ذلك أنه تعالى تعقبهم بقوله: ﴿كذلك كذب الذين من قبلهم﴾ فذمهم على تكذيبهم لا على كسبهم في قولهم. والقرينة الثانية-وهي أبلغ وأقوى- تعقبهم بقوله: ﴿قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين﴾ فقال بلسان رسوله أيضا، لا بلسانهم فحسب، أن لو شاء الله لهداهم أجمعين وساق هذا القول مساق عكس حجتهم عليهم، وكان المشركون قالوه لا عن إقرار مضمونه وخضوع لمشيئة الله وإنما تهكموا به الرسل وأرادوا به تبكيتهم فأعاد الله حججهم عليه، وكأنه قال: “نعم لو شاء لهداكم فما أشركتم لكنه لم يشأ هدايتكم وشاء ضلالكم فلهذا لا تقلعون عن الشرك، وتستهزئون بالرسل الذين منعوكم منه”. وللدلالة على هذا المعنى قال: ﴿ قل فلله الحجة البالغة﴾ وأتى بالفاء تفريعا له على ما قبله.”[25]اهـ

و بالجملة فإن الآيات التي استدلوا بها معارضة بآيات هي أدل على المقصود، منها: قوله تعالى: ﴿ولو شاء الله لجمعهم على الهدى﴾[26]، وقوله جل وعز: ﴿أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم﴾[27]،وقوله تعالى: ﴿إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون﴾[28]. وغيرها من الآيات التي استدل بها أهل السنة[29] أن كل شيء هو بمشيئة الله تعالى وإرادته، سواء كان ذلك حسنا أو قبيحا ، خيرا أو شرا[30].

نعم قد أجابت عن هذه الآيات ونظائرها المعتزلة بحمل المشيئة على مشيئة القسر والإلجاء، قال القاضي عبد الجبار:”إن المراد بالمشيئة المذكورة في هذه الآيات مشيئة الإلجاء والإكراه[31]. وهذا خلاف الظاهر، وتقييد للمطلق من غير دليل[32]. بل لما سئلوا عن معنى “مشيئة القسر والإلجاء” اضطربت أفكارهم في توضيحه[33]. جاء في “فتح الباري”:”و قالت المعتزلة في قوله تعالى: ﴿وما تشاؤون إلا أن يشاء الله ﴾ معناه وما تشاؤون إلا أن يشاء الله قسركم عليها، وتعقب بأنه لو كان كذلك لما قال:”إلا أن يشاء” في موضع “ما شاء”، لأن حرف الشرط للاستقبال. وصرف المشيئة إلى القسر تحريف لا إشعار للآية بشيء منه، وإنما المذكور في الآية مشيئة الاستقامة كسبا وهو المطلوب من العباد”[34]اهـ

يقول الشيخ الهرري:” وتأويل الآيات بمشيئة الجبر لا تصح خصوصا على أصلهم الفاسد، فإن عندهم المؤمن من أوجد الإيمان لا من قام به الإيمان، كالمتكلم من خلق الكلام لا من قام به الكلام، فإذا خلق الله تعالى فيهم الإيمان جبرا لكان المؤمن به هو الله تعالى وهو قد شاء إيمان الكافر لا إيمان نفسه، وإذا كان المؤمن بذلك هو الله تعالى على أصلهم لكان الله تعالى شاء الهدى لنفسه لا لنفس الكافر، فيكون مناقضا لظاهر الآية حيث قال: ﴿ولو شاء ربك لآمن من في الأرض  كلهم جميعا﴾”[35].

 

 


[1] – سورة البقرة،الآية:205

[2] – الباقلاني “الإنصاف”ص:223-224

[3] – ابن أبي شريف”المسامرة”ص:123 والإيجي”المواقف”ص:322

[4]– سورة الزمر، الآية: 07

[5] – سورة الإنسان،الآية:06

[6] – الباقلاني”الإنصاف”ص:227-228

[7] – ابن حجر”الفتح”(13/507)

[8] – سورة  الأعراف،الآية:28

[9] – قال  الإمام السنوسي في “شرح الصغرى”ص24:” والمعتزلة-قبحهم الله- جعلوا تعلق الإرادة تابعا للأمر، فلا يريد عندهم مولانا- جل وعز- إلا ما أمر به من الإيمان والطاعة سواء وقع ذلك أم لا. فعندنا إيمان أبي جهل مأمور به غير مراد له تعالى، لأنه تعالى علم عدم وقوعه .وكفر أبي جهل منهي عنه وهو واقع بإرادة الله تعالى وقدرته. وعند المعتزلة قبح الله رأيهم إيمانه هو المراد لله تعالى لا كفره فلزمهم أنه وقع نقص في ملك مولانا جل وعز”اهـ

[10] – ذكر الشيخ المحدث عبد الله الهرري في “إظهار العقيدة السنية”ص:288 أن القول بأن عبارة :الإرادة تلازم العلم “مدخولة إذ لو كان كذلك لوجب أن كل ما كان معلوما له كان مرادا له  وذاته وصفاته معلوم له ولا يصح أن يكون مرادا”اهـ كلامه،قلت: وهو غير لازم إذ إن التعلقات جعلت كلتا الصفتين تختلفان، فالإرادة من صفات التأثير إذ شأنها الترجيح،  والتأثير يتعلق بالممكنات فحسب والذات الإلهية وصفاتها واجبة ، فخرجت حتما. فتكون النتيجة : كل ما كان مرادا فهو معلوم ولا عكس. ما دام أن العلم يتعلق بجميع الواجبات والمستحيلات والجائزات.

[11] – ابن حجر”الفتح”(13/506)

[12] – قال المارغيني :”فكل ممكن علم تعالى أنه يكون أو لا يكون فذلك مراده، وبذلك تعلم أن تعلق الإرادة فرع عن تعلق العلم أي تابع له ومتأخر عنه في التعقل”اهـ بواسطة “تهذيب شرح السنوسية”ص:31-32 لسعيد فودة

[13] – سورة السجدة، الآية:13

[14] – السفاريني”لوامع الأنوار”(1/156)

[15] – على القول أنه الذبيح وهو قول الجمهور خلافا لقول عند الحنابلة أن الذبيح هو إسحاق عليه السلام ،انظر”زاد المسير”(7/72-73)، وقد ألف في المسألة ابن العربي رسالة:”تبيين الصحيح في تعيين الذبيح”

[16] – الجويني”الإرشاد”ص:217

[17] – عبد القادر محمد أحمد”الإلهيات في الفكر الإسلامي”ص:458-459

[18] – سورة الأنعام،الآية 148

[19] – الجويني”الإرشاد”ص:222 والباقلاني”الإنصاف”ص:224

[20] – ابن حجر “الفتح”(13/506)

[21] – سورة الأنعام،الآية:148

[22] – ابن حزم”الفصل”(2/179-180)

[23] – الأنعام،الآية:170

[24] – ابن حزم”الفصل”(2/180)

[25] – صبري”تحت سلطان القدر”ص:108-109

[26]– سورة الأنعام،الآية:35

[27] – سورة الأنعام،الآية:149

[28]– سورة التوبة،الآية:55

[29] – أهل السنة هم: السادة الأشاعرة و السادة الماتريدية، وبين الطائفتين خلافات اجتهادية بعضها لفظي وبعضها معنوي أوصلها التاج السبكي في”نونيته” إلى ثلاث عشرة مسألة. انظر “إشارات المرام” للبياضي و”شرح الإحياء” للزبيدي و”الروضة البهية” لأبي عذبة و”أهل السنة الأشاعرة علماء الأمة وأدلتهم” لحمد السنان وفوزي العنجري.

[30] – ومع أن الشر مخلوق لله تعالى-على فرض أنه وجودي-،لكن الأدب أن لا ينسب لله تعالى إلا الحسن، فينسب الخير لله والشر للنفس وإن كان منسوبا خلقا لله. وذلك أن نسبة الشر يتبادر منها عادة اكتسابه والرضى به، ومعلوم أن الله تعالى لا يرضى بالشر.

[31] – القاضي عبد الجبار”شرح الأصول الخمسة”ص:476

[32] – ابن أبي شريف”المسامرة”ص:122

[33] – التفتازاني”شرح المقاصد”(4/277)/ ابن أبي شريف”المسامرة”ص:122

[34] – ابن حجر”الفتح”(13/507)

[35] – عبد الله الهرري”إظهار العقيدة السنية”ص:292

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق