مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

“الكبر” آفة من آفات القلوب المهلكة… أسبابه وبواعثه وطرق التخلص منه

الكبر مفهومه وحقيقته

      تعتبر آفة الكبر من بين الآفات المهلكة التي تعكر صفو العلاقات الاجتماعية بين الناس، والتي تتنافى مع الأخلاق الإسلامية التي جاء بها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وتعد من بين السلوكيات الباطنية السلبية التي تحجب القلوب عن حقيقة الإيمان الذي يدعو في جوهره إلى صفاء القلوب وطهارتها، وانفتاحها على قيم التواضع والتسامح والمحبة… وآفة الكبر تتعارض مع هذه القيم؛ ذلك أن الكبر في حقيقته هو الشعور بالكمال الظاهري الخالي من معايير التربية الباطنية الخالصة، واحتقار الناس والاستعلاء عليهم، والإحساس بالتميز ورفعة النفس وعزتها، بالقول أو الفعل.

       وخير مثال نسوقه في هذا المضمار حول مظاهر آفة الكبر والإعجاب بالنفس هو استكبار وامتناع إبليس الامتثال لأمر الله تعالى جلت قدرته حين أمر الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا إلا إبليس، قال تعالى: “وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ” [البقرة، 33]، ولما سأله الله سبحانه وتعالى وهو العليم الخبير الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء عن سبب امتناعه قَالَ سبحانه وتعالى: “يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ” “قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ” [البقرة، 75-74].

    ونظرا لخطورة آفة الكبر المهلكة وانعكاس سلوكياتها على الجوارح نجد أن علماء التربية الباطنية قد تحدثوا بشكل مفصل في معظم كتاباتهم عن خطورة هذه الآفة، وبينوا حقيقتها وأسبابها وأقسامها مع إشارتهم إلى الدواء الذي يطهر القلب منها مستدلين بجملة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية؛ فمن الآيات القرآنية التي تذم هذه الآفة قوله تعالى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الاَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) [الاَعراف، 146]؛ وقوله تعالى: (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) [غافر، 35]؛ وقوله تعالى: (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) [النحل 24]؛ وقوله جلت قدرته: (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ) [غافر: 55]؛ وقوله تعالى: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ) [النحل، 49] وقال سبحانه: (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْئمُونَ) [فصلت، 37].

     وورد في السنة النبوية الشريفة أحاديث كثيرة تذم آفة الكبر منها قوله صلى الله عليه وسلم: “إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد إلى أحد ولا يفخر أحد على أحد”[1] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي يقول الله عز وجل: “العِزُّ إزاري، والكبرياء ردائي، فمَن نازعني واحدًا منهما عذَّبتُه”[2] وفي رواية أخرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا يدخل الجنة من كان في قلبه حبة من الكبر فقال رجل يا رسول الله إني لا يعجبني أن يكون توبي جديدا ورأسي دهينا وشراك نعلي جديدا قال: ذاك جمال والله تعالى جميل يحب الجمال، ولكن الكبر من بتر الحق وازدرى الناس”[3].

     ولتوضيح حقيقة ومفهوم آفة الكبر وخطورته يذكر ابن قدامة في المختصر “بأن آفة الكبر عظيمة وفيها يهلك الخواص وقلما ينفك عنها العباد والزهاد والعلماء”[4] ويقول كذلك: “وكيف لا تعظم آفته وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر”[5] أما الإمام أبو حامد الغزالي فيذكر: “أن الكبر عبارة عن الحالة الخالصة في النفس من هذه الاعتقادات، ويسمى أيضا عزة وتعظما، ولذلك قال ابن عباس في تفسير قوله تعالى: “إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ” قال: “عظمته لم يبلغوها ففسر الكبر بتلك العظمة ثم أن هذه العزة تقتضي أعمالا في الظاهر والباطن هي ثمرات ويسمى ذلك تكبرا”[6] وقيل بأن الكبر “هو الخصلة المهلكة رأسا أما تسمع قوله تعالى: ” أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ” [البقرة، 32][7].

أقسام الكبر

يذكر الإمام أبو حامد الغزالي بأن التكبر باعتبار المتكبر عليه على ثلاثة أقسام.

القسم الأول: التكبر على الله تعالى، وقد وصف هذا القسم أنه من أفحش أنواع الكبر وأخطره، وقد قال تعالى في حق هؤلاء المتكبرين: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَٰنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَٰنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَامُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا) [الفرقان، 60].

القسم الثاني: التكبر على الرسل، من حيث النفس وترفعها عن الانقياد لبشر مثل سائر الناس كما حكى الله تعالى في كتابه العزيز (أَنُومِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا) [المؤمنون، 48].

القسم الثالث: التكبر على العباد، وذلك بأن يستعظم نفسه ويستحقر غيره فتأبى نفسه الانقياد لهم وتدعوه إلى الترفع عليهم[8].

في بيان الدواء الذي يطهر القلب من هذه الآفة

      أجمع علماء التربية الباطنية إلى أن طهارة القلب من آفة الكبر فرض عين ومنهم الإمام ابن قدامة المقدسي الذي دعا إلى ضرورة تطهير القلوب من هذه الآفة واصفا الدواء بقوله: “اعلم أن الكبر من المهلكات ومداواته فرض عين”[9] ويضيف أن من تكبر بسبب العلم فليعلم أن حجة الله على العالم آكد من الجاهل وليتفكر في الخطر العظيم الذي هو بصدده فإن خطره أعظم من خطر غيره كما أن قدره أعظم من قدر غيره” [10]، وليعلم أن الكبر لا يليق إلا بالله سبحانه وتعالى وأنه إذا تكبر صار ممقوتا عند الله تعالى بغيضا عنده، وقد أحب الله منه أن يتواضع”[11]. ويذكر الإمام الحارث بن أسد المحاسبي في الباب الثاني عشر من أسببا علاج الكبر: “وبعد فإنك منهي من تفضيل نفسك وتزكيتها محرم عليك وعساك في القيامة تحت إقدام الذين ازدريت عليهم في الدنيا”[12] ويقول كذلك: “فتدبر ما سمعت واستعن بالله على نفي الكبر من قلبك أعاذنا الله وإياكم من ذلك”[13].

     فالكبر يعتبر من المهلكات التي تضعف النور في القلب، وتنفي عنه عمل الإخلاص، ومن تم وجب على السالك أن يخلص نفسه تدريجيا من مخاطر هذه الآفة العظيمة باتباع سبل النجاة المطهرة للقلوب..

هوامش

  1. صحيح الإمام مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب استحباب العفو والتواضع، الصفحة 1397، رقم الحديث 2588. دار المغني الطبعة الأولى 1419هـ/ 1998.
  2. صحيح الإمام مسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه 49 رقم الحديث: 147(91) الصفحة 60 دار المغني، الطبعة الأولى 1419هـ/ 1998.
  3. كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال للإمام علاء الدين المتقي بن حسام الدين الهندي البرهان فوري، ج: 3، ص: 533. بيت الأفكار الدولية الطبعة الثانية 2005.
  4. صحيح الإمام البخاري، “كتاب الإيمان” رقم الحديث 30 الصفحة 17 باب المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك، دار ابن كثير دمشق -بيروت الطبعة الأولى 1423هـ/2002م.
  5. مختصر منهج القاصدين للإمام أحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن قدامة المقدسي، ص: 227. مؤسسة علم القرآن، طبعة دمشق بيروت 1398هـ/1978م.
  6. نفس المصدر، ص: 231.
  7. إحياء علوم الدين للإمام أبو حامد الغزالي، ج: 6 ص: 571. دار المنهاج للنشر والتوزيع الطبعة الأولى 1432هـ/2011م.
  8. سراج الطالبين شرح الشيخ إحسان محمد دحلان الجمفسي الكديري على منهج العابدين إلى جنة رب العالمين، مطبعة دار الفكر، ج: 1 ج: 1 ص: 450.
  9. إحياء علوم الدين، ج: 6 ص: 499-495. دار المنهاج للنشر والتوزيع الطبعة الأولى 1432هـ/2011م.
  10. مختصر منهج القاصدين، ص: 231.
  11. نفس المصدر، الصفحة: 231.
  12. نفس المصدر، الصفحة: 231.
  13. الوصايا للحارث بن أسد المحاسبي، ص: 111. الطبعة الأولى 1406هـ/1986م، دار الكتب العلمية.
  14. نفس المصدر، الصفحة: 112.
Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق