القيم الوطنية الجامعة: مفهومها، وأسسها

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الملك الوهَّاب، الذي قرَّب إليه من أطاعه وأنَاب، وأذَاق من عصاه بعظيم نُصْبٍ وعذَاب، والصلاة والسلام على النَّبي الأوَّاب، وعلى آله الأحْباب، وزُمرة أتباعه خِيار الصِّحاب، ما طلع بدرٌ أو غَاب، وما غرَّد الأيْكُ في الذَّهاب والإيَاب.
وبعد؛ فإن القيم الوطنية الجامعة تعد أهم رافد من روافد بناء الأوطان، وتعزيز الأمن والاستقرار فيها، وازدهارها وتقدمها، وحمايتها من دواعي الضعف والوهن ، مما يستوجب بشدة الاعتناء بهذه القيم الوطنية الجامعة: تعريفا، وتكشيفا، وتفعيلا لها في مقررات التربية والتعليم، وفي برامج السياسة، والإدارة، والإعلام، والرياضة... وغيرها.
وإن هذه القيم الوطنية الجامعة ليست فقط شعارات ودعاوى ينتحلها الشخص فيصبح بذلك مواطنا صالحا؛ ولكنها في الحقيقة مطالب مشروعة، أقرها الشرع الحنيف، ووافقها العقل الصحيح، والفطر السليمة؛ ولكي نحقق هذه المواطنة الصالحة الفاعلة في مجتمعاتنا؛ لابد لنا من الاعتناء بأسسها، وتحقيق مبادئها، ومرتكزاتها، وأصولها، ومرجعياتها، والتعرف على المقومات التي تبنى عليها، ومن تلك الأسس والمبادئ: المساواة، والحرية، وحقوق الإنسان، والعدالة والإنصاف، والولاء، والانتماء للوطن، والمشاركة، والمسؤولية، والتعددية وقبول الآخر....الخ.
وفقدان هذه الأسس الكبرى سيؤدي لا محالة إلى إخلال بمفهوم المواطنة الصالحة، وبالتالي فقدان الحقوق المرتبطة بها، وبالتالي غياب حس الشعور بالهوية والانتماء الوطني، وانعدام الولاء والتبعية للدولة.
ولأهمية هذا الموضوع ؛ فقد أفردته بهذا المقال الذي سأتناول فيه: التعريف بالقيم الوطنية من حيث اللغة والاصطلاح ، ثم أذكر أهم ثلاثة أسس منها وهي: الانتماء، والولاء، والمساواة ، مع ذكر نماذج لها من خلال القرآن الكريم، والأحاديث النبوية، والسيرة العطرة.
فأقول وبالله التوفيق:
المطلب الأول: التعريف بالقيم الوطنية لغة واصطلاحا:
أولا- تعريف مصطلح القيم الوطنية في اللغة:
1-القيم لغة:
(القيم): جمع: (قوم)، قال الأزهري (370هـ) في تهذيب اللغة : "قالوا: (القيم): الاستقامة. دينا قيما: مستقيما...وقول الله جل وعز: (دينا قيما) [1]. قال أبو إسحاق: القيم، هو المستقيم؛ وقرئت: (قيما)" [2].
وقال الرازي (666هـ) في مختار الصحاح:" (القيمة): واحدة (القيم)... و(الاستقامة): الاعتدال، يقال (استقام) له الأمر، وقوله تعالى: (فاستقيموا إليه) [3] ، أي: في التوجه إليه دون الآلهة"[4].
2- الوطنية لغة:
و(الوطنية): أصلها اللغوي مشتق من (وطن)، قال الأزهري(370هـ) في تهذيب اللغة: "قال الليث: الوطن موطن الإنسان ومحله قال: وأوطان الغنم مرابضها التي تأوي إليها. ويقال: أوطن فلان أرض كذا وكذا، أي اتخذها محلا ومسكنا يقيم فيها...وأما الوطن فكل مكان قام به الإنسان لأمر فهو موطن له، كقولك: إذا أتيت فوقفت في تلك المواطن فادع الله لي ولإخواني"[5].
ثانيا- تعريف مصطلح القيم الوطنية في الاصطلاح:
1-القيم اصطلاحا:
أما تعريف (القيم) values = من الناحية الاصطلاحية فهي: عبارة عن أحكام تقويمية يصدرها الإنسان من خلال المبادئ، والمعايير الاجتماعية، وتختلف من مجتمع إلى مجتمع، وتكتسب عن طريق التنشئة الاجتماعية التي يتشربها الفرد من خلال مؤسسات التنشئة الاجتماعية من: الأسرة، والمدرسة، والمجتمع، وجماعة الرفاق، والمسجد، ووسائل الإعلام المختلفة [6].
2-الوطنية اصطلاحا:
أما تعريف (الوطنية) في الاصطلاح؛ فيقول الجرجاني(816هـ) في معجم التعريفات:"الوطن الأصلي: هو مولد الرجل، والبلد الذي هو فيه[7].
أما في الموسوعة العربية العالمية فعرفت الوطنية على أنها :" تعبير قومي يعني: حب الشخص وإخلاصه لوطنه، ويشمل ذلك: الانتماء إلى الأرض، والناس، والعادات والتقاليد، والفخر بالتاريخ، والتفاني في خدمة الوطن، ويوحي هذا المصطلح بالشعور بالتوحد مع الأمة "[8].
أما تعريف مصطلح (القيم الوطنية) باعتبارها مركبا إضافيا فهي: ثوابت الإنسان التي تظهر من خلال ارتباط الفرد بالوطن والأمة، واعتزازه بذلك، ويعبر عنها بالقول والفعل، وتشير إلى سلوكيات الاستقامة، والعمل، والأمانة، والنظام، وتحمل المسؤولية، واحترام الآخرين، والمحافظة على البيئة، وغيرها من القيم التي تتبلور في أداة الدراسة[9].
المطلب الثاني: أسس القيم الوطنية الجامعة:
1- الانتماء:
يعد الانتماء من الركائز الأساسية التي تسهم في تأسيس مفهوم القيم الوطنية الجامعة، فالانتماء هو: الانتساب الحقيقي إلى أمر معين فكرًا، وتجسده الجوارح عملا[10]؛ بمعنى أن الانتماء هو الانتساب الحقيقي من الفرد (المواطن) إلى بلده (الوطن) فكرا وتصورا، وتوضحه وتفصح عنه جوارحه ووجدانه عملا، أي: من خلال مواقف وسلوكيات تترجم على أرض الواقع إلى أفعال إيجابية، بعكس الانتماء الزائف للوطن الذي هو عبارة عن شعارات لفظية فارغة، لا تترجمها المواقف الفعلية على أرضية الواقع.
وهذا الانتماء هو ما يصطلح عليه أحيانا بمفهوم الجنسية (Nationality)، التي تقوم على فكرة تبادل الحقوق والواجبات بين الفرد والدولة، وينمي هذه العلاقة الوطيدة، إحساس وشعور روحي ووجداني، يدفع الفرد إلى رغبته الجامحة في الانتماء وحب هذا الوطن ، والإخلاص له، والتضحية المستدامة لأجله؛ وتقديم مصلحة وطنه العامة على مصلحته الذاتية الخاصة؛ بمعنى أن الانتماء هو بمثابة ذلك الضمير الداخلي، والإحساس الوجداني، والدافع الذاتي الذي يوجه الفرد ، ويرشده إلى ما فيه مصلحة وطنه؛ بحيث كلما كان هذا التوجيه سليما كلما أسهم ذلك في بناء الوطن. وحمايته من أسباب الفساد، والهدم، والتخريب، والتفكك.
وقد أولت الشريعة الإسلامية لمفهوم الانتماء ما يستحقه من مكانة واعتناء ، وعدته حقا لكل مواطن من مواطني الدولة الإسلامية؛ وقسمت هذا الانتماء إلى: انتماء ديني وانتماء سياسي؛ ومن خلالهما تتجسد العلاقات بين مواطني الدولة الإسلامية وبين الدولة نفسها داخليا وخارجيا، وفي نصوص القرآن الكريم، والسنة النبوية، والسيرة العطرة نماذج مشرقة حول هذا المفهوم أذكر بعضها:
ففي القرآن الكريم عدة آيات تبين مدى تجسيد المؤمنين من الصحابة رضوان الله عليهم مبدأ الانتماء والاعتزاز وحب الوطن، من خلال تضحياتهم الجسام في الدفاع عنه بالغالي والنفيس، والبيعة على الموت في سبيل ذلك، وقد صور القرآن الكريم كل ذلك فقال الله تعالى: (لقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا)[11]؛ وكذلك في استجابتهم للدفاع عن وطنهم المدينة المنورة بعد مصابهم في غزوة أحد فقال تعالى عنهم: (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) [12].
قال ابن عطية في تفسير هذه الآية :"والمستجيبون لله والرسول هم الذين خرجوا مع النبي ﷺ إلى حمراء الأسد في طلب قريش، وانتظارهم لهم؛ وذلك أنه لما كان في يوم الأحد وهو الثاني من يوم أحد نادى رسول الله ﷺ في الناس باتباع المشركين ، وقال : لا يخرجن معنا إلا من شاهدنا بالأمس ، وكانت بالناس جراحة وقرح عظيم ؛ ولكن تجلدوا ونهض معه مائتا رجل من المؤمنين حتى بلغ حمراء الأسد... فأنزل الله تعالى في شأن أولئك المستجيبين هذه الآية ، ومدحهم لصبرهم"[13].
أما في السيرة النبوية؛ فقد أظهر النبي ﷺ مشاعر الانتماء والحب للوطن، ولم يستطع إخفائها أثناء إقدامه على الهجرة من مكة إلى المدينة ؛ حيث نظر إلى وطنه مكة الذي ولد فيه، وترعرع بين شعابه، وله ذكريات فيه؛ ويخبرنا عن هذا المشهد عبد الله بن عدي بن حمراء رضي الله عنه، قال: رأيت رسول الله ﷺ وهو على ناقته واقف بالحزورة يقول: والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلي ، والله لولا أني أخرجت منك ما خرجت"[14].
وهذه الكلمات النبوية تجسد للعالمين معاني الحب والانتماء للوطن، وأنه عضو فاعل فيه ، يشعر أمام هذا الوطن بالفخر، والاعتزاز والالتزام بقيمه وأعرافه.
كذلك ورد في نصوص وثيقة المدينة قوله ﷺ: (هذا كتاب من محمد النبي رسول الله ﷺ بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس) [15]، قالت ذ. آلاء علي فالح الزعبي في التربية الوطنية في الإسلام: "وجه الدلالة: قوله ﷺ: (ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم) [16]، فهو دلالة على أن الالتحاق والهجرة إلى المجتمع الإسلامي تجعل الفرد مواطنا في الدولة، له من الحقوق ما على كافة المواطنين، وعليه من الواجبات ما يجب عليهم، فجعل الهجرة طريقة من طرق الانتماء السياسي للدولة الإسلامية"[17].
2- الولاء:
والولاء للوطن أيضا من أهم الأسس التي تنبني عليها القيم الوطنية الجامعة، ومعناه عبارة عن: مشاعر الفرد، وأحاسيسه الايجابية بالمحبة، والنصرة تجاه موضوع معين [18]. ويتحقق الولاء للوطن من خلال الولاء للنظام السياسي الذي يحكم البلد، من طاعة الحاكم، والقيام بالواجبات على الشكل المطلوب، وتغليب المصلحة العامة للوطن على المصلحة الخاصة؛ لأن بموجب ذلك تصان كرامة المواطنين، وتتحقق مصالحهم العامة، ويحافظ على حقوقهم وواجباتهم.
ومن تمظهرات الولاء للوطن أيضا: حب الوطن، والدفاع عنه ضد الأعداء، والتضحية لأجله بالغالي والنفيس، والحرص على عمل كل ما من شأنه تطور وتقدم الوطن ، من خلال الإسهام في كل مجالات الابتكار والإبداع التي تنهض به، وتسعى في عزته، ورفعته، وتقدمه، وحماية ثرواته ومقدراته الطبيعية، وموروثه الحضاري المادي واللامادي.
وقد أوضح القرآن الكريم هذا المفهوم وجسده في كثير من سوره وآياته، وأشار إليه النبي ﷺ في عدة أحاديثه، وفي سيرته العطرة:
أما في القرآن الكريم، فقد تناول مفهوم الولاء من خلال حديثه عن الولاء لله تعالى، ولرسوله، وللمؤمنين، ويقصد بذلك اتباع الشريعة الربانية التي جاء بها النبي ﷺ، والولاء للمؤمنين بها، وأن لا يقدم على هذا الولاء الرباني ولاء غيره. قال تعالى : (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) [19].
قال القرطبي (671هـ) في تفسيره الجامع لأحكام القرآن: "قوله تعالى: (ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا)[20]، أي: من فوض أمره إلى الله، وامتثل أمر رسوله، ووالى المسلمين، فهو من حزب الله. وقيل: أي ومن يتولى القيام بطاعة الله، ونصرة رسوله، والمؤمنين (فإن حزب الله هم الغالبون) [21] "[22].
وقال النبي ﷺ: " ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار "[23].
ومن المعاني العظيمة أيضا التي أشار إليها القرآن الكريم في ترسيخ مفهوم الولاء، وحب الوطن، وإرادة الخير له، ما ورد في دعاء نبي الله إبراهيم عليه السلام لبلدة مكة المكرمة، حين أسكن فيها أهله امتثالا لأمر الله تعالى، وكانت من قبل وطنا غير ذي زرع، فدعا لها بالخير والرزق، والأمن ولتُعمر، وتزدهر: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ) [24]. فهذا أسلوب صادق، ومشاعر جياشة، عن الولاء للوطن، وحبه، ورجاء الخير له.
وفي السيرة النبوية من النماذج المفصحة عن الولاء للوطن، وحبه ما يستحق إماطة اللثام عنها، ففي خبر نزول الوحي على النبي ﷺ، وقول ورقة بن نوفل له: "ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله ﷺ: «أومخرجي هم؟!!»، قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي"[25]، وشدة استغراب النبي صلى الله عليه سلم من هذا الإخراج القسري من الوطن بقوله: " أو مخرجي هم؟" دليل على تعلق الوجدان والقلب بالأوطان، وحسرة النفس، وتألمها إذا أخرجت منه بالقهر والغصب، ولذلك قال ﷺ بعد هجرته من وطنه الأول مكة إلى وطنه الثاني المدينة: "اللهم حبب إلينا المدينة، كما حببت إلينا مكة أو أشد"[26]، ومع ذلك لا يزال قلب النبي ﷺ شغوفا بحب موطنه الأول مكة المكرمة، وحنينه وشوقه إليها فقال : "ما أطيبك من بلد، وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك"[27].
3 - المساواة:
المساواة من بين الركائز والأسس التي تنبني عليها القيم الوطنية الجامعة، فلا يتحقق مفهوم المواطنة بدونها؛ بمعنى آخر فالمواطن لا يعتبر مواطنا كامل المواطنة في بلده حتى يتمتع بحقوق المساواة التي يكفلها له الدين الحنيف، والأعراف الجاري بها العمل؛ بغض النظر عن أي فروق أو اعتبارات طبيعية: كاختلاف في اللون، أو الجنس، أو العرق، أو فروق ثقافية، أو عقائدية، أو سياسية، أو غيرها من الفروق والاختلافات؛ التي تخرج بطبيعتها عن مضامين العقد المؤسس للانتماء للوطن الواحد، المبني على أسس العيش المشترك، والمساواة من خلاله في الحقوق والواجبات مع كافة أبناء الوطن.
ولهذا تعتبر المساواة ركيزة أساسية، ولبنة مهمة في تجسيد مفهوم المواطنة، وعندما نقول أن المساواة لها ارتباط بالمواطنة فنعني به: المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين، دون تمييز أو تفضيل، وبالتالي تحييد وإزالة الانتماءات الأخرى التي تعكس ألا مواطنة، أو المواطنة السلبية.
ولا شك أن المجتمعات والدول التي تطبق مبدأ المساواة بين مواطنيها وتحافظ عليه؛ فإن ذلك يضمن لها بشكل ناجع فعالية المشاركة الإيجابية للمواطنين في بناء أوطانهم، ويضمن الأمن الاجتماعي في بلدانهم، ويحافظ على أسباب استقرار تماسك الدولة (الوطن)، حال حدوث أزمات طارئة: كضعف مؤسسات الدولة، أو غيابها في إدارة الوطن.
لقد دعا الإسلام إلى هذا المبدأ من خلال الآيات القرآنية والسنة النبوية، حين جعل المساواة في الحقوق والوجبات دون تمييز بين المواطنين في الدولة الإسلامية فرضا واجبا، ومنهجا مقررا، قال تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [28].
أما مفهوم المساواة في الحديث النبوي فمنه ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي ﷺ، قال: "لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا إنما هم فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجُعل الذي يدهده الخراء بأنفه، إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء؛ إنما هو مؤمن تقي، وفاجر شقي، الناس كلهم بنو آدم، وآدم خلق من تراب"[29].
وقد اشتد غضب النبي ﷺ يوما حين سمع أبا ذر الغفاري رضي الله عنه يعير بلالا الحبشي رضي الله عنه بلونه فقال له: «يا أبا ذر أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم»[30].
أما في السيرة النبوية فنصوص صحيفة المدينة تشهد لهذا المبدأ العظيم، حين أكدت على المساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين في مجتمع المدينة، المسلمين وغيرهم فقد جاء فيها في جانب الواجبات: (وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين) [31]، وفي الحقوق: (وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين) [32]، ( وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم؛ إلا من ظلم وأثم؛ فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته) [33]، (وإنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم أو أثم) [34].
الخاتمة:
وفي ختام هذا المقال خلصت إلى الآتي:
- أن القيم الوطنية الجامعة تعد رافدا مهما من روافد بناء الأوطان، وتعزيز الأمن والاستقرار فيها، وازدهارها وتقدمها، وحمايتها من دواعي الضعف والوهن.
- أن أهمية هذه القيم الوطنية تستدعي منا الاعتناء بها: تعريفا، وتكشيفا، وتفعيلا لها في مقررات التربية والتعليم، وفي برامج السياسة، والإدارة، والإعلام... وغيرها.
- أنه لكي نحقق المواطنة الصالحة الفاعلة في مجتمعاتنا؛ لابد من الاعتناء بأسسها، ومبادئها، ومرتكزاتها التي تبنى عليها؛ لأن فقدان هذه الأسس سيؤدي لا محالة إلى إخلال بمفهوم هذه المواطنة الصالحة.
- من أهم الأسس التي تقوم عليها القيم الوطنية ثلاثة وهي: الانتماء، والولاء، والمساواة. وقد بينت معانيها، ونماذج لها من القرآن الكريم، والأحاديث النبوية، والسيرة العطرة.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
*****************
هوامش المقال:
[1] الأنعام: من الآية 163.
[2] تهذيب اللغة: للأزهري (9 /267-268)، مادة: (قوم).
[3] فصلت: من الآية: 5.
[4] مختار الصحاح: للرازي (ص: 232-233)، مادة (قوم).
[5] تهذيب اللغة: للأزهري (14 /21)، مادة: (وطن).
[6] انظر: علم النفس الاجتماعي: لجودت بني جابر (ص: 288).
[7] معجم التعريفات: للجرجاني (371).
[8] الموسوعة العربية العالمية (27 /113).
[9] انظر: واقع القيم الوطنية في كتب التربية الاجتماعية والوطنية: د. عيد حسن الصبحيين (ص: 139).
[10] انظر: التربية الوطنية في الإسلام : آلاء علي فالح الزعبي (ص: 17).
[11] الفتح: 18-19.
[12] آل عمران: 172-173-174.
[13] المحرر الوجيز: لابن عطية (1/ 542).
[14] أخرجه ابن ماجه في سننه (ص:527 )، كتاب: المناسك، باب: فضل مكة (3108). قال ابن حجر في فتح الباري (3/ 88):" حديث صحيح؛ أخرجه أصحاب السنن، وصححه الترمذي، وابن خزيمة، وابن حبان، وغيرهم".
[15] السيرة النبوية: لابن هشام (2 /143).
[16] تقدم توثيقه.
[17] التربية الوطنية في الإسلام: ذ. آلاء علي فالح الزعبي (ص: 44).
[18] انظر : الولاء والانتماء: لمحمود قظام السرحان (ص: 41).
[19] المائدة: 57-58.
[20] تقدم توثيق الآية.
[21] تقدم توثيق الآية.
[22] الجامع لأحكام القرآن: للقرطبي (3/ 144).
[23] أخرجه مسلم في صحيحه (ص: 40)، في كتاب: الإيمان، باب: بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان (43) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
[24] البقرة: من الآية: 125.
[25] أخرجه البخاري في صحيحه (ص: 8)، في كتاب: بدء الوحي ، باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ (3) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[26] أخرجه البخاري في صحيحه (ص: 1588)، في كتاب: الدعوات، باب: الدعاء برفع الوباء والوجع (6372) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[27] أخرجه الترمذي في جامعه (ص: 880)، في كتاب: المناقب عن رسول الله ﷺ، باب: في فضل مكة (3926) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وقال الترمذي: " هذا حديث حسن صحيح".
[28] الحجرات: 13.
[29] أخرجه الترمذي في سننه (885)، في أبواب المناقب عن رسول الله ﷺ (3955) وقال الترمذي:" حديث حسن".
[30] أخرجه البخاري في صحيحه (ص: 18)، في كتاب: الإيمان، باب: المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك (30).
[31] السيرة النبوية: لابن هشام (2 /144).
[32] السيرة النبوية: لابن هشام (2/ 144).
[33] السيرة النبوية: لابن هشام (2/ 144-145).
[34] السيرة النبوية: لابن هشام (2/ 146).
********************
لائحة المصادر والمراجع:
التربية الوطنية في الإسلام: آلاء علي فالح الزعبي، رسالة ماجستر، كلية الشريعة، قسم الدراسات، 1428هـ/2007م.
تهذيب اللغة: لأبي منصور محمد بن أحمد الأزهري الهروي، ت: محمد عوض مرعب، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، ط1، 1421هـ/2001م.
الجامع لأحكام القرآن: لأبي عبد الله محمد بن أحمد القرطبي، دار الكتب العلمية، 2013م.
السنن: لأبي عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزويني، باعتناء: مشهور حسن آل سلمان، مكتبة المعارف، الرياض، ط1، (د. ت).
السنن: لأبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي، باعتناء: مشهور حسن آل سلمان، مكتبة المعارف، الرياض، ط1، (د. ت).
السيرة النبوية: لأبي محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري المعافري، اعتناء: د. عمر عبد السلام تدمري، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، ط3، 1410هـ/1990م.
صحيح البخاري: لمحمد بن إسماعيل البخاري، دار ابن كثير، دمشق-بيروت، ط1، 1423هـ/2002م.
صحيح مسلم: لأبي الحسين مسلم بن الحجاج، ت: نظر محمد الفاريابي، دار طيبة، الرياض، ط1، 1427/2006.
علم النفس الاجتماعي: لجودت بني جابر، مكتبة دار الثقافة للنشر و التوزيع، عمان، الأردن، ط1، 2004م.
فتح الباري شرح صحيح البخاري: لأحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي، دار السلام، الرياض ، ط1، 1421هـ/2000م.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز: لأبي محمد عبد الحق ابن عطية الأندلسي المحاربي، ت: عبد السلام عبد الشافي محمد، دار الكتب العلمية – بيروت، ط1، 1422 هـ/2001م.
مختار الصحاح: للرازي، مكتبة لبنان، بيروت، 1986م.
معجم التعريفات (قاموس لمصطلحات وتعريفات علم الفقه واللغة والفلسفة..): لعلي بن محمد الزين الشريف الجرجاني، مؤسسة محمد السيد مصطفى، ودار ميراث النبوة، القاهرة، ط1، 1442هـ/2021م.
الموسوعة العربية العالمية، مؤسسة أعمال الموسوعة للنشر والتوزيع، الرياض، ط2، 1419هـ/1999م.
واقع القيم الوطنية في كتب التربية الاجتماعية والوطنية: د. عيد حسن الصبحيين، ود. مصطفى جويفل، ود. محمد عوده الرفوع، بحث منشور في مجلة دراسات نفسية وتربوية، عدد 17 ديسمبر 2016م .
الولاء والانتماء لدى الشباب الأردني وأثره في بناء الشخصية: محمود قظام السرحان، مطبعة التوفيق، عمان، 2003م.
*راجع المقال الباحث: يوسف ازهار