الرابطة المحمدية للعلماء

القرآن والإنسان موضوع الملتقى السادس للقرآن الكريم

الإنسان في القرآن الكريم يبرز باعتباره مكلفا بالخطاب القرآني ومسؤولا عن الخلافة في الأرض

ذة. مونية الطراز

كعادته في شهر  ماي من كل سنة، وجريا على سنة سنها الدكتور الإمام فريد الأنصاري – رحمه الله- نظم المجلس العلمي المحلي بمكناس أيام 22/23/24 ماي الملتقى السادس للقرآن الكريم حول موضوع: “القرآن والإنسان” تحت شعار قوله تعالى:” لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم”، وكان ذلك برحاب المركب الثقافي والإداري لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، حيث اجتمع ثلة من العلماء والأساتذة الأجلاء حول مائدة القرآن لتدارسه وبحث مركزية الإنسان في خطابه، و الكشف عن مواضع الهداية فيه ، وسبر دلائل نصوصه على بناء حضارة الإنسان واستئناف سير الأمة الراشد.

وقد كان انطلاق أشغال الملتقى صباح يوم السبت، بعد جلسة افتتاحية قدمتها الأستاذة لطيفة الكريني، حيث ناولت الكلمة السيد رئيس المجلس العلمي المحلي بمكناس الدكتور محمد السيسي فرحب بالحضور أولا، ثم بلغ الرسالة الشفوية للكاتب العام للمجلس العلمي الأعلى السيد محمد يسف الذي لم يتمكن من حضورأشغال الملتقى. وقد أشار الدكتور السيسي في كلمته إلى دور الإنسان في القرآن، وأكد على أن القرآن لم ينزل إلا من أجل الإنسان في كل أبعاده النفسية والاجتماعية، الدنيوية والأخروية، الروحية والجسدية.

وتفضل الأستاذ محمد المودني بعده بإلقاء كلمة اللجنة المنظمة، فثمن الدور الذي أصبحت تقوم به ملتقيات القرآن الكريم، ونبه إلى فضل الدكتور فريد الأنصاري في سن هذه السنة الحميدة، وذكر في سياق حديثه عن الملتقيات السابقة بالمحاور التي دارت حولها، وقدم نظرة عامة عن المواضيع التي سيعالجها الملتقى، كما بين وجوه خدمتها للمحور العام ” القرآن والإنسان”. ونوه في ختام كلمته بدور لجنة الأبحاث والدراسات التابعة للمجلس العلمي في الإعداد لهذا الملتقى.

 ولم تخل كلمات الافتتاح من عبارات الترحيب بالحضور وعلى رأسهم السيد والي جهة مكناس تافيلالت وباقي أعيان المدينة وعموم الضيوف من داخل مكناس ومن خارجها.

وحول محور “صناعة الإنسان في القرآن على مستوى الاعتقاد” دارت مداخلات الندوة الأولى، حيث تقدم الدكتور حميد الوافي بعرض تحت عنوان ” التفكر في الآيات ومنهج بناء تفسيرالوجود” فصل فيه القول في محل الأمر بالتفكروالغاية منه، وبين مقاصد الأمر به في القرآن الكريم ثم بين أن معارف القرآن ترجع إلى معنى تفسير الوجود ومعنى تدبير الموجود، وأشار إلى أن الاختلاف بين الناس راجع إلى الخلاف في المرجعية والاختلاف في تفسير الوجود وغايته، وانتقل بعد ذكر صيغ ورود التدبر في القرآن الكريم إلى توضيح مجالات التفكر، وذكر أن محلهما يشمل آيات الكون كما يشمل آيات الكتاب، وبين أن مقصد الأمر بالتفكر في الكون وآياته هو بيان عظيم فعل الله تعالى والتنبيه إلى مصدرية الكتاب والنبوة، وخلص فضيلة الدكتور إلى أن غايات التفكر ومقاصده تعود إلى تصحيح الاعتقاد وبنائه وإلى إسلام الانقياد للكتاب.

ومن جهته سعى الدكتور أحمد العمراني في مداخلة بعنوان” نحو بناء للإنسان من خلال نداءات القرآن” إلى إبراز مكانة الإنسان في القرآن، فبين أن الإنسان في الخطاب القرآني له ثلاث وظائف هي جماع مهمته الدنيوية، وهي مرتكزة على مفاهيم الخلافة والعمارة والعبادة، وأشار في مداخلته إلى ثلاثة نداءات قرآنية تدعو الإنسان إلى تحقيق التوازن في سعيه بين طلب الدنيا والتعلق بالآخرة.

وفي محاولة لبيان خصائص رسالة القرآن شدد الدكتور عبد الرحمان بودراع في مداخلة بعنوان” رسالة القرآن الشاملة: لسان القرآن الخاص وخطابه العام” على عربية القرآن وشموليته وعالميته ووسطيته، وأماط اللثام في تحليله عن بعض تلك الخصائص، وخص بالذكر مقصد تحقيق سعادة الدارين الذي تهدف إليه رسالة القرآن، وكذا التوسط وعدم الغلو في الدين، والسماحة والإحسان إلى المخالفين…إلخ. وأشار فضيلته إلى أن عربية القرآن لا تعني أنه خاص بالعرب وحدهم بقدر ما تعني أن لسان القرآن كان أجدر أن يبني وحدة الأمة بما تتميز به  لغته من خصائص وبديع نظم وحسن سبك وبلاغة، ودعا في الختام إلى ضرورة استعادة هذه الخاصية بإحياء اللسان أولا وبتصحيح التصور والاعتقاد ثانيا حتى يكون التمكين لرسالة الإسلام بين الأمم.

ولقد كللت أشغال اليوم الأول من أيام الملتقى بمحاضرة ليلية ألقاها فضيلة الدكتور محمد الروكي حول موضوع ” القرآن وتدبير أمر معاش الإنسان”، وضح فيها أن القرآن هو أصل الشريعة الأول ففيه تفصيل كل ما يحتاج إليه الإنسان، كما فيه علاج كبريات القضايا التي تشغل عقله وتفكيره في مختلف المجالات، وبين فضيلته أن خصوصية القرآن الكريم تتمثل في النص على كليات الأحكام وترك التفصيل لبيان السنة، كما أشار إلى أن القرآن عالج المعاش والمعاد معا، واستدل على ذلك باهتمام النص القرآني بتدبير معاش الإنسان من خلال تنظيم المعاملات المالية لكون المال هو قوام الحياة والخادم للكليات كلها، فالقرآن الكريم تولى تأسيس النظام المالي وبين أهم أصوله، كما وضع قوانين واضحة في طرق تكسبه وتدبير المعاش بالتبع بما يحقق مصالح الإنسان ومنافعه. وأشار الدكتور الروكي إلى الحقوق الإلزامية والطوعية المتعلقة بالمال، وبين كيف تدرج التشريع الحكيم في تحريم الربا وكيف سما بالنفوس إلى منازل البذل والعطاء.

أما الندوة الثانية التي عالجت موضوع ” صناعة الإنسان في القرآن على مستوى التربية” فقد افتتحت مساء اليوم الثاني بمداخلة الدكتور عبد الرحمان حيسي الذي تطرق إلى موضوع ” القيم الإنسانية في القرآن الكريم ” حيث أبرز أن رسالة الدين الإسلامي اهتمت بالأخلاق أساسا، ووضح أن القيم الإنسانية في القرآن الكريم تشترك مع القيم العالمية بل تفوقها، فوقف عند مبدأ الكرامة كقيمة إنسانية كبرى، وكذلك مبدأ الأخوة، ومبدأ الحرية والتسامح الديني، ومبدأ الرحمة والإحسان، وقدم على ذلك شواهد من النصوص الشرعية، وختم مداخلته بالحديث عن مبدأ العدل كقيمة إنسانية كبرى وسنة كونية عامة، وأمر واجب تتحقق به المساواة ويتحقق بتحقيقه السلم الاجتماعي.

وفي موضوع بعنوان “تزكية الأنفس من خلال القرآن الكريم” كشف الدكتور زيد بوشعراء عن أسرار استعمال القرآن الكريم لمصطلح التزكية، وبين أن الكشف عن هذه الأسرار هو المنطلق نحو إصلاح الإنسان، وأوضح أن في القرآن ثلاث قواعد للتزكية أولها التزكي قبل التزكية، وثانيها التزكية قبل التعليم، وثالثها التزكية بمعنى التطهير والتنمية مع مراعاة سبق التطهير، وأكد فضيلة الدكتور أن من مقدمات التزكية تنمية مؤهلات الفهم وتوسيع مصادر المعرفة، حيث بين أن ذلك يمكن أن يتحقق بشرط إحياء جهاز الاستقبال وجهاز الفهم عبر بوابة الإيمان، وذكر أيضا ضمن مقدمات التزكية (أو سوابقها) تنمية الهمة، حيث إن مجالها يتجاوز – حسبه – الاهتمام بالنفس وإصلاحها إلى الاهتمام بالغير وإصلاحه.

أما الدكتور بوشعيب محمادي الذي شارك بموضوع “منهاج القرآن في تربية النفس الإنسانية” فتحدث عن المنهاج والشرعة، وبين حدهما والفرق بينهما، وتطرق إلى مفهوم التربية ودلالاتها الشرعية، واتخذ هذا المدخل المفاهيمي كمهاد نظري اعتمد عليه في بيان المنهاج الذي اتخذه القرآن لتهذيب نقائص النفس الإنسانية من حيث هي مادة ومن حيث هي روح، وأوضح المحاضر المسلك القرآني في بيان الطبيعة الممزدوجة للإنسان وكيف يعلمه حقيقة الكون وحقيقة نفسه.

وعلى سبيل الموافقة لما جاء في كلمة الدكتور محمادي، تناول الدكتور الحسين آيت السعيد الكلمة بعده فتحدث عن “البعد الأخلاقي في تربية الإنسان بالقرآن” وبين أن الإنسان له من الأخلاق بعدان: بعد من الأخلاق الحميدة، وبعد من الأخلاق الذميمة، فالأولى قصد القرآن ترسيخها وتنقيتها، وبث فيها قوام تجددها واستمرارها ونمائها، و الثانية قصد محاربتها وإحلال النبل بدلها ، وبين أن منهج القرآن في التعرض إلى الأخلاق الحميدة هو التوسع والتفصيل لأنها مقصودة بالأصل، بينما ينهج في تعامله مع الأخلاق الذميمة منهج عدم التوسع في تفصيلها، لكونها عرضية، ولأن المقصد من ذكرها التنفير. وفي بيانه لمنهج القرآن في تناول الجانب النفسي للإنسان أكد المحاضر على أن الأسلوب القرآني يعتمد الكشف والرصد لخلجات الصدور، ثم يعمد بعد ذلك إلى وصف العلاج الشمولي للصفات الذميمة، ويراعي طبائع النفوس التي يخاطبها، ويساير مستوياتها المختلفة في عملية التزكية.

ولقد كانت المحاضرة الليلية التي ألقاها الدكتور أحمد عبادي مسك ختام الندوات، حيث أتحف الجمهور بمداخلة متميزة تحت عنوان “القرآن والإنسان” تحدث فيها عن علاقة الإنسان بالكون وبالوحي، وذكر أنها علاقة تفكر وتدبر وتسخير وتيسير، وبين أن الإنسان في القرآن الكريم يبرز باعتباره مكلفا بالخطاب القرآني ومسئولا عن الخلافة في الأرض، كما أوضح فضيلته أن الوحي في المجال الكوني يعمل طوعا وتقديرا وهداية، إذ يكون التفاعل تلقائيا، بيد أن الوحي في المجال الإنساني يحدد القبلة والوجهة ويسطر مسالك الهداية. وفي حديثه عن حوار الإنسان مع الكون أشار الدكتور إلى أن هذا الحوار له أبجد وسنن إذا أغفلت تعرض الإنسان لخطورة ما أسماه ب”عبثية الوجهة “،ذلك أن الكون من طبيعته التجاوب الذي لا يمييز بين مؤمن وكافر، ومن جهة أخرى ذكر أن الحوار مفتقر إلى بيان القرآن الكريم لمعرفة خارطة هذا الكون والسر في وجوده والمقصد من خلقه، وخلص إلى أن الحوار مع الكون ومع الوحي مسؤولية الإنسان وحده فردا واجتماعا. وفي هذا السياق  نبه الدكتور إلى دور هذا  الحوار في إخراج الأمة من الفرد وفي إخراج الفرد الأمة، وأشار إلى أن هذا من شأنه أن يؤدي إلى انسجام هذه الأمة وانتظامها حول وحدة القبلة، بل ويقلدها المسئولية في هداية الأمم الأخرى للتي هي أقوم، ولم يفت الأستاذ المحاضر أن يذكر الحضور بأن الأمة الفرد لاتكون إلا بالوعي بسنن الكون وقوانينه والوعي بخضوعها لهذه السنن، بل وإمكان تجاوز هذا الخضوع، وأبان فضيلته أن المدخل الواسع نحو هذا الحوار ونتائجه هو مدارسة القرآن الكريم في المجالس وعدم الاكتفاء بمستوى الإلقاء. وختم الدكتور عبادي محاضرته القيمة بالتنويه بهذا الملتقى القرآني الكريم، واعتبر أنه مناسبة حقيقية للتدارس، منبها إلى أن الأمة اليوم على عتبة عهد قرآني جديد تحتاج فيه إلى أمثال هذا الملتقى.

و في اليوم الثالث من أشغال الملتقى دعي الحاضرون إلى جلسة قرآنية برحاب مسجد محمد السادس بمكناس لحضور ثلاث ختمات للقرآن الكريم ترحما على الملكين الراحلين، وللدعاء لأمير المؤمنين محمد السادس، كما دعوا إلى أمسية لتجويد القرآن الكريم بنفس المسجد كانت خاتمة أشغال الملتقى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق