وحدة الإحياءأعلام

الفكر المقاصدي لابن رشد الحفيد

 لعل من أبرز المفارقات التي لايحسن بالباحث تجاهلها في معرض الحديث عن التراث الفقهي لأبي الوليد محمد بن رشد الحفيد(595ﻫ)، هي أن الرجل على الرغم من اشتهاره بالحكمة و التفلسف على نحو طغى على شخصيته العلمية، فإنه في منهجه الفقهي كان يغلب عليه الميل الشديد لاعتماد الأثر والنقل، والنفور من إحداث قول لم يسبق إليه، والتشنيع على من ارتضى استعمال القياس العقلي في حال وجود النص عن الشارع، ومقولته: “لامعنى للنظر مع الثابت من الأثر”[1]، برهان ساطع على ذلك، إضافة إلى أنه كان يؤمن بضرورة التمسك بالمرويات المسموعة في مقابل الأقيسة المستنبطة، ولا يرى العدول عنها، إلا في حال التعذر العلمي كحال الجهل وعدم الدراية فقط، فمثلا عندما عرض مذهب ابن أبي ليلى القائل بوجوب الثمرة للمشتري لبستان نخل في كل الأحوال: سواء أبرت النخل فيه أو لا… اعتبره قولا بلا معنى، وذلك لأنه يجعل القياس في معارضة الحديث، وعنده لا يوجد مبرر لترك الحديث إلا في الحالة المذكورة[2].

 لكن أثرية ابن رشد مطبوعة بطابع مقاصدي ملحوظ، ونظر مصلحي بارز، والتفات إلى مآلات الأفعال، وحقائق الأقوال دون جمود على الظواهر والمباني.

التصور المقاصدي للشريعة الإسلامية

 يمتلك ابن رشد الحفيد تصورا لمجمل الشريعة الإسلامية ينسجم مع رؤية كلية مقاصدية تسند إلى ثقافة ذات بعد موسوعي تجمع بين الفلسفة والفقه في سلك واحد، وذلك ما جعله في كثير من الأحيان لايتوقف عند حدود الألفاظ والأشكال والصور التي أتى بها الشارع، بل يتجاوزها إلى سبر المعاني الكامنة، والبحث عن الأهداف والغايات والحكم التي رام المشرع الحكيم إيصال المكلف إليها.

 ويمكن مقاربة التصور المقاصدي لابن رشد الحفيد من خلال المعالم التالية:

أ. عدم التفريق بين العبادات والعادات

 من أبرز المظاهر على منزعه التقصيدي للشريعة الإسلامية، انتصاره لمبدأ معقولية الأحكام الشرعية بإطلاق، ثائرا على التفريق السائد بين: معاملات تدرك معانيها، وبين عبادات لا يتوصل العقل إلى فقه مغزاها، معتبرا هذا التفريق عجزا مغلفا، ومرجعا تشبث الفقهاء به إلى الفقر المعرفي وضعف الإدراك لا أكثر. يقول موضحا ذلك، بعد أن يقرر تصوره لأحكام الفقه الإسلامي و أنها جارية وفق المعاني والحكم، “… وإنما يلجأ الفقيه إلى أن يقول: عبادة. إذا ضاق عليه المسلك مع الخصم، فتأمل ذلك فإنه بين من أمرهم في أكثر المواضع”[3]. فاللجوء إلى رفع مقولة التعبدي –عنده- يأتي بعد توقف القدرة على إدراك التعليل، وعجز التفكير عن استكناه الغاية الشرعية، وهذا شيء صرح به ابن عابدين بكل وضوح في رد المحتار، حيث قال: “ما شرعه (الله) إن ظهرت حكمته لنا قلنا: إنه معقول، وإلا قلنا: إنه تعبدي”[4].

 ويظهر أن هذا الرأي لم يسبق إليه أحد من الفقهاء قبل ابن رشد-رغم أنه اعتبره أمرا واضحا لا يحتاج إلا للقراءة التأملية في المنتج الفقهي الواسع- وحتى بعده كانت السيادة المطلقة لنظرية التفريق التي كان الشاطبي(790ﻫ) خير معبر عنها بقوله: “… والقاعدة المستمرة في أمثال هذا: التفرقة بين العبادات والمعاملات، فما كان من العبادات لا يكتفى فيه بعدم المنافاة دون أن تظهر الملاءمة، لأن الأصل فيها: التعبد دون الالتفات إلى المعاني. والأصل فيها: أن لا يقدم عليها إلا بإذن، إذ لا مجال للعقول في اختراع التعبدات، فكذلك ما يتعلق بها من الشروط.

 وما كان من العاديات يكتفى فيه بعدم المنافاة، لأن الأصل فيها: الالتفات إلى المعاني دون التعبد، والأصل فيها: الإذن حتى يدل الدليل على خلافه”[5]. وهو يكرس نفس الفكرة التي سطرها من قبله العز بن عبد السلام (660ﻫ) القائل: “المشروعات ضربان أحدهما: ما ظهر لنا انه جالب لمصلحة أو لمفسدة أو جالب لمفسدة أو جالب لمصلحة ويعبر عنه بأنه معقول المعنى، الضرب الثاني: ما لم يظهر لنا جلبه لمصلحة أو درؤه لمفسدة ويعبر عنه بالتعبد”[6].

 نعم، قد نجد بعض الفقهاء يضيقون من دائرة الحكم التعبدي، فيجعلون له المساحة الأقل من مجموع أحكام الشريعة كما نجده عند ابن دقيق العيد(702ﻫ) في قوله: “متى دار الحكم بين كونه تعبدا وبين كونه معقول المعنى، كان حمله على كونه معقول المعنى أولى، لندرة التعبد بالنسبة إلى الأحكام المعقولة المعنى”[7]، لكن دون أن يصل الأمر إلى الاعتقاد بمعقولية جميع أحكام الشريعة.

 ولايعارض ذلك بما نقل عن بعض المتأخرين -وهوالشيخ محمد بن عبد الكبير الكتاني- أنه قال: “قول أهل الفروع: هذا تعبدي. هو عجز منهم عن بيان الحكمة والسر. والشرع كله مكشوف لأهل العلم بالله ليس عندهم فيه شيء غير معقول المعنى”[8]. فإنه يلاحظ بشأنه شيئان اثنان:

 أولهما: أن الفكرة التي عبر عنها الكتاني هي نفسها الفكرة التي وردت عن ابن رشد في كتابه لم يزد عليها ولم ينقص، فلا يبعد أن يكون استقاها منه، أو على الأقل اطلع عليها لا سيما والكتاب معروف متداول.

 وثانيهما: أن قول الكتاني يستشف منه نزعة عرفانية لائحة من خلال عبارات: ” أهل الفروع” و”السر” و” الكشف” و”أهل العلم بالله“، فلعله يقصد هاهنا بمعقولية المعنى الإدراك الذوقي للشريعة المستند إلى الوجدان والإحساس الآتي في سياق التجربة الصوفية. وليس هذا يقينا مطلوب من رام التأصيل لنظرية معقولية وتعليل كل ما ورد في الشريعة من أحكام، وعدها جميعا ذوات مقصود مبين، وغاية مرتجاة، فمعقولية المعنى بهذا التحديد: مجموعة من المعاني يشترك في إدراكها كل من كان ممتلكا للأدوات المعرفية والفكرية اللازمة، وقد يشارك فيها عقلاء بني الإنسان من كل جنس ودين.

 فصَحَّ لنا أن ابن رشد كان رائد فكرة معقولية جميع الأحكام الشرعية معاملات وعبادات دونما تفريق أو تمييز، فالشارع واحد ومن مقتضيات الوحدانية أن تكون جميع شرائعه جارية على نسق واحد، يدركه من كان به خبيرا، ويعثر عليه من كان عنه باحثا.

ب. في العمليات لاحاجة للبرهان المنطقي

 يشكك د. حسن حنفي في صحة نسبة كتاب “بداية المجتهد” إلى ابن رشد الحفيد، بانيا شكه وارتيابه فيه على ما رأى أنه خلو الكتاب مما أسماه “الروح الرشدية” كما عرفت فلسفيا، ونظرا لما اعتبره جمودا على التقسيم الكلاسيكي، ومجاراة لنمط الفقه القديم في الوصف، والتخريج، والترجيح، إضافة إلى غياب الاتجاه الاجتهادي فيه رغم أن العنوان يتضمنه[9].

 والحق أن هذا التشكيك قد بدر من طائفة من العلماء والباحثين قديما وحديثا، والسبب راجع -في اعتقادي- إلى طغيان صفة الفيلسوف على أبي الوليد الحفيد طغيانا كبيرا، كان تأثيره مختلفا على طائفتين من الناس:

 ـ إحداهما: نظرت إليه من زاوية الحكيم المتفلسف المتبحر في علوم الأوائل، فاستكثرت عليه أن يجمع إلى ما ذكر هذا العلم الغزير والدقيق بمادة الفقه، والإشراف على أسباب الاختلاف، واستحضار الأدلة، والقدرة على الترجيح.

ـ وثانيتهما: نظرت إليه من زاوية أنه فيلسوف مبتوت الصلة بالدين، منقطع الرجاء من عقائده وتعاليمه، فاستغربوا عليه نطقه بلغة الفقهاء، وإجادته قراءة منطق التشريع الإسلامي من داخله.

 وأما ما قيل عن خلوه من “الرشدية“، والتفكير العقلاني الصريح، فجوابه يكون بمعرفة أفكار ابن رشد نفسه على حقيقتها، واستنطاق رؤيته في الموضوع تحديدا دون إسقاط أو تحريف. ومما يجمل ذكره في هذا المقام أننا واجدون للجواب عن هذه الملاحظة كلاما بلسانه، لا بلسان غيره من الناس.

 يرى الحفيد أن العلوم تنقسم إلى علوم نظر، وعلوم عمل. فالأولى هي التي يطلب فيها البرهان العقلي. أما الثانية، أعني المختصة بالعمليات، فيقبل فيها ما هو أقل من مرتبة البرهان. بل لا يضر، عنده، انتهاج التقليد فيها! وذلك لأن السؤال فيها لا يكون إلا عن شيء واحد هو: ما مدى تأثيرها على العاملين؟ وهل في إمكانها إيصالهم إلى الفضائل والمكارم، أم لا؟

 بمعنى أن العمليات ليست بمجال أصلا للاشتغال العقلي وأدواته في النقد والتمحيص والتجريب لمعرفة الممدوح والمذموم، “فالممدوح عندهم (الفلاسفة) في هذه المبادئ الضرورية، هو ما كان منها أحث للجمهور على الأعمال الفاضلة، حتى يكون الناشئون عليها أتم فضيلة من الناشئين على غيرها”[10]. وحيث تحققت هذه الغاية، أو كان مظنونا تحققها، فإن البحث عن البرهان سعي في باطل، لأن: “الجميع متفقون على أن مبادئ العمل يجب أن تؤخذ تقليدا، إذكان لاسبيل إلى البرهان على وجوب العمل إلا وجود الفضائل الحاصلة عن الأعمال الخلقية والعملية”[11].

 إذا علم هذا، فإن من السعي الباطل أيضا، أن يجهد الباحثون أنفسهم في البحث عن ابن رشد البرهاني بين سطور كتاب يفترض هو مسبقا قبل كتابته أنه مختص بالمجالات العملية التي يقبل فيها بالتقليد، ويرضى فيها بحجج تنخفض قليلا أو كثيرا عن رتبة البراهين العقلية القاطعة، وينظر في قياسها إلى الثمرات والمآلات، دون كبير اهتمام بالمقدمات والدلائل العقلية القاطعة، فعنده: “ليس في طباع النظر الفقهي أن ينتهي في هذه الأشياء إلى أكثر من هذا…”[12].

ج. الأهداف التربوية للتكاليف والأحكام والآداب الشرعية

 يعد كتاب بداية المجتهد أهم أثر فقهي خلفه ابن رشد الحفيد، وهو كتاب مرتب بشكل محكم، فهو متألف من مجموعة أبواب كبرى سماها كتبا، ويفتتح بمقدمة أصولية غاية في الإحكام، وينتهي بخاتمة يقرأ فيها من زاوية مقاصدية منظومة القيم والأخلاق والآداب في الشريعة الإسلامية، جاعلا ذلك بديلا عن ما يعرف في كتب الفقه بباب الجامع الذي يخصص عادة لسرد ما يجب أن يتحلى به المسلم من جميل الصفات، وحسن الآداب، وقد قال أبو بكر بن العربي إن هذا الباب في الكتب الفقهية “اخترعه مالك في التصنيف”[13]. ومن الأمثلة الشهيرة على هذه الطريقة كتاب الرسالة لابن أبي زيد القيرواني.

 ولئن كان المعهود عند المؤلفين الفقهاء جعل الباب مكانا لسوق التعاليم، وسرد الآداب والسلوكات على نمط تلقيني متحد، فإن الجديد في جامع ابن رشد هو النظرة المقاصدية، والتعليل الفلسفي، وربط الأفعال بأهدافها وثمراتها المرجوة.

 إن ابن رشد يرى أن الشريعة الإسلامية كلها جاءت لتحقيق أربعة مقاصد أساسية سماها هو:

“فضائل” هي على التوالي:

1. فضيلة العفة.

2. فضيلة العدل.

3. فضيلة الشجاعة.

4. فضيلة السخاء.

وأما العبادات فإنه يرى أنها بمثابة الشرط الضروري لتثبيت هذه الفضائل داخل المجتمع وحمايتها.

 يقول في هذا الصدد: “السنن المشروعة العملية المقصود منها هو الفضائل النفسانية فمنها ما يرجع إلى تعظيم من يجب تعظيمه وشكر من يجب شكره وفي هذا الجنس تدخل العبادات وهذه هي السنن الكرامية ومنها ما يرجع إلى الفضيلة التي تسمى عفة وهذه صنفان السنن الواردة في المطعم والمشرب والسنن الواردة في المناكح ومنها ما يرجع إلى طلب العدل والكف عن الجور، فهذه هي أجناس السنن التي تقتضي العدل في الأموال ملكا تقتضي العدل في الأبدان وفي هذا الجنس يدخل القصاص والحروب والعقوبات، لأن هذه كلها إنما يطلب بها العدل.

 ومنها السنن الواردة في الأعراض ومنها السنن الواردة في جميع الأموال وتقويمها وهي التي يقصد بها طلب الفضيلة التي تسمى السخاء وتجنب الرذيلة التي تسمى البخل، والزكاة تدخل في هذا الباب من وجه وتدخل في باب الاشتراك في الأموال وكذلك الأمر في الصدقات.

 ومنها سنن واردة في الاجتماع الذي هو شرط في حياة الإنسان وحفظ فضائله العملية والعلمية وهي المعبر عنها بالرياسة، ولذلك لزم أيضا أن تكون سنن الأئمة والقوام بالدين، ومن السنة المهمة في حين الاجتماع السنن الواردة في المحبة والبغضة والتعاون على إقامة هذه السنن وهو الذي يسمى النهي عن المنكر والأمر بالمعروف وهي المحبة والبغضة أي الدينية التي تكون إما من قبل الإخلال بهذه السنن وإما من قبل سوء المعتقد في الشريعة”[14].

 إن ابن رشد يربط في هذا النص الجامع بين الوحدات التشريعية وبين ما يرومه الشارع عبرها من مقاصد تتعلق بالمكلفين إصلاحا لهم، وإقامة لهم على محجة الفضيلة التي تنطلق من تحقيق شرط نفسي هو بالذات روح العمل، بفقدانه تتحول الشرائع إلى طقوس ميتة، وأفعال لا تثمر أثرا ولا تترك نتيجة على الفرد فضلا عن المجتمع.

الترجيح بناء على المقاصد

 يضع القاضي ابن رشد نفسه خارج إطار الاختلافات الفقهية، ويتكلم عنها بلغة محايدة عنها إلى درجة يصل معها إلى إخراج نفسه من دائرة الفقهاء، فهو يتكلم عنهم بصيغة الغياب، ويقطع النسبة إليهم… من المقدمة يتحدث عن “الفقهاء الإسلاميين”، ويبدأ بالحديث عن الطهارة “على عادتهم”، ويردد مصطلح “الكلام الفقهي” ليرمز به إلى علم الأصول، ويصف من موقع خارجي ما اسماها “طباع النظر الفقهي” وهكذا دواليك…

 ومع كل ذلك فإن القاضي ابن رشد يجد نفسه مرات كثيرة ملزما بالفصل بين رأيين، ومعنيا بتفضيل مذهب على آخر، فيلجأ إلى منهجية الترجيح التي تقوم عنده في جزئها الأكبر على اللغة وعلومها، ساعيا إلى حل التعارض بين الأدلة، وتدبير الخلاف بين الفقهاء، والتدخل لبيان أرجحية طرف على آخر بناء على ما تشهد به مقتضيات منطق اللغة، ومباحث الألفاظ من: الحقيقة والمجاز، والظاهر والمؤول، والمحكم والمتشابه، المجمل والمبين، والمطلق والمقيد، والخاص والعام، و المستثنى والمستثنى منه.

 على أن الحفيد في مرات كثيرة من البداية كان يلجأ إلى الترجيح بناء على المقاصد، والغايات الشرعية، ومن الأمثلة الشاهدة على ذلك:

أ. عدم لزوم طلاق الثلاث بلفظ واحد

 اختلف رأي الفقهاء في الطلاق إذا وقع ثلاثا في اللفظ الواحد، فذهب جمهور فقهاء الأمصار إلى أن الطلاق بلفظ الثلاث حكمه حكم الطلقة الثالثة، وقال أهل الظاهر وجماعة حكمه حكم الواحدة ولا تأثير للفظ في ذلك[15].

 ولكل من الفريقين ما يستدل به من مرويات وآثار وعمل للصحابة والسلف، غير أن ابن رشد بعد تقريره لكل ذلك مال إلى اعتبار أن مذهب الجمهور الذين غلبوا حكم التغليظ في الطلاق سدا للذريعة، سيؤدي إلى إبطال الرخصة الشرعية والرفق المقصود الذي هدف إليه الشارع أصلا بتشريع تعدد الطلقات والمفهوم من قوله عز وجل: “لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً” [الطلاق: 1][16].

قال القرطبي (671ﻫ): “الأمر الذي يحدثه الله يقلب قلبه من بغضها إلى محبتها، ومن الرغبة عنها إلى الرغبة فيها، ومن عزيمة الطلاق إلى الندم عليه فيراجعها. وقال جميع المفسرين: أراد بالأمر هنا الرغبة في الرجعة”[17]. فقصد الشارع إذن هو المحافظة على أمل العلاقة وحصول التراجع بينهما وليس التغليظ على المكلف في هذا الأمر الذي لاتخفى خطورته على أحد. والحقيقة أن الحفيد بملاحظته النبيهة تلك، يشير إلى ظاهرة خطيرة ابتلي بها الفقه الإسلامي ولم يلتفت الفقهاء والأصوليون إلى تناقضها الصارخ مع مقاصد الشريعة وغاياتها، وأقصد بذلك التطبيق المتوسع فيه لأصل سد الذرائع احتياطا على نحو أدى إلى فتح باب عظيم من أبواب التضييق والحرج والعنت على الأمة بما يتعارض مع مراد الشارع من التكليف، ومسألة إيقاع طلاق الثلاث باللفظ الواحد من هذا الباب، فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنما أجراه على الناس سدا لذريعة تجرؤهم عليه وتساهلهم فيه من باب الاجتهاد كما تصرِّح به قولته الشهيرة:”إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم[18]. لكن النظر المقاصدي يفضي إلى أن هذا الاجتهاد تحول فيما بعد إلى حرج وتضييق لما وسعه الشرع من أمر الطلاق، فعارض بذلك المقصد والغاية من تعديد الطلقات وهو فسح المجال للتراجع بين الزوجين، ورأب الصدع الواقع في علاقتهما مرة ومرتين قبل الوصول إلى الحسم وهو الطلاق البات.

ب.الخلع للمرأة يقابل الطلاق للرجل

 تساءل أهل الفقه حول الحال التي يجوز فيها القبول بالخلع بين الرجل والمرأة، وقد حصَّل الحفيد من آرائهم خمسة أقوال هي:

1. إنه لا يجوز أصلا.

2. يجوز على كل حال أي مع الضرر.

3. إنه لا يجوز إلا مع مشاهدة الزنا.

4. يجوز فقط مع خوف أن لا يقيما حدود الله.

5. إنه يجوز في كل حال إلا مع الضرر وهو المشهور.

وبعد عرضه لمختلف الأقوال مال إلى ترجيح آخرها منبِّها على ملحظ مقاصدي قلما تنبه إليه الفقهاء عند تفريعهم المسائل المتعلقة بالخلع، وهو أن هذا الحكم الشرعي وضع في الأصل لضمان نوع من التوازن الأسري يعوض استئثار الرجل بحق الطلاق على اعتبار أنه الآخذ بالساق[19]. يقول رحمه الله: “والفقه أن الفداء إنما جعل للمرأة في مقابلة ما بيد الرجل من الطلاق فإنه لما جعل الطلاق بيد الرجل إذا فرك المرأة، جعل الخلع بيد المرأة إذا فركت الرجل”[20]. فيكون الخلع بهذا النظر صيغة من صيغ فض العلاقة الزوجية تختص بالمرأة، وتلجأ إليه -كما يلجأ الرجل للطلاق- عندما يفقد الارتباط بين الزوجين عناصر الألفة والمودة والرحمة والتساكن التي جهلها الله مقصد الزواج وغايته في قوله تعالى: “وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” [الروم: 21].

 خاتمة

 يبدو أن شخصية الفقيه الأثري الوقاف عند حدود ظواهر النصوص المنقولة، لم تلغ بشكل تام توجهاته التعليلية ونظراته المقاصدية في قراءة أحكام الشرع لكن مع التحفظ والحذر خشية الوقوع في المغالاة التي تؤدي إلى الخلط بين المصالح المتشعبة، وتضييع ما هو أعلى رتبة في سبيل تحصيل الأدنى بسبب فقدان ضوابط الترجيح وقوانينه، وشواهد الشارع ونصوصه…

الهوامش:


1. أبو الوليد محمد بن أحمد ابن رشد الحفيد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد.. تح: علي محمد معوض وعادل أحمد عبد الموجود، بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1418ﻫ، (1/468).
2. المصدر نفسه، (2/295).
3. المصدر نفسه، (1/110). وقد جاء قوله تعليقا على ما قاله الشافعية ردا على الأحناف في مسألة ما تزول به النجاسة.
4. محمد أمين ابن عابدين، حاشية ابن عابدين، (رد المحتار)، بيروت: دار الفكر، ط2، 1386ﻫ، (1/477).
5. الموافقات، (4/790).
6. قواعد الأحكام في مصالح الأنام، ص: 18.
7. شرح عمدة الأحكام، (1/26).
8. أحمد الريسوني، الفكر المقاصدي: قواعده وفوائده، الرباط: منشورات الزمن، 1999م، ص: 54. نقلا عن ترجمة الشيخ الكتاني الشهيد لنجله: محمد الباقر الكتاني، ص، مطبعة الفجر: 1962.
9. الاشتباه في فكر ابن رشد، عالم الفكر,أبريل/ يونيو 1999.
10. أبو الوليد محمد بن أحمد ابن رشد الحفيد، تهافت التهافت.. تح: أحمد شمس الدين، بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1421ﻫ، ص:395.
11. المصدر نفسه.
12. بداية المجتهد، م، س، (1/74).
13. محمد بن عبد الباقي الزرقاني، شرح الزرقاني على الموطأ، بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1411ﻫ، (2/190).
14. بداية المجتهد، م، س، (2/696 و697).
15. محمد بن أحمد القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، تح: أحمد عبد العليم البردوني. القاهرة: دار الشعب، ط2، 1372ﻫ، 1372ﻫ.
16. انظر: بداية المجتهد، م، س، (2/46).
17. المصدر نفسه، (18/156).
18. صحيح مسلم، كتاب الطلاق،رقم الحديث: 1472.
19. يستعمل الفقهاء هاته العبارة كثيرا، وهي مجتزأة من حديث: “إنما الطلاق لمن أخذ بالساق”، وقد أخرجه ابن ماجه، باب طلاق العبد، رقم: 2081 (1/672). لكنه حديث ضعيف سندا لأنه من طريق ابن لهيعة، انظر: أحمد الكناني، مصباح الزجاجة، تح: محمد الكشناوي، بيروت: دار العربية، ط2، 140، (2/131)، و ابن حجر العسقلاني، التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، تح: عبد الله المدني، المدينة المنورة، 1964، (3/219).
20. بداية المجتهد، م، س، (2/51).

د. أحمد غاوش

باحث في أصول الفقه

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق