مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات عامة

الفقه والفقهاء في غينيا

الفقه المالكي وأسباب انتشاره في غينيا:         

لم يُكتب لمذهب من المذاهب الفقهية حظٌ من الاستقرار وشدّة الإقبال عليه من النّاس – عوامّهم وخواصهم-  مثل ما اتفق للمذهب المالكي في غرب افريقيا، إذ غدا عامل وحدة معنوية، وجزءا من مكونات الشخصية الثقافية والفكرية للمناطق الإفريقية عموما.
لقد انتشر المذهب المالكي في أماكن كثيرة قبل انتشاره في إفريقيا السوداء، كالحجاز والشام. فظهر في بغداد ظهورا قويا زاحم فيه المذهب الحنفي، إلاّ أن اتساعه انكمش بعد القرن الرابع الهجري، ثمّ ضعف وخمد نهائيا بانتقال أبرز علماء المالكية بالعراق، الفقيه القاضي عبد الوهاب واستقراره بمصر.

أمّا مصر فقد انتشر فيها مع المذهب الشافعي، ونشط في عهد الدولة الأيوبية إذ عُمل به في القضاء استقلالا مع بقية المذاهب.

أمّا المغرب العربي عموما فقد حملت دولة الأدارسة التي تأسست سنة172هـ أهل المغرب الأقصى وما جاوره على التمذهب بالفقه المالكي، وقد كان للمعز بن باديس دور فعّال ما بين سنة (407هـ /453هـ) في استقرار المذهب المالكي في المغرب الأوسط وتونس، وحمل أهل هذه المناطق عليه وحسم النزاع بينه وبين المذهب الحنفي الذي كان منتشرا قبله، والقضاء على ما بقي من آثار المذهب الشيعي الموروث عن الدولة الفاطمية، ثمّ حاولت دولة الموحدين عندما سيطرت على المغرب الأقصى وما جاوره- أوائل القرن السادس – وخاصّة في عهد يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن – إظهار مذهب الظاهرية الذي نشط أتباعه في تلكم الفترة، وكانوا يسمون بالحزمية -نسبة لأحمد بن حزم الظاهري مؤسس المذهب-، وقد أقدم يعقوب بن يوسف على حرق كتب فقه المذهب المالكي، وكان من جملة الكتب التي لحقها الإحراق والإتلاف وصارت من الممنوعات: مدونة الإمام سحنون وكتاب الجامع لمسائل المدونة لابن يونس وكتاب النوادر لابن أبي زيد القيرواني، وتهذيب المدونة للبراذعي، وكتاب الواضحة لعبد الملك بن حبيب، غير أن هذه المحاولات باءت بالفشل واستمرت الغلبة والسيطرة للمذهب المالكي على الشمال الإفريقي طيلة اثني عشر قرنا ولا تزال إلى يومنا هذا، وفي ذلك يقول مالك بن المرحل المالكي:
مَـذْهَبِي تَقْـبِيلُ خَدِّ مُذْهِب  سيَّدي ماذا تـَرى في مَذْهَب

لا تُخَالِفْ مَالكًا فِي رَأْيـهِ              فَعَـلَيهِ جُـلٌّ أَهْـلِ المَغْـرِب[1]

وأما في غرب إفريقيا فقد  نشر المذهب المالكي فيها المجاهدون  القادمون من الشمال المغربي، والتجار والحجاج، وعقد لواء المذهب في غينيا  الفلانيون، فقد كان للدولة الفوتجلوية الإسلامية دور فعال في زرع المذهب فيها، فقد اعتنوا به أيما اعتناء، كما شمروا عن ساعد الجد من أجل صونه والاحتفاظ عليه، بذلوا قصارى  جهدهم في سبيل  نشره وبثه، وذلك بتعلم كتب الفقه المالكي وتعليمها، ودراستها وتدريسها، والتأليف فيه،  فخلفوا للأمة منثورات ومنظومات، في غاية الجودة والحسن.

أسباب انتشار المذهب المالكي في غينيا:

إنّ الأسباب التي ساعدت على انتشار المذهب المالكي في غينيا قد يطول الحديث عنها، وتحتاج في حدّ ذاتها إلى بحث أوسع وأعمق ممّا نقدمه، وقد حاولت في هذا البحث استقصاء بعض الأسباب والعوامل التي أدّت إلى استقرار المذهب المالكي في غينيا، وفي ظني أن سبب الانتشار السريع والواسع للمذهب المالكي في غينيا يعود إلى أمور هامة منها:

أولا: شخصية صاحب المذهب :

فإن الإمام مالك – رحمه الله – إمام دار الهجرة، لا يختلف اثنان في فضله، أقر بفضله الفاجر والبار، وقدمته القرى والأمصار، تضلع في الحديث رواية ودراية، كان من أثبت الناس في حديث المدنيين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأوثقهم إسنادا، وأعلمهم بقضاء عمر بن الخطاب، وأقاويل عبدالله بن عمر، وعائشة،-رضي الله عنهم- وفقهائهم السبعة، انتهت الرئاسة إليه، ووسد الأمر إليه، وضرب الناس أكباد الإبل إليه، شهد له بالعلم  من لا ينطق عن الهوى: (يوشك الناس أن يضربوا أكباد الإبل فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة)[2]، فما تمتع به الإمام من شخصية فذة، جمعت حوله كبار العلماء والمحدثين، وما تمتع به من علم واسع في العلوم الشرعية، له دور كبير في بث مذهبه ونشره في العالم، فقد كان كالشمس للدنيا، وكالعافية للبدن فانظر هل لهذين من خلف!.

ثانيا: العوامل السياسية:

للسياسة تأثير في انتشار المذاهب والأفكار، كما لها تأثير في انكماشها واضمحلالها، حدث ذلك كثيرا في تاريخنا الإسلامي، والأمثلة عليه لا تحصى، وقد تكون العوامل السياسية محورا أساسيا في حسم الصراع بين الأفكار والمذاهب، إلا أنّها ليست العامل الوحيد الدال على البقاء والزوال، وإذا انطبق الحال على بعض النِّحَل والمذاهب التي كانت الظروف السياسية هي الدافع الأساسي لبقائها وانتشارها، فإنّ هذا الإسقاط لا ينطبق على الفقه المالكي على وجه الخصوص، لوجود أسباب أخرى مكّنته من الاستمرار والاتساع، ومع ذلك فإن الدولة الإسلامية الفوتجلوية أسهمت إسهاما كبيرا في ترسيخ المذهب، حري بأن تحظى بالعناية بنشره وبثه، فقد هدى الله بهم أمماً عظيمة خرجت من ظلام الوثنية إلى نور الإسلام، لما رأوا دين الله وعدله ومحاسنه تظهر في سلوك وأخلاق هؤلاء الدعاة الكرام من أقوام الهادي البشير صلى الله عليه وسلم أسلموا طائعين ودخلوا في دين الله أفواجا، فزاد بهم عدد المسلمين وتوسعت بذلك رقعة البلاد الإسلامية. كما كان لهم دور عظيم في الفتوحات الإسلامية، وبث المذهب المالكي مما لم ينل حظه من التعريف به أو درسه ونشره، فقد شاركوا مشاركات كبيرة تحتاج إلى دراسة مستقلة.

ثالثا: سعة أصوله وقواعده:

وهي ميزة تميز بها عن غيره، إذ لا تتجاوز أدلة بعض المذاهب الأخرى السبعة أصول، بينما تصل أدلة الفقه المالكي إلى ستة عشر دليلا تنوعت بين المنقول والمعقول، وهذا إثبات لمرونته، ليكون من أكثر المذاهب الفقهية تخريجا وتفريعا، وأقدرها استيعابا لمستجدّات النّاس ووقائعهم.
رابعا: كثرة المؤلفات وتنوعها:

هذا من أهم المزايا التي يتصف بها المذهب المالكي، إذ إنّ خزانته الفقهية تزخر بأنواع المؤلفات المختلفة المشارب.

خامسا: دور كبار فقهاء الفلانيين:

بعد أن ترسخت أقدام الإسلام في البلاد كانت الأحكام تصدر وفق المذهب المالكي ولا تخرج عنه في المحاكم الشرعية، كانوا يرون الخروج عن دائرة المذهب إشعالا لنار الفتنة، فجاهدوا بألسنتهم وأقلامهم في إحيائه، وضحوا بمهجهم في سبيل نشره.

1 2 3 4الصفحة التالية
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق