مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات محكمة

الفقه والحديث في عهد المرابطين والموحدين2

محنة المالكية أيام العبيديين بإفريقية:

تنسب الدولة العبيدية الفاطمية إلى عبيد الله[1] بن محمد بن عبد الله بن ميمون، كان يدعي أنه من أولاد جعفر الصادق، ولقب بالمهدي، وهو ليس بهاشمي ولا فاطمي، وإنما أبوه يهودي حداد كان بسلمية-، هي بلدية بالشام من أعمال حمص- كان  فيه دهاء ومكر وحب كبير للتملك فسرى على أنموذج علي بن محمد الخبيث صاحب الزنج بحيث انتحل كثيرا من آراء الباطنية، فكان يقول إن لظواهر الآيات والأحاديث بواطن، هي كاللب، والظواهر كالقشر. وقال لكل آية ظهر وبطن، فمن وقف على علم الباطن فقد ارتقى عن رتبة التكاليف.

ونسبت إليه طوام أعظم من ذلك كادعاء الربوبية، ولذلك كان مبيحا للمحظورات يحل لنفسه ولخواصه ما يريد من غير قيد، ويدعي أنه نائب الشرع، يجوز له ما لا يجوز لغيره[2] . وكان ابنه القائم مثله زنديقا يسب الأنبياء ويرتكب العظائم، وكانا يكاتبان القراطمة في البحرين ويحرضانهم على حرق المساجد والمصاحف، وقد وقع منهم ذلك وأكثر، بحيث أخذوا الحجيج وقتلوا وسبوا واستباحوا حرم الله وقلعوا الحجر الأسود.

لما رأى عبيد الله المهدي في بداية أمره ما يرومه من الملك لا يمكن أن يحصل بالعراق ولا بالشام، بعث داعيين داهيتين هما الأخوان أبو عبيد الشيعي[3]، وبعثه إلى إفريقية، وأبو العباس وبعثه إلى اليمن.

استطاع الأول منهما أن يمهد القواعد للمهدي، ويوطد له البلاد بفضل دهائه وما أظهره من الزهد والتأله والمعرفة…

 تملك عبيد الله إفريقية وقتل كل من حاربه أو عارضه في تلك البلاد وما والاها كطرابلس وبرقة وصقلية، وقتل داعييه وعضديه أبي عبد الله الشيعي وأخيه أبي العباس ذبحا سنة 298هـ، وضيق الخناق على العلماء والفقهاء ليصرفهم عن المذهب السني عامة، والمذهب الفقهي المالكي خاصة، وحاربهم وعذب طائفة منهم، وأمعن في قتل كثير منهم، وبث أدعياءه يسبون الصحابة علنا وينالون منهم، ويسفهون المذهب المالكي وأصحابه. ذكر أبو الحسن القابسي في كتابه الملخص أن الذين قتلهم عبيد الله وبنوه أربعة آلاف في دار النحر في العذاب من عالم وعابد ليردهم عن الترضي عن الصحابة، فاختاروا الموت[4]، ونقل القاضي عياض عن أبي محمد الكستراتي أنه سئل عمن أكرهه بنو عبيد على الدخول في دعوتهم أو يقتل؟ قال: “يختار القتل ولا يعذر، ويجب الفرار، لأن المقام في موضوع يطلب من أهله تعطيل الشرائع لا يجوز[5]“.، ولئن فر عدد من الناس فقهاء وغيرهم واختفى آخرون خوفا على دينهم وسنيته، فإن جمعا من العلماء فضلوا الصمود والمقاومة دفاعا عن العقيدة وذودا عن المذهب المالكي، وقد سجل لهم ابن ناجي في “معالم الإيمان” هذا الشرف فقال: “وجزى الله مشيخة القيروان: هذا يموت، وهذا يضرب، وهذا يسجن، وهم صابرون لا يفرون، ولو فروا لكفرت العامة دفعة واحدة”[6].

لم يستسلم أهل القيروان للأمر الواقع ولم يخضعوا للسيطرة العبيدية الفكرية والعقدية، واجتهد علماؤهم في الحفاظ على سنيتهم ونظموا مقاومة بطولية لهؤلاء الروافض صمدوا على ذلك، وكان من ذلك مقاطعتهم للجمعات التي يعلن فيها سب  أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يذكر ابن عذارى المراكشي في كتابه البيان المغرب[7]. وانضم الفقهاء والعلماء من المالكية إلى ثورة أبي يزيد مخلد بن كيداد الخارجي[8] وشاركوا فيها، ودعوا الناس إلى الانخراط فيها دفاعا عن نصرة المذهب السني ومذهب مالك، وإلى الخروج إلى الأسواق بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أزواجه[9]. وكادت ثورة الفقهاء المالكية أن تعصف بالعبديين الذين انحسر نفوذهم في المهدية فقط لكن الأمر انتهى بمذبحة صفوف من الفقهاء أن غدر بهم أبو زيد الخارجي وتركهم عرضة للبطش العبيدي، ثم هزيمة أبي يزيد نفسه وموته مسجونا متأثرا بالجراح.

 الفقهاء المالكية الذين ثاروا على العبيديين:

– الفقيه ابن خيرون الذي كان يحذر العامة من المذهب الشيعي الفاطمي من نحلة العبيديين، ويدعوهم إلى التمسك بالمذهب السني، ابتلي وصبر على البلاء حتى نال الشهادة رفسا بأرجل السودان بعد طول تعذيب.

 –  أبو الفضل عياش بن عيسى بن العباس الممسي المتوفى شهيدا سنة 333هـ، قال أبو العرب: “ختم الله تعالى الكريم بالشهادة له بعد هذه الفضائل في جهاد بني عبيد”[10].

– ربيع بن سليمان بن عطاء الله القطان القيروان، كان رأسا في الزهد والرقائق، وكان جعل على نفسه ألا يشبع من طعام ولا نوم حتى يقطع الله دولة بني عبيد. ركب يوما فرسه وفي عنقه المصحف وحوله جمع كبير، وهو يتلو آيات جهاد الكفرة. فاستشهد في خلق من الناس يوم المصاف في صفر سنة أربع وثلاثين. وكان غرض بني عبيد أخذه حيا ليعذبوه[11].

– أبو بكر محمد بن اللباد القيرواني الذي كان يدرس الفقه المالكي للطلبة رغم الحصار والاضطهاد العبيدي، عذب مرارا ثم وضع رهن الإقامة الجبرية[12].

ولما مات رثاه تلميذه ابن أبي زيد القيرواني بقصيدة عدد فيها خصاله وذكر محنته زمن العبيديين وصبره على الشدائد لنصرة الدين منها قوله:

حتى استنار به الإسلام في بلد   لولاه مات به الإسلام واندفنا
الفقه حلته والعلم خليته   والدين زينته والله شاهدنا

– ابن التبان أبو محمد بن إسحاق من أشهر علماء إفريقية وصلحائها، قال القاضي عياض في مستهل ترجمته: “الفقيه الإمام، كان من العلماء الراسخين والفقهاء المبرزين ضربت إليه أكباد الإبل من الأمصار لعلمه بالذب عن  مذهب  أهل الحجاز ومصر ومذهب مالك، وكان أحفظ لناس بالقرآن والتفنن في علومه والتكلم في أصول التوحيد… وكان من الحفاظ… عالما باللغة والنحو والحساب والنجوم…”[13] ونقل عن أبي الحسن القابسي قوله: “رحمك الله يا أبا محمد، فلقد كنت تغار على المذهب وتذب عن الشريعة”[14].كان ابن التبان من علماء القيروان الذين ابتلوا بالاضطهاد العبيدي ومن الذين دعاهم صاحب القيروان ليشرقهم[15]، لكنه أفحم من ناظروه وأبطل حججهم وأقاويلهم[16]. توفي عام 371هـ.

– أبو إسحاق القلانسي إبراهيم بن عبد الله الزبيدي من فقهاء إفريقية وفضلائها. كان عالما بالكلام والرد على المخالفين وله في ذلك تواليف حسنة، أشهرها كتاب في الإمامة والرد على الرافضة، امتحن بسببه على يدي أبي القاسم ابن عبيد الله الرافضي، ضربه سبعمائة سوط وحبسه في دار البحر أربعة أشهر[17]. توفي عام 361هـ.

– أحمد بن أبي الوليد، كان من المناوئين للعبيديين ومن المحرضين على الخروج عليهم، خطب الناس في الجمعة فقال: “جاهدوا من كفر بالله وزعم انه رب من دون الله، وغير أحكام الله، وسب نبيه وأصحاب نبيه، اللهم إن هذا القرمطي الكافر المعروف بابن عبيد الله المدعي الربوبية، جاحد لنعمتك، كافر بربوبيتك، طاعن على رسلك، مكذب بمحمد نبيك سافك للدماء، فالعنه لعنا وبيلا، واخزه خزيا طويلا، واغضب عليه بكرة وأصيلا”.

– أبو علي حسن بن خلدون البلوي، كان من اشد الناس مقاومة للعبيدين بالقيروان، ومن اشد الناس محاربة لأهل البدع والروافض، فاتبعه خلق من الناس مما أزعج العبيديين الذين أرسلوا عامل القيروان بجنده وأعوانه لقتله في مسجده طعنا بالسكاكين، وذلك يوم الخميس الثاني عشر من شوال سنة سبع وأربعمائة للهجرة، وهو جالس في حلقة وحوله أصحابه بعد صلاة العصر، فالتهبت الانتفاضة واستعرت نارها في عدد من مدن إفريقية وكان من نتائج ذلك، القضاء على المتمذهبين بالمذهب العبيدي الشيعي في مختلف المدن وظهور المعز بن باديس الصنهاجي بمذهب أهل السنة، إلى أن انتهى به الأمر إلى العدول سنة445هـ عن مذهب الفواطم بمصر والأخذ بالسنة ومذهب مالك، وإعلانه الانتماء إلى الدولة العباسية.

– ابن أبي زيد القيرواني ناصر العقيدة السنية والمذهب المالكي.

في هذه الظروف أيضا نشأ الإمام أبو محمد بن أبي زيد القيرواني، وطلب العلم على يد هؤلاء، محبا للسنة والعقيدة الصحيحة والمذهب المالكي، متشبعا بروح الذود عن ذلك كله.

كان ابن أبي زيد وهو طالب يتسلل خفية إلى بيت شيخه أبي بكر محمد بن اللباد القيرواني، لأنه كان قد منع من الخروج من بيته، ومنع الناس من زيارته والالتقاء به[18] كما مر بنا آنفا.

وشارك- وعمره ثلاث وعشرون سنة- في ثورة أبي يزيد مخلد بن كيداد إلى جانب فقهاء المالكية.

وألف قبيل ذلك في سنة 327هـ كتابه المشهور بالرسالة، بطلب من شيخه محرز ابن خلف، ضم فيه ما يحتاجه طلبة العلم الناشئون من أحكام أولية تحفظ عقيدتهم السنية ومذهبهم الفقهي المالكي، ولا تدع لديهم فراغا ينفذ خلاله فكر الروافض.

اشتهرت “الرسالة” في عديد من الأقطار كالعراق واليمن والحجاز والشام ومصر وبلاد النوبة وصقلية وبلاد السودان، بالإضافة إلى جميع بلاد إفريقية والمغرب والأندلس، وتنافس الناس في اقتنائها حتى كتبت بماء الذهب[19]، وبيعت أول نسخة منها  ببغداد في حلقة أبي بكر الأبهري[20]، بعشرين دينارا ذهبا[21]، وعول عليها العلماء في حلقات دروسهم وألزموا طلبتهم بحفظها والعكوف عليها، ثم وضعت عليها الشروح والتعليقات والحواشي ما يطول ذكره[22]. لقد كتب الله لهذه الرسالة” أن تنتشر وتكون عمدة الطلبة منذ زمن تأليفها إلى يومنا هذا، وذلك بفضل عوامل كثيرة منها الإيجاز خلاف كتب المذهب السائد آنذاك التي كان يغلب عليها التفريع والتفصيل والعبارة المغلقة. ولا ننسى إضافة إلى ذلك توفيق الله تعالى وتسديده، فإن ما كان لله دام واتصل، وما كان لغيره انقطع وانفصل، ولقد كان ابن أبي زيد في هذه الفترة ضمن فقهاء المالكية وطلبه العلم الذين يجاهدون ويشتركون في مقاومة الهجمة العبيدية على العقيدة السنية والمذهب المالكي.

وألف ابن أبي زيد كتابا آخر في رد ما يرمى به بالمذهب المالكي من شكوك ومطاعن سماه “كتاب الذب عن مذهب مالك”[23] وألف أيضا كتابا يبين فيه قوة حجة المالكية في التعويل على عمل أهل المدينة سماه “كتاب الاقتداء بأهل المدينة”.

وخدم أشهر كتاب يعول عليه المالكية وهو المدونة، فألف حوله كتابه المشهور “النوادر والزيادات”، وهو كتاب كبير أبان فيه عن قوة حفظه وسعة معرفته، وألف أيضا “مختصر المدونة” قال القاضي عياض: “وعلى كتابيه هذين المعول بالمغرب في التفقه”[24].

هكذا تعدد جهاد ابن أبي زيد في الذوذ عن المذهب المالكي وصار أهلا بأن يكون “إمام المالكية في وقته وقدوتهم، وجامع مذهب مالك وشارح أقواله… ذابا عن مذهب مالك، قائما بالحجة عليه، بصيرا بالرد على أهل الأهواء”[25]. بل ويعرف بمالك الصغير كما قال الشيرازي في طبقاته[26].

وتستوقفنا إلى جانب علمه الغزير وذوذه عن المذهب، صفاته وسلوكه وعلاقته الإنسانية بمن حوله من العلماء وطلبة العلم وغيرهم من الناس، لقد كانت علاقته بهؤلاء تتجاوز حلقات الدرس، واشتهر عنه في هذا المجال تشجيعه طلبة العلم على القراءة والتحصيل، وألف رسالة ضمنها نصائح وتوجيهات لهم سماها “رسالة طالب العلم”[27]

ولم يكتف بذلك، بل قدم لهم المساعدات المادية حتى لا تنشغل قلوبهم بغير الحفظ والطلب، وليستمر المذهب المالكي باستمرار من يطلبه ويحفظ أصوله ويرتقي فيه إلى رتبة العلماء فيصمد أمام محاولات العبيدين للقضاء عليه.

والخلاصة أنه رغم تفكك الدولة الإسلامية وانقساماتها وكثرة المحن، فإن الحالة الفكرية والثقافية كانت على مستوى كبير من الازدهار، ولعل ما ذكرناه من اضطهاد العبيديين للعلماء، ومحاولة صرف الناس عن مذهبهم وسنيتهم، وما أشاعوه من أفكار الروافض وعقائده ، كان محفزا للتأليف المضاد بقوة وبغزارة، ذبا عن المذهب المالكي وإمامه وأصوله وعقيدته السنية، وإن غلب عليه منطق الجدل والدفاع ورد الشبهات عوض الإنتاج الخصب، وتطوير ما بدأه الرواد الأوائل وتجديد ما اندرس منه.

عوائق المذهب المالكي في الأندلس في القرن الخامس الهجري

لم يخطئ من بكى الأندلس حين فقدها وسماها الفردوس المفقود، فقد كانت الرأس المرفوع للعالم الإسلامي ومركز الإشعاع القوي الذي نفذ إلى الغرب المسيحي، يحمل معه فكر الشرق وقيمه. ولكن ذلك الفردوس المفقود عرف إلى جانب الازدهار و الإشعاع فترات ضعف وتعثر، قوضت البناء الجميل وخلخلت الصف المتماسك، ففي تاريخ الأندلس يذكر المؤرخون أن دولة بني أمية أعادت بناء مجدها المتهالك في الشرق، لكنها لم تكن تمتلك القوة والمنعة لتستمر طويلا، ومن ذلك حب الرياسة الذي يعمي فيودي، فكيف يحكم الدولة التي هي في احتكاك دائم وحروب مستمرة مع الإفرنجة من لم يناهز الحلم بعد، أو من كان ضعيف الشخصية فاقدا لمقومات الحاكم الحازم العادل، القوي الأمين، زد على ذلك إذا كانت مؤسسات الدولة مبنية على الانقسام والتفكك، وإذا كانت مؤسسة الجيش تتكون من طوائف غير متجانسة ولا موحدة، فالجيش في الدولة الأموية بالأندلس كان يتكون من العرب القادمين من الشرق[28]، ومن البربر القادمين من المغرب، ومن المستعمريين[29]، والصقالبة[30]، وما كان أسهل من أن تثور طائفة وتحدث الفتنة التي تأتي على الأخضر واليابس لو لم تكن الأسباب ذات بال. من ذلك ما عرف في تاريخ الأندلس بالفتنة البربرية نسبة إلى ثورة البربر في الجيش ومحاصرتهم لقرطبة، ثم لقصر عبد الرحمن العامري حيث احتزوا رأسه ووضعوا بذلك نهاية لدولة بني عامر[31]، وقامت فتنة عظيمة وكثر القتل والهرج. بايعوا هشام بن سليمان ابن أمير المؤمنين الناصر، وتحرك العرب وقبضوا على هشام فضرب عنقه، فبايع البربر سليمان بن الحكم ولقبوه بالمستعين، فسار في جموع البرابرة والنصرانية إلى قرطبة فاجتاحها، ثم دارت الدائرة عليه وهزم فتفرق بجنوده في البسائط والقرى، ينهبون ويقتلون، ثم جمعوا صفوفهم واقتحموا قرطبة مرة أخرى بعد حصار طويل سنة 403هـ[32]، وفتكوا بالخليفة هشام المؤيد، وعاثوا في المدينة فسادا وقتالا وتخريبا ووثبوا على الأعمال فحكموا المدن العظيمة، وتقلدوا الأعمال الواسعة، وكان ذلك بداية ظهور ملوك الطوائف وتقسيم الأندلس الإسلامية إلى إمارات صغيرة ضعيفة متناحرة، تستعين أحيانا بالنصارى في حروبها وتخضع لحكمهم.

أثرت هذه الفتنة على الحياة العلمية تأثيرا واضحا، بحيث حدت من حركة العلماء وطلاب العلم، وحالت دون رحلاتهم العلمية،ولحق الضرر بعدد من العلماء عامة، منهم فقيه المالكية في وقته ومؤرخ الأندلس ومحدثها أبو الوليد بن الفرضي[33]، قتله البربر في شوال من عام 403هـ[34]،  وظل ثلاثة أيام لم يدفنه أحد[35]. ومنهم حافظ المغرب أبو عمر يوسف ابن عبد البر القرطبي النمري المتوفى سنة 463هـ[36]، فقد خرج من قرطبة كغيره من العلماء فرارا من الفتنة، وتنقل في بلاد الأندلس شرقا وغربا يبحث عن مستقر آمن، فحط رحاله بإشبيلية، ثم بدانية، ثم ببطليوس.

كان الحافظ ابن عبد البر ممن بلغ درجة الاجتهاد، ولكنه ظل مجتهدا داخل المذهب بصفة عامة لا يخرج عنه. وهو ممن شارك في إرساء قواعد المدرسة المالكية بالغرب الإسلامي، وتثبيت بنائها، وخدمة أصولها، ورد الفروع إلى الأصول.

لقد كان الأندلسيون يعكفون على مدونة سحنون درسا ودراسة وتدريسا وشرحا وتعليقا، ويعكفون مثل ذلك على الواضحة لعبد الملك بن حبيب. وبقي المنهج العام أسير الكتابين وما ماثلها، حتى ألف ابن عبد البر كتابية التمهيد والاستذكار فغير المنهج السائد والطريقة المألوفة، مجددا ومبتكرا وفاتحا أبواب النظر والاجتهاد منهجا ومضمونا، ومؤسسا لفن فقه الحديث أو فقه السنة بالديار الأندلسية، مجيدا في ذلك ومفيدا بما أودعه في كتبه في هذا المجال[37] من غرر الفوائد، ففيها تأصيل الفروع، وفيها جمع لآراء الفقهاء وأقوالهم، منذ عهد الصحابة والتابعين ممن سماهم ففقهاء الأمصار، وعلماء الأقطار غير  المالكية أيضا، وفيها ذكر اختلاف أقوال مالك وأصحابه، واختلاف الروايات عنه، وفيها تتبع الألفاظ الحديث الواحد إذا تعددت طرقه… وغير ذلك من الفوائد التي تبوأت بفضلها مؤلفاته المكانة العالية، ودفعت ابن حزم إلى أن يقول: “ولصاحبنا أبي عمر كتب  لا مثيل لها”[38]. وقال في شأنها صاحب الصلة: “وكان موفقا في التأليف معانا عليه، ونفع الله بتواليفه”[39].

وحق للحافظ الذهبي أن يقول عنها: “وله تواليف لا مثيل لها في جميع معانيها”[40].

وأما الحافظ ابن كثير فقال: “اعتنى الناس بكتاب “الموطأ” وعلقوا عليه كتبا جمة، ومن أجود ذلك كتابي[41] التمهيد والاستذكار، للشيخ أبي عمر بن عبد البر النمري القرطبي رحمه الله”.

1 2 3 4 5 6الصفحة التالية

د. عبد العزيز فارح

رئيس مختبر الأبحاث والدراسات في التراث الإسلامي كلية الآداب بوجدة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق