مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

الفتــــــوة

     قال الأستاذ أبو القاسم الجُنيد: «الفتوة كف الأذى، وبذل الندى» [1]«وقال أبو القاسم القُشيري: أصل الفتوة أن يكون العبد أبداً في أمر غيره، ونقل عن شيخه الأستاذ أبي بكر الدقّاق أنه قال: هذا الخُلُق لا يكون كماله إِلا لرسول الله ﷺ، فإِن كل أحد في القيامة يقول: نفسي نفسي، وهو صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «أُمَتي أُمَتي». [2]ثم استدل القُشيري لهذا الخُلق بما رواه بإسناده عن أبي هريرة عن زيد بن ثابت عن رسول الله ﷺ قال: «لا يزال الله في حاجة العبد ما دام العبد في حاجة أخيه المسلم»،[3] وهذا الحديث رواه الطبراني أيضاً بإِسناد رجاله ثقات كما قال الحافظ المنذري[4].

     وفي صحيح مسلم والسُنن الأربعة عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: «من نفّس عن مسلم كُربةً من كُرب الدنيا نفّس اللهُ عنه كُربةً من كُربِ يوم القيامة، ومن يَسّر على مُعسر في الدنيا يسّر اللهُ عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر على مُسلمٍ في الدنيا ستر اللهُ عليه في الدنيا والآخرة، واللهُ في عونِ العبد ما كان العبد في عون أخيه»[5]. وفي الصحيحين عن ابن عمر عن النبيّ ﷺ قال: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يثمله، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلمٍ كُربةً، فَرّج اللهُ عنه بها كُربةً من كُرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة»[6]. وهذا الخُلُق –أعني الفتوةَ- مرجعُه إِلى سخاوة النفس، وهو شرط في المريد كما قال جدُّنا العارف الكبير أبو العباس أحمد بن عَجِيبةَ الحَسني في شرح المباحث الأصلية، فقد قالوا: «مِنْ أَقبحِ القبيح صوفيٌّ شحيح»[7]، ثم هو يشتمل على عدة معان:

     الأول: الإِيثار. وقد مدحه الله تعالى في كتابه الكريم بقوله ﴿ويوثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة﴾ [8]. وسبب نزول هذه الآية ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رجلاً أتى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله أصابني الجهد: فبعث إِلى نسائه، فقُلن: ما معنا إِلا الماء، فقال رسول الله ﷺ: «من يضُم أو يضيف هذا؟». فقال رجل من الأنصار: أنا، فانطلق به إِلى امرأته، فقال: أكرمي ضيف رسول الله ﷺ، فقالت: ما عندنا إِلا قُوتَ صبياني، فقال: هيئي طعامك وأصبحي سراجك ونوِّمي صبياني إِذا أرادوا عشاء، فهيأت طعامها وأصبحت سراجها ونَوّمت صبيانها ثم قامت كأنها تُصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يريانه كأنهما يأكلان فباتا طاويين، فلما أصبح غدا إِلى رسول الله ﷺ فقال: «ضحك الله الليلة، أو عجب من فعالكما» فأنزل الله ﴿ ويوثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون[9]. الرجل الذي اشتكى الجهد هو أبو هريرة والأنصاري الذي ضيفه هو أبو طلحة، وروى ابن مردويه في تفسيره عن ابن عمر: «أُهديَ لرجل رأسُ شاة، فقال: إِن أخي وعياله أحوج مِنا إِلى هذا، فبعث به إِليه، فلم يزل يبعث به واحد إِلى آخر، حتى رجعت إلى الأول بعد سبعة فنزلت الآية، قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن تكون نزلت بسبب ذلك كله»[10].

     ومن أروع مواقف الإِيثار عند الصوفية ما حكاه الجلال المحلى في شرح جمع الجوامع فقال: «ولا التفات لِمَنْ رَمَاهم في جملة الصوفية بالزنّدقة عند خليفة السلطان حتى أمر بضرب أعناقهم، فأمسكوا إِلا الجُنيد فإنه تستر بالفقه، وكان يفتي على مذهب أبي ثور شيخه، وبسط لهم النَطْع فتقدم من آخرهم أبو الحسين النوري للسياف فقال له: لِمَ تقدمت؟ فقال: أوثر أصحابي بحياة ساعة، فبهت، وأنهى الخبر للخليفة، فرَدّهم إلى القاضي فسأل النوري عن مسائل فقهية فأجابه عنها، ثم قال -أي النوري- : وبعد فإِن لله عباداً إِذا قاموا قاموا بالله وإِذا نطقوا نطقوا بالله، الخ كلامه، فبكى القاضي وأرسل للخليفة يقول: إِن كان هؤلاء زنادِقة فما على وجه الأرض مسلم، فَخَلَّى سبيلهم رحمهم الله ونفعنا بهم»[11]. ا.هـ والخليفة هو أبو الفضل جعفر المقتدر، والقاضي هو الإِمام إِسماعيل بن إِسحق أحد أئمة المالكية.

     الثاني: هدية المريد إِلى شيخه، ودليلها من القرآن والسُنَة، أما القرآن فقوله تعالى ﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ﴾[12]. قال عليٌّ عليه السلام لمّا نزلت هذه الآية: قال لي النبي ﷺ : «ما ترى أديناراً؟»، قلت: لا يطيقونه، قال: «فنصف دينار» قلت: لا يطيقونه، قال: «فكم؟»، قلت: شعيرة، قال: «إِنك لزهيد»، قال: فنزلت ﴿آشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات﴾ [13]، قال: فبي خفف الله ُعن هذه الأمة»، رواه ابن جرير[14]، والترمذي وحَسّنه[15]، وقوله: شعيرة، يعنى وزنها من ذهب، وقال عليّ أيضا: «إِنّ في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد ولا يعمل بها أحد بعدي، آية النجوى ﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول ﴾، قال: كان عندي دينار فبعته بعـشرة دراهم، فناجيتُ النبي ﷺ، فكنت كلما ناجيته قدمت بين يدي نجوايَ درهماً، ثم نُسِخَت فلم يعمل بها أحد فنزلت ﴿ آشفقتم أن تقدموا ﴾، رواه الحاكم وصحَحَهُ على شرط الشيخين وسلمه الذهبي[16]، وروى الطبراني عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه  قال: نزلت في ﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول ﴾، فقدمت شعيرة، فقال رسول الله r: «إِنك لزهيد»، فنزلت: ﴿ آشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات ﴾. وفي سنده راوٍ مختلف فيه، ويمكن الجمع بينه وبين الأول بأن كلاً من عليٍّ وسعدٍ لم يطّلع على قصة الآخر، فتكلم بحسب ما في علمه. وعن ابن عباس في قوله تعالى ﴿ فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ﴾؛ وذلك أن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله ﷺ حتى شَقّوا عليه، فأراد اللهُ أن يخففَ عن نبيه عليه السلام، فلمّا قال ذلك، جَبُنَ كثيرٌ من المسلمين وكَفّوا عن المسألة فأنزلَ اللهُ بعد هذا: ﴿آشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات﴾، فوسّع اللهُ عليهم ولم يُضَيق[17].

     يؤخذ من هذا أن تقديم الصدقة عند مناجاة الرسول كانت واجبة ثم نُسِخَت، وإِذا نُسِخَ وجوب شيء بقي استحبابه بل سُنيته كما في صوم عاشوراء، كان واجباً ثم نُسخ برمضان فبقي سُنة، وأما السُنّة فما ثبت بالتواتر في قضايا متعددة أن الصحابة كانوا يهدون للنبيّ ﷺ ثياباً وطعاماً وغيرهما، وكان يقبل هديتهم. وتقدم قريباً حديث أبي هريرة في أهل الصفة، وفيه: إِذا أتته صدقة بعث بها إِليهم ولم يتناول منها شيئا، وإِذا أتته هدية أرسل إِليهم وأصاب منها وأشركهم فيها. وفي مُسند أحمد بإِسناد صحيح عن سلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه قال: «كان النبيُّ ﷺ يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة»[18]، وفي المسند أيضاً بإِسناد صحيح عن أبي هريرة قال: «كان النبي ﷺ إِذا أُتيَ بطعام من غير أهله سأل عنه، فإِن قيل: هدية أكل، وإِن قيل صدقة قال: «كلوا» ولم يأكل»[19]، بل أَمَرَ عليه الصلاة والسلام بقبول الهدية ونهى عن ردها، ففي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه قال: سمعت عمر يقول: كان رسول الله ﷺ يعطيني العطاء فأقول: أعطه مَنْ هو إِليه أفقر مني، فقال «خذه، إِذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه فتموله، فإِن شئت كُله وإِن شئت فتصدق به، ومالا فلا تتبعه نفسك»[20]، قال سالم بن عبد الله: فلأجل ذلك كان عبد الله لا يسأل أحداً شيئا ولا يرد شيئا أُعطِيه. وفي المُسند بإِسناد رجال ثقات عن المطلب بن عبد الله بن حنطب قال: «أهدى عبد الله بن عامر إِلى عائشة رضي الله عنها وأرضاه  نفقة وكسوة، فقالت للرسول: أي بُني لا أقبل من أحد شيئاً، فلما خرج الرسول قالت رُدّوه عَليَّ، فردّوه فقالت: إِني ذكرت شيئاً، قال لي رسول الله ﷺ: «يا عائشة من أعطاك عطاءً بغير مسألة فاقبليه، فإنما هو رزق عرضه الله عليك»[21]. وفي المسند أيضا بإسناد صحيح عن أم سلمة رضي الله عنها أن امرأة «أهدت إِليها رجل شاة تصدق بها عليها -أي على المرأة- فأمرها النبي ﷺ أن تقبلها»[22].

وفي المسند أيضاً بإسناد صحيح عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: «من آتاه الله من هذا المال شيئاً من غير أن يسأله فليقبله فإنما هو رزقٌ ساقه الله إِليه»[23].

     فهذه الأدلة المتعددة وغيرها مما لم نذكره اختصاراً مستند شيوخ الصوفية -على ممر الزمان- في قبول هدايا المريدين من نقود وثياب وطعام وغير ذلك، ثم هم ينفقونها على الزوّار في البيت أو الزاوية فتكون منفعتها عامة، وبذلك يَعْظُم ثواب المُهدي ويَكْثُر أجره، أضف إِلى ذلك أن الهدية –وإِن قَلَّتْ قيمتها- تُوجِدُ محبة ومودة بين المُهدي والمُهدَى إِليه، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: «تهادوا تحابوا»[24]، رواه أبو يعلى عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه بإسناد جيد، وله طرق، ولا شك أن المُريد إِنما ينتفع في السلوك على قدر حب شيخه له وعنايته به، بل كل طالب عِلمٍ من العلوم لا يُدرك من العِلم غايته، إِلا بقدر حب أستاذه له، وعنايته بتعليمه، ومن الحِكَم السائرة: «مَنْ عرف ما طلب، هان عليه ما بَذل»[25].

1 2الصفحة التالية
Science

د. طارق العلمي

  • أستاذ باحث في الرابطة المحمدية للعلماء، متخصص في المجال الصوفي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق