مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

الـذوق الصوفي: إشكالية المفهوم

طارق العلمي

   تُثمِر التجربة الصوفية معانٍ ذوقية أساسها الاجتهاد في الطاعات، والتنزل في المقامات، وتخلية الباطن من شهوات النفس وحظوظ الشيطان، حتى يصبح القلب مُهيّئا لتلقي أنوار القرب والمحبة الإلهية، وهو ما يشير إليه قوله تعالى (وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة)، [لقمان. آية 20]. وهي إشارات ومواهب يتلقاها السالك في سيره، تكون له دافعا على مواصلة التقرب، وزيادة في التعلق بجناب المولى عز وجل، لما يجده من الأنس به، والتلذذ بمناجاته، وهو صريح الإيمان الذوقي.

   إن هذه المعاني الذوقية، هي التي تعطي حياة للتعبُّد بالنسبة للسالك، حيث إن مفهوم العبادة ليس حركات ظاهرة من قيام وركوع وسجود، بل هي إضافة إلى ذلك تفاعل ومعايشة وشوق للمولى عز وجل، باعتبار أن العبادات مواضع قرب، ومواطن تلقٍ للأفضال الإلهية،وهو ما نجده في أحوال المصطفى عليه السلام في قوله لبلال: (أرحنا بها يا بلال).[سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب في صلاة العتمة، رقم1363]

   فتكون المعاني التي يستشعرها الصوفي، هي نتيجة للاستغراق في العمل الشرعي، ومواظبة التفكر في تجليات الجمال الإلهي، والتزام الأدب في الظاهر والباطن، وسلامة القلب من الحظوظ والعلائق، حتى يحظى العبد بنظرة عطف ومحبة، تزيل كل ما سوى الله تعالى من القلب، حيث يقول عليه السلام (إن الله لا ينظر إلى أجسامكم وصوركم، وإنما ينظر إلى قلوبكم). [النووي: شرح صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله،رقم2564]

   فالمسلك الصوفي لا يقبل النظر المجرد  في استخلاص معاني النصوص الشرعية، بل يسلك منهجا متكاملا، يجمع فيه بين العمل الشرعي والنظر المسدد والتجربة الحية، الشئ الذي يُحصِّن المعرفة من أن تتحكم فيها نوازع النفس، وميولات الأهواء.

    لذلك فإن المعرفة الصوفية تتخذ مسلكا خاصا بها داخل المنظومة الإسلامية، ولا يمكن فهم معانيها، إلا من خلال تبيُّن مقتضيات هذا المنهج، الذي يعتمد على الممارسة الحية، والتفاعل الداخلي للمعاني الشرعية في باطن المؤمن.

    وعليه لايصح الإنكار على أهل التصوف، بدعوى أن مستنبطاتهم هي من قبيل التخيل والبدع، لما في ذلك من أسباب الفصل والانقطاع بين العمل كوسيلة للتعمق في ثنايا الخطاب الشرعي، والنظر المسدد كآلية لإدراك مقاصد المشرع، والتجربة الحية كمنهج للتحقق بالكمالات الخلقية، بل إن مسلك المعرفة الصوفية، يعتبر من أدق الطرق التي يمكن أن يسلكها غيرهم، وذلك من خلال معطيين اثنين:

الأول: أن المعاني الصوفية الحقة، لا تحصل إلا بعد تخلية الباطن من هفوات الغفلة، وأسباب البعد عن الله تعالى، وتحلية الباطن بفضائل الأخلاق المحمدية، وتجليات الأنوار الربانية، حتى تكون أفعال العبد آمنة من الانحراف وراء شهوات النفس، وميولات الأهواء، فإذا لم تسبق هذه العملية التطهيرية للقلب، فلا يأمن العبد إذّاك أن تتكدّر معارفه، و يسُوء فهمه.

الثاني: أن طريق المعرفة الصوفية ليس هو النظر المجرد، وإنما هو العمل المؤطر، الذي يرعاه المزكي، من حيث تصحيح وجهته، وربط غايته بالمولى عز وجل.

   فالأذواق التي يتحدث عنها القوم، هي نتاج معاناة داخلية، يكابدها السالك في تقربه، وليست ضربا من التخرص، بل هي حقائق يتذوقها العبد بعد طهارة قلبية، يقول القاشاني: ” واعلم أن الأذواق التي يشير إليها القوم هي علوم لا تُنال إلا لمن كان خالي القلب من جميع العلائق والعوائق كلها . [كمال الدين القاشاني( ت736هـ): لطائف الأعلام في إشارات أهل الإلهام، 2/386]

وسئل الإمام الجنيد: من أين استفدت هذا العلم؟ فقال:من جلوسي بين يدي الله تعالى ثلاثين سنة تحت تلك الدرجة، وأومأ إلى درجة في داره .[سعاد الحكيم: تاج العارفين، ص: 174]

فنخلص إلى أن المعاني الصوفية، ليست من قبيل التعلم، كما هو شأن باقي المعارف الأخرى، وإنما هي مواهب وإشارات يتذوقها السالك أثناء تدرجه في مقامات القرب، تكون له استئناسا لمواصلة السير، ودعامة للمزيد من الاشتغال والتقرب من المولى عز وجل.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق