مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةأعلام

العلامة المحدث الشيخ سيدي عبد الله التليدي رحمه الله، وجهوده في خدمة السنة النبوية تدريسا وتأليفا

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

الجزء الرابع 

2 ـ تهذيب جامع الإمام أبي عيسى الترمذي، والكلام على أحاديثه، وتخريجها.

 يعد هذا الكتاب المبارك، من أنفس مؤلفات الشيخ المحدث سيدي عبد الله التليدي رحمه الله تعالى في خدمة الحديث النبوي الشريف، وذلك لتعلقه بأصل وديوان من أمهات كتب السنة المشرفة، والذي جمع فيه صاحبه الإمام الترمذي رحمه الله تعالى، ما تفرق في غيره، بحيث ضم الحديث من أبواب شتى، ولذلك سمي: “جامعا”، وضم أيضا الكلام على الرجال جرحا وتعديلا، وعلى الأحاديث تصحيحا وتضعيفا في اصطلاحات خاصة به، وفيه الكلام على العلل، وكذا فقه علماء الأمصار من الصحابة فمن دونهم…

     لهذه المميزات الكثيرة المتوفرة في جامع الإمام الترمذي، نجد شيخنا التليدي رحمه الله يقول: “لقد شغفت بهذا الجامع العظيم منذ عرفته، ولذلك فقد قدر الله لي – وله المنة والفضل – أن أقرأه مرات متكررة، وانتفعت به نفعا جما، وأصبحت كالمتخصص فيه، فلقد قرأته لأول مرة بعد فراغي من الطلب وأنا ابن ست وعشرين سنة، وذلك سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة وألف، على أستاذنا شيخ الحديث الشريف سيدي عبد العزيز بن الصديق رحمه الله تعالى، وكان ذلك بقراءة منه علينا، مع تحليلات، وكلام على معاني الأحاديث وأحكامها، وختمناه في ظرف ستة أشهر ولله الحمد، ثم قرأته بعد ذلك على انفراد مرة ثانية، وثالثة، ورابعة…”[1].

     ثم يقول رحمه الله عن سبب تأليفه للكتاب: “وفي خلال قراءاتي للكتاب خطر ببالي تهذيبه واختصاره، فتوكلت على الله وشرعت في الاشتغال به، لما في ذلك من الفائدة الأكيدة والنفع العميم”[2].

وكان منهج عمل الشيخ رحمه الله فيه: أنه يكتب الحديث مقتصرا على راويه من الصحابي، أو من في حكمه، مع كلام الإمام الترمذي رحمه الله على الأحاديث، وإيراد فقهه، ومذاهب الأئمة، وقد يختصر كلامه أحيانا لطوله…

وإذا روى المؤلف الحديث من أكثر من طريق وكان له سياقات وألفاظ، يكتفي منها بأجمعها، ويشير إلى الطرق الأخرى…

ثم يخرج الحديث تخريجا علميا دقيقا، بعزوه إلى باقي الأمهات الأصول من مصادر السنة، معتبرا في ذلك أصل الحديث…ويذكر الشواهد والمتابعات إن اقتضى الأمر ذلك، ثم يحكم على الحديث بما يتوافق وقواعد الصناعة الحديثية حسب ما يؤديه إليه اجتهاده وتتبعه، ونظره في الرواة جرحا وتعديلا.

     وفيما يتعلق ببعض اصطلاحات الشيخ رحمه الله في الحكم على الأحاديث يقول: إذا كان رجال الحديث رجال الصحيحين أو أحدهما، أقول: سنده صحيح على شرطهما أو شرط البخاري، أو شرط مسلم تجوزا وتبعا لمن أطلق ذلك من أهل الحديث، وهو الذي كان يختاره أستاذنا أبو الفيض رحمه الله تعالى، وإن كان الحافظ وغيره ردوا ذلك وانتقدوه. أما إذا كان بعضهم من رجال البخاري والبعض الآخر من رجال مسلم فأقول: سنده صحيح أو رجاله رجال الصحيح.[3]

     ثم إن الشيخ رحمه الله تعالى قد استدرك في تخريجاته للأحاديث “أغلاطا وأوهاما على كبار المحدثين وحفاظهم كابن عبد البر، وابن حزم، والمجد ابن تيمية، والمنذري، وابن الأثير، والبوصيري، وابن حجر العسقلاني، والسيوطي، والذهبي، وغيرهم، وانظر الأرقام الآتية على سبيل المثال: (46/ 48/ 1265/ 1321/ 1527/ 1630/ 1653/ 1678/ 1674/ 1690) وغيرها؛ وهي كثيرة ولاسيما للحاكم فإن أوهامه لا تنحصر، وذلك لأسباب ذكرها علماء المصطلح.”[4]

     ومما زاد تهذيب الشيخ رحمه الله لجامع الإمام أبي عيسى رحمه الله رونقا وكمالا؛ تطريزه لهوامشه بخلاصات مركزة، وتحريرات منمقة، بينت غريب الألفاظ، وأضاءت على متون الأحاديث وأبرزت فوائدها وفقهها.

     وقد صدّر المحدث العلامة سيدي عبد الله التليدي تهذيبه للجامع، بدراسة علمية هامة جدا، تناول فيها: ترجمة الإمام الترمذي، ومكانة جامعه وأهميته العلمية، ومنهج الترمذي فيه، ومن اعتنى بالجامع من العلماء، وإطلاق اسم الصحيح عليه، وأحاديث الجامع: (أقسامها، وعددها، وعدد الصحيح والضعيف منها، ومكرراتها، وتصحيح الترمذي، وتحسينه، وتضعيفه، وجمعه بين بعض هذه الرتب، وموقف العلماء من تصحيح الترمذي وتحسينه، وذكر أحاديث ضعفها وهي صحيحة أوحسنة وعددها يجاوز المائتين، وذكر نحو مائة ونيف أخرى صححها أو حسنها وهي ضعيفة، وهل في الجامع أحاديث موضوعة؟…)، ورجال جامع الترمذي وطبقاتهم، وكلمة عن صحيح الترمذي وضعيفه للشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى، ثم عمله ومنهجه في الكتاب.

      وقد شملت هذه المقدمة العلمية حوالي سبعين صفحة من المجلد الأول، أُورد هنا نموذجين من أهم ما جاء فيها، مما أشرنا إليه آنفا:

الأول: حول تصحيح الترمذي، وتحسينه، وتضعيفه، وتعابيره في ذلك، وجمعه بين عدة رتب:

يقول الشيخ رحمه الله: “فقوله: هذا حديث صحيح، لا إشكال فيه، فالمراد به ما توفرت فيه شروط الصحيح المعتبرة عند المحدثين، وقد يكون له طرق. فإن قال: صحيح غريب، فمراده به: ما لم يكن له إلا طريق واحد، مع صحة سنده. أما قوله: حسن صحيح، فيحتمل معنيين: إما أن يكون له طريقان أحدهما سنده حسن، والآخر سنده صحيح، وإما أن يكون له طريق واحد، واختلفت فيه أنظار أهل الحديث، فبعضهم يرى أن سنده حسن، والبعض الآخر يظهر له أنه صحيح، فيجمع أبو عيسى بين المذهبين، وهذا المعنى الأخير هو الذي يعبر عنه بقوله: حسن صحيح غريب. أما ما يقول فيه: حسن غريب، فهذا هو الحسن لذاته عند المحدثين، أما الذي يقتصر فيه على قوله: حسن، فقط، فهذا هو الحسن لغيره الذي عرفه في العلل آخر جامعه حيث قال فيه: (كل حديث يروى لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب، ولا يكون الحديث شاذا، ويروى من غير وجه نحو ذلك، فهو عندنا حسن). أما قوله: غريب، بانفراد، هذا في الأغلب يكون مؤذنا بالضعف عنده. هذا ما يتعلق بحل هذه الاصطلاحات على سبيل الاختصار، رغم أن الموضوع يحتاج إلى بسط بأكثر من هذا، وقل من حل هذه العبارات على هذا التفصيل، فلعلك لا تجده في غير هذه العجالة.[5]

الثاني: عن “صحيح” و”ضعيف” الترمذي، للعلامة المحدث ناصر الدين الألباني رحمه الله:

     يقول أستاذنا العلامة التليدي رحمه الله: “قد أدرج الشيخ في كتابه “ضعيف الترمذي” كثيرا من الأحاديث الصحيحة والحسنة، وفيها ما أخرجه الشيخان، أو أحدهما، بل منها ما أورده الشيخ نفسه في كتابه “صحيح الجامع” رقم (360 و 4847 و 6074 و 4364 و 2618) ولعل للشيخ عذرا في هذا الأخير، فكيف بحديثين في البخاري ومسلم، وثلاثة في البخاري، وثلاثة في مسلم، بل ضعف خمسين حديثا من صحيح مسلم خاصة من طريق أبي الزبير عن جابر كما يعرف من كتبه، حقا إنه لأمر غريب وإن كان له سلف في ذلك، فإن الأمر غير مسلم كما ذكره الحافظ في مقدمة الفتح.

وهذا مثال، سيجد له القارئ أكثر من دليل بقراءة هذا “التهذيب” ومقارنته بالكتابين المتقدمين.

وبالإضافة إلى الأحاديث التي ضعفها وهي صحيحة أو حسنة، وتنيف على المائة والخمسين، هناك أحاديث أخرى صححها أو حسنها، والواقع أنها ضعيفة…وهي قليلة باعتبار القسم الأول.[6]

     وقد تكرم الشيخ رحمه الله، فوضع في آخر الكتاب جزء أفرده “لأطراف أحاديث تهذيب جامع الترمذي، رتبه على حروف المعجم. ولا يخفى ما في الأطراف من الفائدة الأكيدة وخاصة للكتاب والباحثين”.[7]

 3 ـ شرح “العلل الصغير” للترمذي

      من المعلوم أن الإمام الحافظ الألمعي أبا عيسى الترمذي رحمه الله، قد ختم جامعه المبارك بكتاب سماه: “كتاب العلل”، وهو المعروف بين الدارسين لهذا الفن بـ”علل الترمذي الصغير”، في مقابل مؤلفه الآخر، المطبوع بتحقيق العلامة صبحي السامرائي رحمه الله: “العلل الكبير”.

     وقد كان شيخنا التليدي في طبعته الأولى لتهذيب الجامع لم يعرج على كتاب العلل، ثم لما أعاد النظر في الكتاب، وقابله على طبعاته الجديدة، كطبعة العلامة بشار عواد معروف، والعلامة شعيب الأرنؤوط رحمه الله، وزاد فيه زيادات علمية أربت على ألفي زيادة…ظهر له أن يلحق به كتاب العلل، وأن يشرحه.[8]

فقام بهذا العمل العلمي النافع، وجاء شرح العلل شرحا ميسرا، مختصرا، مفيدا، قدم له الشيخ بكلمة عن مكانة علم العلل في علوم الحديث، وأنه أدق فنونه وأغمضها…وذكر ما طبع من مؤلفات هامة ومشهورة في هذا الفن للقدامى والمحدَثين، ثم تحدث عن ماهية العلة، وتقسيمها إلى ظاهرة وخفية…، وبعد ذلك شرع في إيراد كلام الإمام أبي عيسى رحمه الله في علله فقرة فقرة، ثم يتبعها بالشرح والتوضيح..

     وقد قام الشيخ في شرحه بتخريج ما ورد من أحاديث في كتاب العلل، وبين درجاتها، كما حكم على الموقوفات والمقطوعات التي أسندها الإمام الترمذي، بما يتناسب وقواعد الصناعة الحديثية، وترجم لبعض الأعلام من المحدثين والفقهاء الذين ذكر الإمام أبو عيسى بأنهم كانوا عمدته في الكلام على الرجال والأحاديث، والفقه…وبين بعض قضايا الاصطلاح التي تطرق إليها المؤلف، كمسألة الرد على من طعن في المحدثين في كلامهم في الرجال جرحا وتعديلا، ومكانة الإسناد، والرواية عن المبتدعة وعن المتهمين وعن الضعفاء، وهل رواية الثقة عن رجل تكون توثيقا لذلك الرجل؟، وطبقات الرواة من حيث الإتقان والضبط، ومسألة الرواية باللفظ والرواية بالمعنى، وأوهام الثقات وكبار الحفاظ، وطرق التحمل والأداء، والحديث المرسل وبعض أنواعه، والحديث الحسن عند المؤلف، والحديث الغريب عنده. 

يتبع…

 ****************

المصادر والمراجع:

 

1. تهذيب جامع الإمام أبي عيسى الترمذي والكلام على أحاديثه وتخريجها، للعلامة المحدث أبي الفتوح عبدالله بن عبدالقادر التليدي الحسني الطنجي، دارالأمان – دار ابن حزم، الطبعة الأولى: 1436هـ/2015م.

**************

 

هوامش المقال:

[1] تهذيب جامع الإمام أبي عيسى الترمذي والكلام على أحاديثه وتخريجها، 1/ص:75.

[2] المرجع نفسه.

[3] المرجع نفسه، 1/ص:76.

[4] المرجع نفسه، 1/ص:76-77.

[5] المرجع نفسه، 1/ص: 19ـ20.

[6] المرجع نفسه، 1/ص: 78ـ79.

[7] المرجع نفسه، 3/ص: 733.

[8] المرجع نفسه، 1/ص: 5.

بقلم الباحث: ذ. أسامة الهدار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق