مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةأعلام

العلامة الحسن اليوسي

   من الشخصيات التي سجلت حضورا وازنا في رسم معالم الحياة الثقافية في عصرها، نجد العلامة النحرير، الفقيه والمتكلم والصوفي أبو المواهب الحسن بن مسعود اليوسي، أحد أعلام القرن الحادي عشر الهجري، الذي عكس من خلال مؤلفاته قوة حضور البعد الأخلاقي في الواقع المغربي، ومدى تأثير أهل الولاية في السياسات العامة للمجتمع.         

أولا: حياة الحسن اليوسي:  

هو العلامة الصالح، ذو النهج القويم الواضح أبو عبد الله سيدي محمد، أشهر من أنجبته الزاوية الدلائية من العلماء، حتى ارتبط اسمه باسمها، ينتهي نسبه إلى قبيلة بني يوسي في عداد برابر ملوية، كان والده رجلا صالحا، لم يكن معدودا من رجالات العلم والفكر، وإنما كان معروفا بأخلاق الصلحاء، ذكر اليوسي شهادة في حق والده بقوله: “فاعلم أن أبي مع كونه رجلا أميا، كان رجلا متدينا، مخالطا لأهل الخير، محبا للصالحين، زوارا لهم، وكان أعطي الرؤية الصالحة، وأعطي عبارتها، فيرى الرؤيا، ويعبرها لنفسه، فتجيء كفلق الصبح”[1]، تعرض اليوسي لصدمة نفسية إثر وفاة والدته، وهو لا يزال صغيرا، غير أن هذه الواقعة رغم وقعها السلبي في نفسيته، إلا أنها كان لها أثر إيجابي في مساره العلمي، وقد عبر عن هذا التحول بقوله: “ثم توفيت والدتي، فتنكرت علي الأرض وأهلها، قال الشاعر:

فما الناس بالناس الذين عهدتهم       ولا الدار بالدار التي كنت تعرف

 وكان ذلك سبب الفتح، فألقى الله في قلبي قبول التعليم”[2]، كل هذه الاعتبارات السالفة الذكر، كان لها أثرها البارز على شخصية اليوسي، التي سينعكس وقعها في كتاباته ومواقفه في واقع عصره.

ثانيا: مكانته العلمية:

بدأ اليوسي تحصيله العلمي منذ صباه، فقد بعث به والده إلى الكتاب لحفظ القرآن، غير أن خجله الشديد كان يمنعه من حضور مثل هذه المجالس، حتى توفيت والدته كما أسلفنا، ليتغير واقع الحال، فيقبل على تلقي مبادئ العلم مع شيخه أبي إسحاق بن يوسف الحداد اليوسفي، الذي كان يوجهه إلى كتب الرقائق وأخبار الصالحين، حيث مَكَّنَهُ من مجموع “المورد العذب وبحر الدموع” لابن الجوزي، حيث قال: “فكنت أنظر فيه حكايات الصالحين كأويس القرني، وإبراهيم بن أدهم، وإبراهيم الخواص وغيرهم، فانتقشت تلك المآثر في عقلي، ووقعت حلاوتها في قلبي”[3]، ولعل هذا الأساس الروحي الذي تشبع به اليوسي منذ صباه، هو ما سينعكس على شخصيته العلمية، بما فتح الله عليه من الأسباب الميسرة لأخذ العلم، يحكي عن نفسه ما خُصَّ به من الإمكانات التي شكلت شخصيته العلمية، قوله: ” وكانت قراءتي كلها أو جلها فتحا ربانيا، ورزقت ولله الحمد قريحة وقادة وفطنة ذكية، فكنت بِأدنى سماع وأدنى أخذ ينفعني الله”[4]، ولما ارتبط بالزاوية الدلائية، أخذ عن كبار علمائها، كأحمد بن عمران الفاسي، ومحمد بن أبي بكر الدلائي وغيرهم، “فنشأ رحمه الله في العلم بحرا زاخر العباب، وشمسا منيرة في سائر الآفاق، وكان معظم قراءته بالزاوية، فيها أورى زنده، واشتعلت جذوته، وظهر في مضمار الأذهان تبريزه”[5]، وكان لرئيس أهل الدلاء الفقيه الفاضل لأبي عبد الله محمد الحاج مزيد اعتناء به، لما رأى له من البراعة في العلوم والتمهر في الفنون، حتى قيل بأنه تضلع في العلوم العقلية وبرز فيها على أبناء وقته، وبلغ من خلال كتابه بالقول الفصل في الفرق بين الخاصة والفصل، درجة الشيخ سعد الدين التفتازاني، والسيد الجرجاني وأضرابهما، بحيث يقبل من كلام العلماء ويرد، وسأله يوما سائل بدرسه عن مسالة فقال له: اسمع ما لم تسمعه من إنسان، ولا تجده محررا في ديوان، ولا تراه مسطرا ببنان، وإنما هو من مواهب الرحمان[6]، وبالجملة فقد وسمه الشيخ الإفراني بآخر العلماء، بل خاتمة الفحول من الرجال، حتى كان بعض أشياخنا يقول: هو المجدد على رأس هذه المائة، لما اجتمع فيه من العلم والعمل، بحيث صار إمام وقته وعابد زمانه، ولذلك قال الإمام أبو سالم العياشي فيه:

من فاته الحسن البصري يصحبه     فليصحب الحسن اليوسي يكفيه[7]

ثالثا: تكوينه الصوفي:  

تعد البيئة التي نشأ فيها أبو الحسن اليوسي عاملا مساعدا في تشبع هذا الأخير بثقافة صوفية روحية، فقد وجهه الشيخ أبو إسحاق اليوسفي منذ صغره إلى الارتباط بأعلام الولاية عن طريق تمكينه من كتاب “المورد العذب وبحر الدموع” لابن الجوزي، الذي كان يضم حكايات الصالحين ومناقبهم، هذا بالإضافة الطابع الأسري الذي كان يحياه أبو الحسن داخل بيئته الخاصة، إذ كان والده من رجالات الصلاح، محبا لأهل الخير من الأولياء والصلحاء، معروفا بفراسة صادقة لا تخطئ، كل ذلك كان له نوع أثر في تشكيل شخصية صوفية أخلاقية متزنة، كان لها كبير وقع على ثقافة العصر.

   ومن السمات البارزة التي صاحبت أبى الحسن اليوسي، والتي عملت على تكوين شخصيته الصوفية، تلك المظاهر الراسخة في الممارسة الصوفية، والمتعلقة بزيارة أضرحة الصالحين، وذلك منذ رغم صغره وقلة وعيه بهذه السلوكيات، ما يبرز قوة حضور الثقافة الصوفية داخل البيئة التي كان يقطن فيها، حيث لما ثم له ختم القرآن، قال: “رجعت لبلادنا فذهبت لزيارة الولي الصالح سيدي أبي يعزى، وقد وقع في سمعي أن الناس يطلبون الحوائج عنده، فحضر في عقلي ثلاث حوائج: العلم، والمال، والحج، وذلك مبلغ عقلي في صغري، فحصل لي ذلك ولله الحمد”[8]، وقد حدث في كتابه المحاضرات عن أسلافه، أن ثلاثة من صلحاء الغرب قد جرب عندهم قضاء الحاجات: الشيخ عبد السلام بن مشيش، والشيخ أبو يعزى يلنور، والشيخ أبو سلهام.[9]، ولا شك وأن تلك الزيارات كانت تحرك في وجدان اليوسي نوعا من الشعور بالمكانة الخاصة التي يتنزلها الأولياء في سلم الترقي، حتى أصبحوا محلا للبركة، ونماذج يتوسل بصلاحها لقضاء الحاجات.

   وتشكل الزاوية بمنطقها التربوي الأخلاقي عاملا رئيسا في ترسيخ الوعي الصوفي ممارسة وتدريسا، وإذكاء البعد الوجداني في االمجتمع، فكانت الطرق الصوفية في عصر اليوسي مراكز شامخة للتأطير العلمي، ونشر القيم الإنسانية من خلال نماذج تربوية مؤثرة -بكيانها الأخلاقي- في المجال المغربي، وذلك استجابة للبيئة العامة المميزة لطبيعة المجتمع، التي يغلب عليها البساطة والوضوح، والتركيز على ما تحته عمل، أو ما كان باعثا على العمل، لذلك نجد المشرب الشاذلي الذي استمد عناصره من مدرسة الإمام الجنيد، له حضور داخل صوفية المغرب، وفي بيئة اليوسي على الخصوص، لذلك نجده يعرف التصوف بهذا المشرب الأخلاقي بقوله: “وأخصر التعريفات ما قاله الشيخ زروق رضي الله عنه: العمل لله بما يرضى من حيث يرضى”[10]، ويذكر من خلال فهرسته الأسانيد الشاذلية التي ينتسب إليها شيخه سيدي محمد بن ناصر الدرعي[11]، الذي كان عمدته في الطريق الصوفي، قال الإفراني: “وأما علم الباطن فعمدته فيه هو الإمام أبو عبد الله بن ناصر الدرعي، هو طبيب علته ومبرد غلته، قال في الفهرسة: وهذا الشيخ هو الذي أخذنا عنه العهد والورد، وإليه ننتسب، وكل من نذكره سواه، فإنه على طريق انتفاع ما… وقد أذن له في تلقين الأوراد نيابة عنه، فكان يلقنها في حياته، فهرع الناس إليه وأقبلوا إليه يزفون، ووقع له من إقبال الخلق عليه ما لم يعهد مثله”[12]، وكانت الزاوية الدلائية مجال تكوين شخصية اليوسي علميا وتربويا، بل كانت له عناية خاصة من طرف رئيسها الفقيه الفاضل أبو عبد اله محمد الحاج، الذي كان عنده بالحظوة التامة.[13]

رابعا: مواقفه السياسية:  

عاش أبو الحسن اليوسي في ظل القلاقل التي عرفها المغرب بعد ضعف السعديين وتقسيم البلاد خلال الفترة الانتقالية بين دولة السعديين ودولة العلويين.

ولما تولى المولى الرشيد الحكم، كانت العلاقة بينه وبين أبي الحسن اليوسي تتسم بالاحترام المتبادل، والولاء للسلطة، وقد اقترح عليه القضاء والفتوى فرفض ذلك، ولم يجبره على قبول الأمر، لما عرف من سيرة المولى الرشيد من حبه للعلماء ومجالستهم وإكرامهم، فكان أبو الحسن من ضمن مَن شملتهم العناية السلطانية، ولما تولى زمام الحكم المولى إسماعيل كان اليوسي من بين العلماء الذين وافقوا على بيعته إثر وفاة أخيه الرشيد[14]، بل كانت للشيخ مراسلات عديدة مع المولى إسماعيل أبدى من خلالها النصح لأمير المؤمنين، ونبهه إلى مواطن الضعف في الدولة، والتي أجملها في الرسالة الموسومة ب «براءة اليوسي»[15]، من منطلق العالم الواعي بمسؤولية العلماء داخل المجتمع، وواجبهم في إبداء النصح للسلطان إذا ظهر في الدولة ما يستدعي مساهمتهم في إصلاح شؤون الدولة، مع ما يقتضيه واجب النصح من شروط الأدب واحترام المنزلة، وحسن الطوية، وهو يعبر عن هذا الشعور بقوله: “فإنا أمرنا بمحبة أهل بيت نبينا، فنحن نحبهم على الدوام والاستمرار، ولا سيما سلطان المسلمين الذي هو ظل الله في الأرض[16]، ولم يكن لهذه العلاقة في إبداء واجب النصح أن تتأثر بين اليوسي والمولى إسماعيل، لما يعلم هذا الأخير من صدق الرجل ووفاءه لمسؤوليته العلمية، وواجبه الأخلاقي في رد الأمور إلى نصابها.

     تلك هي إذا أهم ملامح شخصية أبي الحسن اليوسي التي عمل على رسمها مسار عالم كبير، وشخصية متزنة في مواقفها، وجرأة نادرة في الإقرار بالحق، وقناعة راسخة في الوفاء بالمبدأ رغم تقلب الأحوال، واضطراب الأوضاع.    

الهوامـــــش

[1]– المحاضرات في الأدب واللغة: الحسن اليوسي، تحقيق: محمد حجي، وأحمد الشرقاوي إقبال، دار الغرب الإسلامي، ط: الثانية، 2006م، ص 84. 

[2]– صفوة من انتشر من أخبار صلحاء القرن الحادي عشر: الإفراني، تقديم وتحقيق: عبد المجيد خيالي، مركز التراث الثقافي المغربي -الدار البيضاء، المغرب- ط الأولى: 1425هـ-2004م، ص 344-345.

[3]– المصدر نفسه، ص 345.  

[4]– المصدر نفسه، ص 345.

[5]– المصدر نفسه، ص 346.

[6]– المصدر نفسه، ص 347.

[7]– المصدر نفسه، ص 348.

[8] – المصدر نفسه، ص 345.  

[9] – المحاضرات، ص 183.

[10]– فهرسة اليوسي، تقديم وتحقيق: حميد حماني اليوسي، دار الفرقان –الدار البيضاء-، ط الأولى: 2004م، ص 72.

[11]– فهرسة اليوسي، ص 150.

[12]– صفوة من انتشر، ص 348.

[13]– المصدر نفسه، ص 347.

[14]– الزاوية الدلائية ودورها الديني والعلمي والسياسي: محمد حجي، مطبعة النجاح –الجديدة- ط. 1409هـ-1988م، 107.

[15]– رسائل أبي علي الحسن بن مسعود اليوسي، جمع وتحقيق ودراسة: فاطمة خليل قبلي، دار الثقافة –الدار البيضاء-ط الأولى: 1401هـ-1981م،  1/238.

[16]– رسائل اليوسي، 2/611.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق