وحدة الإحياءدراسات عامة

العالم الإسلامي وسؤال التأخر التاريخي

 تعد الخرافة ومظاهر التدين الشعبي من أكبر التحديات التي تعوق مسار التقدم والنهضة في المجتمعات الإسلامية، خاصة ممارسة الشعوذة وربطها بالدين. وهو ما جعل مرتبة العلم ودوره في التطور الاجتماعي يتراجع؛ أنظر، على سبيل المثال، إلى عادة “الدوسة” وهي أن ينطرح الناس أرضاً مصطفين جنبا إلى جنب، ثم يعلو أحد المشايخ على ظهورهم بحصان يدوسهم واحداً بعد الآخر، حتى ينتهي إلى آخرهم، وهي إهانة لهم مخالفة للشرع، إلى أن واجهها الشيخ “محمد عبده” بفتوى ببطلانها، ومارس ضغوطاً على الخديوي عباس حلمي الثاني وشيخ الطريقة البكرية لإلغائها، وهذه العادة كثيراً ما أثارت سخرية الأوروبيين من المصريين، ووصفها “إدوارد لين بول” مستنكراً في كتابه عادات المصريين وتقاليدهم[1].

إذن، نحن أمام سلوك شعبي يتنافى مع العقل، ظل مستمراً في مصر حتى أوائل القرن العشرين، وهذا يعني أن العلم في مصر ظل منذ محمد علي ومشروعه النهضوي إلى الآن مشروعاً نخبوياً يخص النخبة ولا يكاد يؤثر في عموم المجتمع، الأمر الذي يفسر العديد من المشاكل التي حاصرت مصر طوال القرنين الماضيين وأعاقت تقدمها رغم كل الجهود التحديثية التي بذلت. الأمر الذي يدعونا للتساؤل:  متى يصبح العلم قضية مجتمع ومعركة من أجل النهضة؟

إن توزيع الأدوار بين مختلف القوى الاجتماعية تمثل أحد الأسباب الرئيسية التي أدت إلى جعل الإجابة على هذا السؤال صعبة، فالإسلام وإن عمل على تقديم العلوم النقلية تقديم تشريف على العلوم العقلية (التطبيقية)، إلا أن الثانية لم تحظ إلى الآن بنفس العناية والرعاية التي حظيت بها الأولى، ولعل ذلك يعود إلى التحالف الذي قام ومنذ وقت العصر المملوكي في مصر بين السلطة الرمزية للعلماء المحافظين والسلطة السياسية للماليك، فبعد انتهاء الحروب الصليبية، واجه المماليك مشكلة التحول من النمط العسكري الذي أتاح لهم شرعية السيطرة على السلطة في مصر إلى نمط الدولة.. فلا نكاد أن نستثني من حالة التراجع العلمي والحضاري سوى “البيمارستان القلاووني” الذي ساهم كثيراً في تقدم الطب في مصر والعالم منذ إنشائه إلى غاية القرن (الثامن عشر الميلادي)، وتقدم محدود في الفلك لارتباطه بالمواقيت الشرعية من رؤية أهلة الشهور الهجرية أو مواقيت الصلاة.

 ومع وجود ثلة من العلماء حاولوا أن ينهضوا بالعلوم التطبيقية لتكون وسيلة لتقدم المجتمع، إلا أن منظومة وتركيبة السلطة المكونة من المماليك وعلماء الدين والتجار، الذين يلعبون دور الوسيط بين التجارة القادمة من شرق آسيا إلى أوروبا، جعلت دور وتأثير العلوم التطبيقية محدوداً في مجتمعاتنا، إلا في مجال العمارة والفنون المرتبطة بها.

 وعلى الرغم من الجهود التي بدلت في ظل الدولة العثمانية في مجال العلوم التطبيقية، حيث كان هناك اهتماما خاصا بالرياضيات والطب والفلك، إلا أن الفجوة ظلت تزداد يوماً بعد يوم بين العلوم التطبيقية في أوروبا وبين مثيلتها في العالم الإسلامي، لكن هل هذا يعني أننا لم نكن ندرك ما كان يحدث في الغرب؟ ما سر تراجع الاهتمام بالعلوم التطبيقية في مجتمعاتنا؟

 إن الإجابة العملية على مثل هذه التساؤلات تقتضي من علمائنا وفقهائنا وأعياننا إعادة طرح قضية دور المجتمع في النهوض بالبحث العلمي، وكذا النهوض بالمجتمعات الإسلامية لما فيه عزتها ورفعتها. ذلك لأن رهان النهضة العلمية لا يقل أهمية عن رهان مواجهة الجهل والخرافة، بل أصبحا يمثلان معركة وجود بالنسب للمسلمين في العالم..

  إن البون مازال شاسعاً في مجتمعاتنا؛ بين الوعي باعتبار العلم معركة وجود يتحدد على أساسها مستقبل هذه الأمة وبين الأخذ بالأسباب الموضوعية لتنزيل هذا الوعي، علماً بأن الدين الإسلامي بريء من نبذ العلم؛ فقد اعتبر السعي إلى طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، قال صلى الله عليه وسلم: “لا تَزُولُ قَدَمَا الْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ.. وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ[2].”

  إن واحدة من المشكلات الكبرى التي تواجه سؤال النهضة والتقدم، هو حصر مفهوم العلم في العلم الشرعي. وهو ما يفسر الإصرار على ربط مفهوم العلم الوارد في العديد من النصوص بالنص الشرعي: مثل قوله تعالى: ﴿يرفع الله الذين ءامنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات﴾، وقوله تعالى: ﴿قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون﴾، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: “طلب العلم فريضة على كل مسلم”، وقوله فيما رواه أبو هريرة، رضي الله عنه،  قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: “من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله به طريقاً إلى الجنة”.

فلفظ العلم في هذه الآيات والأحاديث يجري التأكيد على أنه يحيل إلى العلم الشرعي، أو ما يكون خادماً وموصلاً للعلم الشرعي. والعلم قد يكون نافعاً وقد يكون ضاراً، كما قد يكون حقاً وقد يكون باطلاً[3].

 لا يختلف أي عالم على فضل وأهمية العلم الشرعي بل وضرورته لكل مسلم، ولكن معالجة مفهوم العلم بصورة مستمرة في أدبيات علماء المسلمين وقصره على المفهوم الشرعي، شكَل بمرور الزمن رؤية لدى المسلمين مفادها أن العلوم التطبيقية والعاملين بها أقل أهمية ودرجة في خدمة الإسلام والمسلمين وهو ما يتناقض مع التكليف الإلهي لعمارة الأرض والاستخلاف فيها، كما أمرهم الله سبحانه وتعالى: ﴿هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها﴾ (هود: 61).  وعمارة الأرض تتطلب بداهة، معرفة جيدة بالعلوم التطبيقية التي تتقدم باضطراد.

لقد كان الفقهاء المسلمين على وعي كامل بالفروض التي تجب على المسلمين فقسموها إلى نوعين: فروض أعيان وفروض كفاية، وفروض العين مثل الصلاة والصيام… وأما فروض الكفاية فهي فروض عامة، إذا قام بها البعض سقطت عن الأمة، لكن إن أهملها الكل أثموا… فكل علم نافع، أو صناعة مفيدة، لابد أن يوجد من المسلمين من يحسن أداءها، وإلا حصل الإثم للجميع، لكن إذا جرى تعيين فرد لها، صارت بالنسبة له من فروض العين، ومن العلماء من يقدم فروض الكفاية على العين؛ لأهميتها بالنسبة للأمة[4].

 لكن غياب هذا الوعي وغلبة مفهوم العلم الشرعي، جعلا العلوم التطبيقية بعيدة عن منظور المجتمع ورؤيته لها باعتبارها لازمة لإعمار الأرض، لدرجة أن العديد من شباب كليات الطب والهندسة والعلوم تخصصاتهم وتفرغوا للدعوة الإسلامية على نباهتهم وتفوقهم، وكأن الدراسة في هذه الكليات والتفوق، بل والريادة فيها، أبعد ما تكون عن مقتضى التكليف الإلهي.

 لأبي حامد الغزالي (1051- 1111م)، نظرية في العلم تكون فكرة واضحة عن العلم الشرعي والدنيوي، وعن طبيعة العلاقة بينهما:

ففي كتابه “إحياء علوم الدين”، قسم العلوم إلى شرعية، وهي ما استفيد من الأنبياء عليهم السلام، وغير شرعية، وهي ما أرشد إليهم العقل كالطب والرياضيات وأمثالها، وغير الشرعية هي من فروض الكفاية، فإن خلا منها بلد سارع إليه الهلاك.. أكثر من ذلك فقد أكد في كتابه (أيها الولد) معتبرا أن من قصر علمه على العلوم الدنيوية، دون الشرعية، فإن عمره يضيع فيما لا ينفع في الآخرة. وفي كتابه (ميزان العمل) اعتبر أن من اقتصر على علوم الدين وحدها، فإنه لا يفهم من الدين إلا قشوره، بل خيالاته وأمثلته، دون لبابه وحقيقته، إذ لا تدرك العلوم الشرعية إلا بالعلوم العقلية، فإن العقلية كالأدوية للصحة، والشرعية كالغذاء[5].

كما لعبت الخرافة دوراً في تخلف المسلمين لسنوات، فإن الإعلام يكاد يلعب الدور نفسه اليوم؛ لأن العلم ومعركة النهوض والتقدم أمور مغيبة عن أغلب القنوات الإعلامية، وكلاهما لعب على عواطف الجماهير المضللة؛ خطب “عبد الله النديم”، خطيب الثورة العرابية، في الإسكندرية قائلاً: “إن طوابي الإسكندرية إذا أطلقت مدافعها على البحر بلغ مرماها جزيرة قبرص، ومدافع الآستانة بتركيا إذا أطلقت تبلغ هذه الجزيرة من الجانب الآخر، فكيفما حاولت أساطيل الإنجليز فهي تحت رحمة مدافعنا”، وعلا هتاف الجماهير وتصفيقهم له!!

كانت إذاعة القاهرة وصحفها في 1967 تؤكد للمصريين أنهم سيهزمون اليهود، بل وروجت لانتصار مزعوم فكانت الهزيمة، فإذا نظرت إلى الإعلام وجدت أن دوره في التلاعب بمشاعر الجماهير كان سلبياً. فإعلامنا، في جانب كبير منه، ليس له من دور حقيقي في توطين العلم كأداة للتقدم، بل في حث الحكومات والمجتمعات على إرساء أسس التفكير والنظر كوسيلة لتغيير أنماط الحياة المتردية في مجتمعاتنا، فالخطاب الديني الذي يغرق في الترهيب من عذاب نار جهنم أكثر مما يحث على عمارة الأرض كالإعلام اللاهي الذي يشجع الخرافة ويعبث بالعقول.

إن أجدادنا في القرن (السادس عشر الميلادي) لم يكن لديهم الإدراك والوعي الكافيين لما يحدث في أوروبا وما يدور في الأمريكتين بعد نزول الأوربيين لهذه الأرض، فكان أن احتد الصدام الحضاري واتسعت الفجوة يوماًَ بعد يوم. لكننا الآن في ظل ثورة الاتصالات واندماجها مع الوسائط الإعلامية، لم يعد لدينا حجة لكي لا يتحصل ويتبلور لدينا الوعي والإدراك بما يحدث لدى الآخر أياً كان في الشرق أو في الغرب من تقدم علمي وتكنولوجي.

إن توطين العلم وجعله جزءاً من حياتنا اليومية وغاية تكتمل بها رسالة الدين الإسلامي، هدف يجب أن يكون أساسياً في حياتنا، خاصة أننا في مصر حين سعينا لذلك وجدنا أفراداً يؤلفون في العلوم الحديثة على نحو (القس عيسى بيترو) في رسالته في العلوم الحديثة (ملحق 1)، وعلى نحو كتاب “خلاصة الأفكار في فن المعمار” لمحمد عارف الذي يضاهي، بل يفوق ما كتب في أوروبا من قبل معاصريه (ملحق 2).

هذا كله بالإضافة إلى تساؤلات وبحث المفكرين والسياسيين عن النهضة ووسائلها على نحو ما ألف “خير الدين التونسي” كتابه “أقوم المسالك لمعرفة أحوال الممالك[6]“، والذي دعا فيه إلى أن المشروع النهضوي يجب أن يبني على أسس عقلانية واضحة، من خلال الاستفادة من تجارب الأمم الأخرى، مثل هذه الدعوة وجدت صدى إيجابيا لدى العديد من النخب في القرن (التاسع عشر الميلادي)، نتيجة لاحتكاكها بأوروبا، على نحو ما ألف “رفاعة رافع الطهطاوي” “تلخيص الإبريز في تخليص باريز” 1834م، و”أحمد فارس الشدياق”) الساق على الساق في ما هو الفارياق” 1855م، و”كشف المخبأ عن فنون أوروبا 1863م”، و”أمين فكري” “إرشاد الألبا إلى محاسن أوروبا” 1892م…الخ.

لكن تميز (خير الدين التونسي) بزيارته لعشرين بلداً أوروبياًَ، انتهى بعدها إلى كتابه المتميز. والقضية الأساسية التي يدور حولها كتابه هي التمدن، الذي يعد بمثابة الحكمة، والحكمة كما يذكر “ضالة المؤمن يأخذها حيث وجدها”، لا يكف خير الدين في جرأة وواقعية غير مسبوقة من تحذير المسلمين من مغبة الاعتراض عن الاقتباس عن الغرب؛ “تحذير ذوي الغفلات من عوام المسلمين عن تماديهم في الإعراض عما يحمد من سيرة الغير الموافقة لشرعنا بمجرد ما انتعش في عقولهم من أن جميع ما عليه غير المسلم من السير والتراتيب ينبغي أن يهجر وتآليفهم في ذلك يجب أن تنبذ ولا تذكر حتى أنهم يشددون الإنكار على من يستحسن شيئاً منها وهذا على إطلاقه خطأ محض[7].”

وحيث أن القضية عنده هي التمدن فهو يدعو المسلمين إلى تجاوز الحواجز الدينية الضيقة، يدعوهم إلى ما نسميه اليوم بـ”التنوير أو التفتح”، مؤكدا على أن كل متمسك بديانة وإن كان يرى غيره ضالاً في ديانته، فذلك لا يمنعه من الاقتداء به في ما يستحسن في نفسه من أعماله المتعلقة بالمصالح الدنيوية كما تفعله الأمة الإفرنجية، فإنهم مازالوا يقتدون بغيرهم في كل ما يرونه حسناً من أعماله حتى بلغوا في استقامة نظام دنياهم إلى ما هو مشاهد، وشأن الناقد البصير تمييز الحق بعيار النظر في الشيء المعروف عليه قولاً كان أو فعلاً؛ فإن وجده صواباً قبله واتبعه سواء كان صاحبه من أهل الحق أو من غيرهم فليس بالرجال يعرف الحق، بل بالحق تعرف الرجال[8].

أما عما يجب أن نأخذه أو نقتبسه من الغرب فهو يرى أننا يجب أن نقتبس المعارف والتنظيمات الأوروبية المؤسسة على العدل والحرية، وهما أصلان في الشريعة الإسلامية، فإن ذلك يجر خير الدين إلى معالجة قضية إحياء القيم الإسلامية التي اندثرت بظهور الحكم المطلق القهري[9].

ظل سؤال التقدم في مصر مثيراً للجدل، فعلى الرغم من محاولات “محمد علي” توطين العلوم في مصر وتحديثها، إلا أن المفارقة تمثلت في مقاومة المصريين لمشروعه، انسجاما مع نظرتهم المعيارية السلبية لعملية التحديث الذي يكاد يوازي لديهم الابتداع[10].

إلا أنه بمرور الزمن ومع إدراك المصريين ووعيهم المتنامي بأهمية العلوم في تقدم الأمم، بدا سؤال التقدم سؤال المجتمع كله وليس السلطة فقط، وهو ما يفسر كيف أن النخبة بدأت تكتب بكثافة حول هذا الموضوع، بل نرى طرحاً شاملاً لمسألة التقدم العلمي لجزء كبير من مشاكل مصر، فـ(محمد عمر) طرح هذا تفصيلاً سنة 1902 في كتابه الشامل المعنون “حاضر المصريين أو سر تأخرهم[11]“، في سياق نظره للتعليم العالي والفني كأساس للتقدم العلمي معتبرا أن “المدارس في القطر المصري عددها قليل واحتياج القطر إليها عظيم لمحنة أهل العلم في الوقت الحاضر أكثر مما في الزمن الغابر، وليس في القطر المصري كله من المدارس العالية إلا بضع مدارس حكومية، وأغلبها يدل على اعتناء المرحوم الحاج محمد علي باشا بالتعليم، فللطب مدرسة واحدة حاضرها متأخر عما كان عليه قبلاً في زمن مؤسسها، ينفر من دخولها التلامذة لقلة إنصاف الحكومة للمتخرجين فيها، فإن التلميذ بعد أن يحوز “الدبلوما” يتقاضى راتباً قدره ثمانية جنيهات في الشهر، وهو مبلغ حقير لقاء عمل كبير، أما عن المدارس الصناعية فليس للحكومة منها إلا اثنتان إحداهما في القاهرة والثانية في المنصورة…[12].”

وهو ما دعا النخبة المصرية للسعي لتأسيس الجامعة الأهلية[13] لتكون أداة المصريين للتقدم وتعبيراً عن رغبة المجتمع في أن يكون متقدماً، فضرب المجتمع بذلك مثلاً جيداً للتبرع ودعم مشروع وطني من هذا النوع وبهذا الحجم.

 والسؤال الذي ينطرح اليوم: هل لدى المجتمعات العربية والإسلامية الوعي والإرادة لكي تتبرع وتدعم المؤسسات التعليمية والعلمية والجمعيات العلمية ومختبرات البحث العلمي، بوصفها أدوات لإعمار الأرض كما أمرنا الله، عز وجل، أم أن إرادة التبرع الأهلي لدينا ستظل مقتصرة على بناء مسجد إلى جوار مسجد دون أن ندرك حاجتنا الماسة لأدوات إعمار الأرض كما هي حاجتنا لبناء المساجد وجعلها منارات لإنتاج العلم وإشاعته والحث عليه..

ملحق (1): رسالة في العلوم الحديثة

مخطوطة مهمة، بدون عنوان، وهي أقرب إلى الكتالوج الفني الوصفي، منها إلى الكتاب المعتاد، ذلك أن صفحاتها عبارة عن رسوم دقيقة للآلات الهندسية والماكينات والموازين والخرائط الفلكية والتلسكوب وآلات الجراحة وأشكال مقطعية للجسم والنباتات وخرائط لقارات العالم، بحسب الأسلوب المعاصر في رسم الخرائط، وليس على الطريقة التراثية التي نراها عند الإدريسي وابن حوقل وغيرهما من الجغرافيين القدامى.

ويبدو أن المؤلف كان متبحراً في علم الفلك، فهو يرسم الأفلاك على حسب رأي كوبيرنيكوس (كوبيرنيقوس) ثم يرسمها على حسب وضع بطولوميوس (بطليموس) ثم يرسمها ثالثاً على حسب وضع تيكونيوس براها الفلكي (تيكوبراهي) وكأنه يؤرخ من خلال الرسوم لتطور علم الفلك.

 وأهمية المخطوطة تكمن في كونها مستنداً بالغ الأهمية في إطار عملية التاريخ للنهضة العلمية الحديثة في البلاد العربية، فهي مؤرخة بسنة 1225 هجرية (1810 ميلادية) مما يعني أنها نُسخت إبان البواكير الأولى للنهضة الحديثة في مصر والبلاد العربية، خاصة أن التاريخ المذكور هو من وضع ناسخها المجهول الذي نسخها، كما ذكر في آخر المخطوطة، في ثغر دمياط المصري، مما يدل على أنها وُضعت قبل ذلك بسنوات.

أما صاحب المخطوطة، الذي ترجم ورسم الأشكال وألّف مقدمتها الموجزة التي جاء فيها: “إن الهيئات الهندسية، قد تفيد العقل إفادة كلية وتجعله يدرك الأشياء العقلية بالعين الباصرة الحسية…إلخ، فهو القس (عيسى بيترو) من مدينة القدس، وقد ألفها، كما يقول في المقدمة، لحضرة الجناب العالي: لوغوثاني السنيور باسيلي خليل فخر الجنس العربي!

وتقع المخطوطة في 19 ورقة، مقاس 17x 24 سم، وبداخلها ورقة مطوية، مقاس 24x 32 سم، مرسوم عليها الخريطة المناخية، وبظهرها خريطة فلكية للكون. وقد قامت المكتبة مؤخراً بإصدار نسخة رقمية شاملة من هذه المخطوطة، في إطار مشروع المكتبة الرقمية للمخطوطات. والمخطوطة محفوظة بمجموعة مكتبة بلدية الإسكندرية تحت رقم 1449/ج فلك.

ملحق (2): خلاصة الأفكار في فن المعمار (محمد عارف)

 (بولاق، 1315- 1319ﻫ، 4 أجزاء)

 كان المؤلف مدرساً للعمارة بمدرسة المهندسخانة الخديوية، ثم أصبح أحد أعضاء النيابة العمومية، وألف كتابه “خلاصة الأفكار في فن المعمار” ليقوم بتدريسه لتلامذة المهندسخانة، وتاريخ الطبعة الأولى يعود إلى سنة 1315ﻫ، وقد ذكر المؤلف في مقدمة هذه الطبعة أنه جعل كتابه مشتملاً على أربعة أجزاء الأول منها خاص بمواد العمارة، والثاني بآلات العمارة، والثالث بإنشاء المباني، والرابع للعمارة.

 وقد جمع كتابه من “أئمة الكتب نسبة لمؤلفيها”، فرجع إلى ما كتبه (إبراهيم بك لينان) أحد مشاهير مهندسي ديوان الأشغال العمومية بمصر، وإلى ما كتبه (علي باشا مبارك) مدرس العمارة بالمهندسخانة بمصر، و(خفاجة بك) مدرس العمارة بنفس المدرسة، و(إسماعيل باشا مصطفى الفلكي) الشهير ببناء الرصدخانة المصرية، ومسيو (رينو) الفرنساوي.

 وقد استعرض المؤلف في الجزء الأول (152 ص) أنواع الأحجار والرخام والمحاجر المصرية وما كان يستخرج منها مع إيراد إحصاء دقيق عن محاجر القطر كلها، وتحدث كذلك عن أنواع الرخام الذي كانت تستورده مصر في عهده، والمباني التي استغل فيها هذا الرخام كمسجد الإمام الحسين وجامع القلعة، وأوضح في هذا الجزء عيوب الأحجار والرخام وطريقة معالجتها.

وتناول كذلك الكلام عن الطرق المستعملة في مصر للحصول على أحجار البناء والرخام بطريقة ألغام البارود أو قطن البارود أو البالستيت أو الديناميت أو النشر، كما تحدث عن الجير والجبس وطرق حرقها وخواص كل منها، وكذلك تحدث عن الرمل والحمرة وخرسانة المونة و”الدقشوم” مع توضيح نسب “المونة” في العمارات الأهلية والأشغال الصناعية وتناول الأخشاب وخاوصها المحلي منها والمستورد. وختم هذا الجزء بالحديث عن الخوازيق والأطواق والركايز وطرق دقها، كما تناول المعادن المستعملة في العمارة من حديد وصلب ونحاس وغيره مع بيان طرق اللحامات والتعشيقات.

وخصص المؤلف الجزء الثاني (43 ص) للآلات الأصلية المستعملة في رفع الأثقال من بكر وعيارات (جملة بكوات) وملافيف (إسطوانة رفع)، و”العفاريت” و”الونشات” وآلات النزح ورفع المياه و”الكراكات” والغواصات، وختم هذا الجزء بالحديث عن الورش وترتيبها باستعمال الأشخاص أو الآلات الميكانيكية أو الحيوانات أو البخار، وبالجزء الأول والثانية ملاحق هامة عبارة عن جداول لحساب مقاومة المواد إجمالاً.

أما الجزء الثالث فهو في (396 صفحة) (بولاق، 1316ﻫ) فقد قدم له المؤلف بشرح المبادئ العامة للمباني السكنية، وتحدث بعد ذلك عن التأسيسات وأعمال الجس ثم ختم الباب الأول بإيضاح مواد البناء المستعملة في القناطر وغيرها من المباني المائية وشرح حرق الطوب في الكوش والأفران وعمل الحمرة والمون الخرسانية وكحل اللحامات والشروط الواجب اتباعها في أشغال عمارات تفتيش الأشغال.

وفي الباب الثاني وصف تفصيلي للحوائط المعمارية المبنية من الطوب أو “الدبش” أو الخرسانة أو الطين (الطوف) أو التخاشيب وهي ما تعرف بالحيطان السويسي، وألحق هذا الباب بيان آلات البناء، وفي الأبواب التالية تحدث عن الطرز المعمارية المختلفة كالطرز الدوري و”اليوني” و”الكورنثي”، ثم تناول الكلام عن العقود والقباب والجملونات بأنواعها، ثم تحدث عن السلالم والدرجات و”الدرابيزينات”، كما تحدث عن الحليات والشبيابيك و”المساقيف” والأعتاب و”البويات” بأنواعها ودروات المياه في المباني السكنية.

أما الجزء الرابع فهو 296 صفحة (القاهرة، 1319ﻫ)، وقد قدم لهذا الجزء ببيان الأصول العامة والقواعد المتبعة لرسم المباني وزخرفتها، ثم تحدث في الباب الثاني عن العمائر الفرعونية من منازل ومدارس ومعابد وأهرامات، ثم خصص للعمائر الإسلامية باباً خاصاً هو الباب الرابع، فتكلم عن الفن الإسلامي عامة وشرح رسم المشبك مع دراسة فن العمارة الإسلامية من الناحية الهندسية ومن ناحية النجارة والرخام والدهان وأشغال البرونز، ثم تحدث، بعد ذلك، عن “المجارير” والمراحيض والمقادير وتصميمها المعماري، وتصميم الحارات والشوارع العمومية والمستشفيات وكافة المباني الحكومية، وبيان الأصول الصحية في كل هذه المباني، ثم ختم الجزء الرابعة بطرق تبليط الشوارع بالأسفلت ثم بالحجر الصوان المسحوق المذاب بالحرارة مصبوباً في قوالب.

الهوامش


[1]. إدوارد وليم لين بول، عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم، (مصر ما بين 1833/1835) ترجمة سهير دسوم، القاهرة: مكتبة مدبولي، 1991م، ص467-468.

[2]. جزء من حديث أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، انظر الترمذي 4/612، جامع الأصول 10/436 و437.

[3]. محمد بن صامل السلمي، منهج كتابة التاريخ الإسلامي وتدريسه، القاهرة: دار الوفاء للطباعة، 1988، ص25-26.

[4]. نعمان السامرائي، نحن والحضارة والشهود، كتاب الأمة، قطر 2001، ص108.

[5]. المرجع نفسه، ص110-111.

[6]. خير الدين التونسي، أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك، مجلدين، تمهيد وتحقيق المنصف الشنوفي، بيت الحكمة، تونس، بدون تاريخ.

[7]. المرجع نفسه، ج1، ص120.

[8]. المرجع نفسه، ص123.

[9]. المرجع نفسه.

[10]. خالد عزب وأحمد منصور، مطبعة بولاق، خالد فهمي، كل رجال الباشا، محمد علي وجيشه وبناء مصر الحديثة، القاهرة: دار الشروق، 2001.

[11]. محمد عمر، حاضر المصريين أو سر تأخرهم، مطبعة المقتطف في مصر 1902م. وطبع بمقدمة لمجيد طوبيا سنة 1992م من قبل دار مصر المحروسة ومنشورات الجمل.

[12]. محمد عمر، حاضر المصريين أو سر تأخرهم، ص128-129.

[13]. جامعة القاهرة حالياً.

د. خالد عزب

مدير إدارة الإعلام بمكتبة الإسكندرية
جمهورية مصر العربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق