وحدة الإحياءقراءة في كتاب

الشيخ عبد الله كنون.. النبوغ والإصلاح

أصدر الأستاذ نور الدين قربال، كتابه “مظاهر الفكر الإصلاحي عند عبد الله كنون”، عن مطابع “طوب بريس” بالرباط، سنة 2015، وجاء العمل في 325 صفحة من الحجم المتوسط، والمتضمن لبيبلوغرافية جامعة لإنتاجات الشيخ عبد الله كنون.

ويعد الكتاب كما جاء في المقدمة التي حررها عبد الصمد العشاب، مدير مكتبة عبد الله كنون بطنجة، بمثابة دراسة للفكر الإصلاحي عند الشيخ كنون، وتحليل لمرجعيته الإسلامية في كل المواضيع المرتبطة بفلسفة الإصلاح، معتمدا في ذلك على إصدارات/تحليلات العلامة كنون، وشهادات من عاصروه، وما صيغ حول شخصه ومبادراته في موضوع الإصلاح، باعتبار هذا الأخير طوق النجاة للخروج بالمجتمعات الإسلامية من الفوضى والتعثر والتبعية.

لقد حاول نور الدين قربال، من خلال هذا الكتاب، إبراز الدور الذي قام به المصلح الديني “سيدي عبد الله كنون”، بداية القرن العشرين، شأنه في ذلك شأن العلماء السلفيين الذين حملوا مشعل الإصلاح، لمواجهة تآمر الاستعمار، الذي ما فتئ يزكي التخلف بجميع تجلياته، وذلك بإعادة التبشير بالإسلام وبمبادئه السامية، ونهج الإصلاح الديني لمعالجة مختلف مشاكل المجتمع المغربي، مع الانكباب بالدراسة والتحليل على مظاهر التعثر التي عاندت المسيرة الإصلاحية للمجتمع المغربي.

وخلال هذه الدراسة، لم يفت الأستاذ قربال التنبيه إلى جدوى الاستفادة من تراكمات أعلام السلف داخل الأوساط الثقافية، مع التشديد على ضرورة إنشاء مراكز البحث المتخصصة في هذا المجال، حتى لا تكون هناك قطيعة بين مراحل الإصلاح والموجات العصرية العابرة، وبهذا يتسنى للفكر الإصلاحي أن يحقق هدفه، المتمثل في التواصل بين مراحل الفكر العربي الإسلامي، بإعادة النظر في المنهج بدل الاشتغال على المضامين فحسب، وهو ما كان يسعى إليه الشيخ كنون على امتداد مساره.

ولكي يتسنى للمتلقي الاطلاع على معالم الفكر الإصلاحي لصاحب النبوغ، وتحديد المنطلقات الفلسفية لرؤيته الإصلاحية، ومعرفة خلفيته الثقافية والعلمية والإكراهات التي تعرض لها خلال مسيرته الإصلاحية وكذا العوامل/الظروف التي جعلت منه رجل علم وإصلاح، سواء كانت اجتماعية أو سياسية، ارتأى الأستاذ قربال إلقاء نظرة على مسار هذا المصلح الديني، ولو بشكل مقتضب، من المنشأ حتى ولوجه أعلى الهيئات والمؤسسات، مرورا بتكوينه العلمي والمعرفي وكذا بعض محطاته النضالية/الإصلاحية، مع جرد بسيط للوضع السياسي الذي كان يعيشه المغرب خلال القرنين الأخيرين.

أمة تفتقر إلى الإصلاح: ما السبيل إلى النهوض بها؟

يرى المؤلف أن المغرب، شأنه شأن باقي البلدان العربية، عرف أحوالا اقتصادية متدهورة، ووضعا سياسيا وعسكريا ضعيفا خلال القرنين الأخيرين، تميز بالتراجع والانهزامية والتقوقع حول الذات واجترار الماضي، أدخله في مواجهة مع “الآخر” ذاك الأوروبي المتقدم، الذي يتبنى فكرا غربيا، يعتمد “العقل” ويطلق “الأخلاق”. هي المواجهة التي ستفرز غربا يوسع رقعته جغرافيا ويتصاعد مدنيا، مستغلا ذلك الفراغ الحضاري، وأمة إسلامية تعاني التقهقر والانحطاط وتكالب قوى الشر على مصالحها، مما خلق تراجعا لدى المسلمين واستعدادا للاستعمار والتخلف والرجعية.

ولكي يتم التخفيف من حدة هذا التصارع بين العالمين، كان لابد من إيجاد تأطير فكري لعملية النضال، يتشكل من خلاله وعي نخبوي بضرورة الإصلاح المجتمعي الشامل بالاعتماد على موروث إسلامي (سنة وقرآن) يتخلله تجديد/انفتاح على المستجدات، لأن الاندماج دون ضوابط، سيؤدي لا محالة إلى فقدان الهوية، وهو المسار المعروف بالخيار السلفي/الإصلاحي، الذي تطلب نهضة علمية، تلاقى فيها المثقفون الجدد ومشيخة العلماء، رغم ما قام به المستعمر من عرقلة لعملية الإصلاح والتجديد، بحيث حاول توجيه عملية الإصلاح لصالحه، متعمدا الخلط بين مفهومي “الحضارة” و”المدنية”، طامعا في التغيير الحضاري عوض الاهتمام بالتحديث والتمدن.

وبما أن “الأمة الإسلامية كانت وما زالت أفقر إلى الإصلاح”، فقد كان لابد من البحث عن وسائل التقدم والنهوض بأمور هذه الأمة، والتكيف بروح العصر، على أيدي من أخذتهم الغيرة الوطنية والدينية، من أجل بناء الحاضر والمستقبل، مع استشراف للماضي، موفقين بين ضوابط الشرع القطعية والمحفوظ من الرصيد الثقافي والتراثي القادر على مواجهة مقتضيات العصر ومستجدات الواقع، وفق منهج حضاري ومنظور توفيقي اجتماعي وتأويلي وعقلاني. إنهم رجال الحركة السلفية، الداعين إلى التحديث/التجديد والعلم والمعرفة والاجتهاد، والمحاربين للتغريب والبدع وكذا الغزو الأوروبي.

بزوغ نجم “سيدي كنون”.. محام الإسلام

يستشهد المؤلف بما جاء في مقالة الأستاذ محمد القاضي، “عبد الله كنون: الباحث الأدبي”، العدد 266، بمجلة دعوة الحق، سنة 1987، أن الدكتور تقي الدين الهلالي، قال في حق كنون أنه ” جمع بين خلال الشيوخ من سعة العلم والأدب وكمال العقل والمروءة، وبعد النظر وسداد الرأي والرزانة والحلم والوقار، إلى خلال الشباب من النشاط والحزم وفكاهة الحديث، وحسن المحاضرة، وطرافة النكتة مع صحة العقيدة والكرم والشهادة والوطنية الموزونة بميزان الشرع المحمدي المكتسبة من القرآن وسيرة الرسول عليه السلام..”. أما الرئيس (أدغارفور) فقد وصفه بالمحامي، عند الانتهاء من مداخلته في ندوة “الأزمات الروحية والفكرية” في أكاديمية المملكة، قائلا له: ” لقد كنت أعظم محام عن الإسلام”،. من يكون هذا الشيخ الذي تكفل بمهمة الدفاع عن حوزة الإسلام؟

إنه “العبقري” سيدي عبد الله كنون، كما أسماه الأستاذ نور الدين قربال، خلال محاضرة أشرف على تأطيرها حول موضوع: “معالم الفكر الإصلاحي عند العلامة عبد الله كنون”.

نحن في ضيافة شيخ مغربي أثنى عليه العديد من الكتاب والأدباء أمثال طه حسين وشكيب أرسلان، تلقى جزء من تعليمه على يد والده في سن مبكرة، إلى جانب عصاميته في تلقي العلم والتحصيل، ما مكنه من التفوق والنبوغ، إذ تمكن من بدء الكتابة ونظم الشعر قبل بلوغه سن العشرين. واستطاع أيضا الكتابة في كل المواضيع، بما فيها الفلك. لقد ألف ما يقارب الخمسين كتابا، وعلى رأسها “النبوغ المغربي في الأدب العربي” مع الكتابة والنشر في العديد من المنابر الإعلامية وعلى رأسها ” لسان الدين” التي استمر صدورها لمدة ثمان سنوات، و”الميثاق” والإحياء” باسم رابطة العلماء، وما تحمله أسماء هذه المجلات التي أصدرها أو ساهم في إخراجها للنور من دلالات سيميائية، كما جاء في محاضرة الرباط السالفة الذكر.

وفي إشارة من أبو بكر القادري إلى كتب كنون القيمة، استخلصها في قولته: “يرى أن الإسلام أهدى، وأن الإسلام رائد، وأنه لابد لنا من السير على درب الإسلام، وأنه علينا أن نعايش الشؤون الإسلامية، وأن تصدر هذه الشؤون الإسلامية من منطلقات إسلامية.. حتى يكون النبوغ المغربي“.

لقد اقترن اسم كنون كثيرا بمدينة طنجة التي استقر بها وأهله، خلال رحلتهم التي توقفت بهذه المدينة، أكثر من مدينة فاس مسقط رأسه، حتى أصبح بعض ساكنة المدينة يقولون: “طنجة هي عبد الله كنون.. وعبد الله كنون هو طنجة”. عرف بإتقانه، وبشكل عصامي، للغتين الفرنسية والإنجليزية. وكانت له عضوية العديد من مجمعات العلم والأدب والفكر واللغة، جعلته يترك بصمته في كل بقاع العالم العربي الإسلامي.

عرف المصلح كنون بإيمانه القوي بالعلم، فالتعليم في نظره ” محور استراتيجي في التغيير”، لهذا عمل جاهدا على بناء نفسه وتعليمها، حيث كان يلتهم، يوميا، كتابين من الحجم المتوسط.

ومن الميزات التي أثنى عليه من خلالها المؤلف كونه من أشد المدافعين عن الشرعية من أجل الأمن والاستقرار، واعتباره الوحدة تمثل “أولوية” قصوى، رغم أن المجتمع في نظره “ليس صوتا واحدا”. أن لا يترك فجوة إلا وبلغ فيها، ينطق بالحكمة والموعظة الحسنة، يكره الاصطدام ويبحث دائما عن القاسم المشترك عوض البحث عن الاختلاف، يدعو إلى التكتلات، وينبذ الانفراد في المشكلات، يوصي الحكام بالتعاون مع الدعاة على أسس من الثقة. وإذا اجتمعت كل هذه الصفات في شيخ سلفي، من غيرة وطنية، ودفاع عن الدين، واهتمام بالعلم، وانشغال بأوضاع البلاد ومحاولة النهوض بوضعه الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، فلن يكون إلا مصلحا دينيا، لأنه كما يقال “الصالح يبني نفسه، والمصلح يبني الأمة”. ترى ما هي فلسفة العلامة كنون الإصلاحية وأين تتجلى مظاهر فكره الإصلاحي؟

المنهج الإسلامي في فكر كنون الإصلاحي

حسب المؤلف، فإن كنون يؤمن أن التجديد سنة كونية واجتماعية وتاريخية، ولذلك فقد اعتمد منهجا معاصرا لا يتعارض مع الأصول، بصفته عالما مجددا، حسب تحليلات الأستاذ قربال. فهو من الدعاة الذين نادوا بضرورة إحداث التوازن بين المحلية والعالمية، باعتبارها من مستلزمات الداعية المسلم.

وهو ما دعمه ما جاء في كتاب الشيخ كنون “أشذاء وأنذاء” أن الإصلاح الذي لا يتوخى معنى الأصالة، يجب الحذر منه، لأنه يهدف إلى إضعاف مقومات الأمة ومحو شخصيتها وبالتالي استتباعها، وهو ما فرض عليه، كباقي المصلحين، الربط بين فكرة الإصلاح والمسوغ الديني، وهو ما ذهب إليه وزكاه الأستاذ قربال، عندما اعتبر أن الإصلاح منهج تغيير حضاري مؤصل بالكتاب والسنة، ولا يعارض الحداثة، كونها جزء من مشروعه ما لم تصطدم بقطعيات النص وتتحرر من الخلفيات الإيديولوجية التغريبية.

غالبا ما يأتي الإصلاح لتقويم اعوجاج أو محاربة فساد، أو تفادي/مقاومة استيلاب، وقد يكون إصلاحا متعدد الأبعاد، يجمع بين القومي والوطني والإنساني، وهو ما عبر عنه عبد القادر الإدريسي في كتابه “عبد الله كنون.. وموقعه في الفكر الإسلامي السياسي الحديث، حيث حصر أهداف العملية الإصلاحية في عزة الإسلام وشرف العروبة، وكرامة الإنسان، وحرية الوطن.

وهذا ما اتسم به الفكر الإصلاحي الكنوني، مع اعتماد أسلوب التدرج في ترتيب الأولويات، ومراعاة الزمان، واستحضار الجانب السيكولوجي أثناء الخطاب. إلا أن المنهج الإسلامي، يبقى عند كنون هو الضامن للعلم والعمل والإخلاص والصبر، كون أن الإسلام هو الإطار الضروري لتدبير قضايا المجتمع، والمحدد الأساسي للمشروع الإصلاحي، مع رفض لكل الأفكار التغريبية في العقيدة ومحاربة الثقافة غير المنسجمة مع منظومة الإسلام، والدعوة للتوفيق بين معطيات الدين وامتيازات الواقع، أي الربط بين الدين والعلم والفلسفة، وهي الشروط السليمة لكل عملية إصلاحية هادفة، حسب الفكر الكنوني.

هناك من يعتبر أن كنون رجل التوافقات؛ وذلك بجمعه بين الأصالة والمعاصرة، والتوفيق بين العلم والدين، وكذا النقد والشعر، والدراسة مع التحقيق، وذلك راجع لرؤيته الإصلاحية التي اتسمت بالشمولية والعلمية والموضوعية والموازنة، واعتمدت الاستفادة من الأصول والأخذ بإيجابيات الحاضر، مع الاستئناس بالتراث، بعيدا عن الاستئصال والماضوية، لأن السلفية، حسب هذه الرؤية، لم تكن يوما ماضوية.

تطوير التعليم واللغة.. عنصري إصلاح المجتمعات

معلوم أن المغرب عرف خلال فترة الحماية وما بعدها، تعليما استعماريا يحارب الفكرة الإسلامية والوطنية، ويعتمد في خطابه على الازدواجية، ويغيب الدين الإسلامي في المناهج الدراسية. وأمام هيمنة المستعمر ومحاولاته تغريب التعليم والمساهمة في انحطاطه، وانطلاقا من موقعه كعالم ومفكر إسلامي، يرى المؤلف أن عبد الله كنون سينادي بإسلامية المعرفة، أي إخضاعها لقراءتي العقل والوحي، بحيث ركز على ضرورة إحداث تعليم يساهم في نهضة الأمة المغربية الإسلامية، ويقضي على برامج التعليم الاستعمارية.

 وإيمانا منه، كذلك أن “إصلاح المجتمع مرتبط بإصلاح التعليم”، فقد عمل على إنشاء مدارس حرة، بمبادرات فردية، مقابل المدارس الحكومية التي أنشأها المستعمر، ودمج التعليم الإسلامي في المدارس الحكومية، والانكباب على تطوير التعليم الإسلامي، وتطعيمه بالمواد الحديثة دون المساس بجوهره، وإعادة الاعتبار لجامعة القرويين، وهو المشروع الذي قدمه كنون بين يدي الحسن الثاني، باسم رابطة العلماء، ليصدر بعدها المرسوم الملكي الذي أعاد الحياة لهذه الجامعة العريقة.

لا يخفى على أحد، الدور الحيوي الذي تلعبه اللغة في كل مجتمعات العالم، فهي وسيلة للتعبير والتواصل بين أفراد هذه المجتمعات، وهي أيضا رمزا من رموز هوية الأمم، لهذا اعتبرها كنون “وعاءً للفكر”، مبرزا مدى قدرة اللغة العربية على استيعاب المعارف العلمية المستجدة، دون الفصل بين الخطاب الديني والدنيوي، عكس الفكر التغريبي الذي يفرق بين الخطابين.

 وإيمانا منه بمساهمة اللغة في التغيير والنهوض بحال الأمة المغربية، اقترح على الحركة الوطنية تدريس المواد “القومية” باللغة العربية في مدارس البعثات الأجنبية، مع الدعوة إلى التعريب، وهو ما برز خلال اشتغاله بالأمانة العامة لرابطة العلماء، عندما حدد غايات التعليم في الإسلام والعروبة والمغربة.

إذا كان كنون يربط إصلاح المجتمع بإصلاح التعليم والاعتزاز باللغة، فإن هذا الإصلاح لا يكتمل إذا تم تهميش عنصري هذا المجتمع (المرأة والشباب)، لهذا طالب بحق “زهرة المجتمعات” في المشاركة الفعالة في قضايا المجتمع مع رفض تغييبها عن المحافل، واعتبر أن الشباب ركيزة كل مشروع تنموي، أن منهج الإصلاح الاجتماعي ينبني على الحوار بين كل القوى لتأسيس قناعات مشتركة، وتشكيل عقلية منسجمة مع منظومة الإسلام، من خلال توجيه إسلامي صحيح.

لا سياسة بدون دين

إن أكثر من تناول مقولة “أينما كانت المصلحة فثم شرع الله” هو الإمام الشاطبي في كتابه “الموافقات”، غير أن أهل العلم، كما جاء في المؤلَّف، موضوع القراءة، لا يعملون بها إلا فيما لم يحكم فيه بنص صريح وصحيح، كون أن الحكم الإسلامي، حسب كنون، يستمد من الكتاب والسنة، لضمان حقوق وواجبات “الرعايا”. وإذا كانت المنظومة الإسلامية تعتمد شعار ” لا سياسة بدون دين”، فإن الغرب وبعض مفكريه يفصلون بين الدين والسياسة، ومردهم في ذلك أن السياسة تعتمد على التعددية الديمقراطية المبنية على الحوار والنقاش، في حين أنه يصعب إثارة النقاش مع الإسلام لأنهم يخلطون بين الظني والقطعي.

 فإلى جانب انشغال العلامة كنون بالفكر والثقافة، واستنادا إلى فكرة ” المشروع السلفي الإصلاحي جزء لا يتجزأ”، يعتبر قربال أن اهتمام كنون بالمواضيع السياسية، محليا وعربيا، جعل هذه النوعية من الكتابات تكون معادية للاستعمار، ومناضلة من أجل التحرير، ومطالبة للربط بين الدين والسياسة، لأن كنون يستنكر الإبعاد الذي يتسبب في إفراغ الدولة من جوهر الإسلام. ويضيف أن الإسلام الذي يدعو إلى الوحدة في أرقى مستوياتها مع مراعاة الخصوصيات، في حين أن الغرب يرى أن هذه الوحدة القائمة على الخلافة من شأنها عرقلة اختراقه لبلاد المسلمين. وفي هذا، يستشهد المؤلف، بما ورد في كتاب الأستاذ عبد القادر الإدريسي “عبد الله كنون وموقفه في الفكر السياسي الحديث”، عندما أشار إلى أن قصد كنون يتجه إلى الدولة الإسلامية لا الخلافة الإسلامية.. لأن مفهوم الخلافة والدولة والأمة، عند كنون، ارتكز على الاجتهاد داخل منظومة الإسلام، مع التركيز على العدالة والإنصاف، جوهر الموضوع، وضرورة قيام تضامن إسلامي يحقق الوحدة الفكرية والثقافية والشعورية.

فإذا كان الشيخ كنون من المؤمنين بمبدأ الديمقراطية، فإنه يعترض على ممارستها وطريقة تصريفها، منددا بالمؤسسات والقوى التي تؤثر القانون على حساب الشريعة، استنادا إلى قاعدة ” لا حكم إلا لله”، مع إدراج لبعض الفروقات بين الديمقراطية الغربية وبين الشورى أو الديمقراطيات في السياق الإسلامي، حسب ما استخلصته رحلة قربال الاستطلاعية/البحثية لهذه الشخصية الإسلامية.

ويضيف المؤلف، أن كنون يقر بمجلس النواب كنوع من الممارسات الديمقراطية، رغم تسجيله لبعض التحفظات على تطبيق الديمقراطية، بسبب ما يعانيه العلماء من إقصاء لهم من المشاركة السياسية، وكذا إغفال التعاليم الإسلامية أثناء المصادقة على الإجراءات داخل المجلس، آنذاك، نظرا لارتباط الأمة بالنظام الدولي ومواثيقه ولو كان فيها مخالفة للمسوغ التشريعي الإسلامي، وهو الوضع الذي دفع بكنون إلى المطالبة بتشكيل لجنة خاصة بالشؤون الإسلامية، تسهر على تطبيق مبدأ الإسلام على جميع تشريعات المجلس، وهو ما أبان عنه دستور 1962، عندما نص على المغربة والعروبة والإسلام، بعيدا عن دستور الدول اللادينية.

رابطة لجمع شتات علماء المغرب وحفظ التراث الإسلامي

مادام العلماء هم أساس وعماد الأمة الإسلامية، والمساهمين في عملية التحرير الوطني، فإن رسالتهم تتلخص في الدفاع عن التراث الإسلامي واللغة العربية، ومواجهة التحديات الداخلية والخارجية، ومقاومة المبادئ الهدامة لرسالة الإنسانية الخالدة. ولذلك فقد ارتكز مشروع كنون الدعوي على الوحدة ولم شمل العلماء، لأن الخلاف وعدم التفاهم يجعلهم ينشغلون بتوافه الأمور عوض الانكباب على دراسة الحقائق.

ولجمع شتات العلماء والجمعيات الدينية، وتفادي المجهودات المتكررة، يؤكد المؤلف أن كنون ساهم في إنشاء رابطة علماء المغرب، باعتباره عالما دعويا، سبق وأن أسس المدرسة الإسلامية الحرة، مساهمة منه في انتشار أفكار الحركة السلفية والإصلاح الديني والثقافي، وقد اختير أمينا عاما للرابطة بالإجماع، وتم تجديد الثقة فيه ما بين 1961-1989. وقد تأسست هذه الرابطة للتعريف بحقائق الإسلام ودعوته، والاهتمام بالتعليم الإسلامي، والمحافظة على الطبيعة الإسلامية للبلاد، ومقاومة الأفكار التغريبية المستوردة وتوعية الشباب وحمايتهم من الدعاوى المنحرفة.

عرف التاريخ الإسلامي العديد من الصحوات، كانت الدعوة إلى الإسلام هي قاعدتها الأساسية، فكل صحوة توحي باليقظة، لأن كل فساد يحتاج إلى إصلاح، حتى تقام الحجة على الناس، وتعاد المشروعية للفعل الإسلامي. ولخلق/ تشكيل عقل مسلم متناغم مع طروحات الإسلام العظيمة، والتعايش والتفاعل مع الواقع، عمل العلامة كنون، على تحديد منهج دعوي، يعتمد الصراط المستقيم، ويجمع بين التنويه والتصويب والتقويم على مستوى التنظير أو الممارسة عبر مجموعة من الإجراءات (كعقد المؤتمرات الشعبية وتنظيم الحركة الإسلامية).

 إضافة إلى اعتماد منهجه على المصالحة بين الدعاة والولاة والسعي إلى خلق التوافق بينهم، كنوع من المصالحة بين الجبهة الدينية والسياسية، وتأصيل العمل السياسي الحزبي وتأطيره بالمنظومة الإسلامية بعيدا عن التغريب والبدع، وذلك راجع لإيمانه بالصحوة وبضرورة تقويم واقعها. ولم يفت علامتنا التنويه بمجهودات الصحوة الإسلامية لدى بعض الشعوب والدول الإسلامية، والتضامن مع بعض تياراتها، واستنكاره لمواقف البعض منها.

التجديد والأصالة

امتاز فكر كنون الإصلاحي بالنضال الفكري/العلمي، حيث اعتبر أن اللغة العربية جزء لا يتجزأ من مشروع التغيير، معتزا بكونها مظهر أصالة كل شعب، وأداة لمواجهة الاستلاب الفكري، وهو ما اعتمده عند تأليفه لكتاب “النبوغ المغربي في الأدب العربي”، حيث دمج الدين في الأدب، معتبراً أن الدين، يؤطر الإبداع سلوكيا. وإضافة إلى منع هذا الكتاب من التداول بفرنسا، وجهت إليه العديد من الانتقادات، كونه أدرج فيه نصوصا دينية لا تدخل في المفهوم الصحيح للأدب، شأنه في ذلك شأن كتاب “أدب الفقهاء” حيث مزج بين الأدب واللغة والفقه، لأنه كان دائما، وكما يراه الأستاذ قربال، يهدف إلى “المتعة” ويبحث عن “أريحة الأدب”، مع الحرص على مراعاة سيكولوجية المخاطب في هذه النوعية من الكتابات.

اعتمد مشروع كنون الإصلاحي، دينيا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا، الأصول، واستأنس بالتراث مع الانفتاح على المستجدات، عن طريق إعادة عرض علوم الإسلام بأسلوب يتماشى مع العصر، والتنديد بكل ما هو مخالف للشريعة الإسلامية، جوهر مشروعه النهضوي/الحضاري.

فإدراك كنون لضرورة الجمع بين الوعي الدولي وترتيب الأولويات بالنسبة للعلماء، جعله يحرص على الوحدة من خلال إقرار الهدنة الداخلية وتجنب الحروب الأهلية، معتبرا أن التجديد ضروري لضمان بقاء الحضارة الإسلامية وازدهارها، عكس التغيير الجذري، لأن التجديد يطال الفروع ويحافظ على الأصل وذلك بإرجاع النصوص إلى أصلها، ويحارب البدع ويدحض التأويلات الفاسدة.

كان عبد الله كنون رافضا لفكرة إخضاع النزعة التجديدية الإسلامية إلى النزعة التجديدية الغربية، لأنه، وكما جاء في كتاب الدكتور يوسف الكتاني “تجديد الفكر الإسلامي في المغرب”، يميز بين ثلاثة مفاهيم: الإصلاح والاجتهاد والتجديد، علما أن هذا العنصر الأخير مبني على رؤية “سلفية عميقة”، ومن أجله اقتحم كنون جميع الواجهات الأدبية والشرعية والإسلامية والسياسية، مبدأه في ذلك هو عدم التقليد، لأن التكرار يقضي على التجديد.

الوحدة الوطنية والوعي بضرورة التغيير والنهوض

لكي نلامس معالم شخصية كنون ومجالات منهجه الإصلاحي، مكننا مؤلِّف “مظاهر الفكر الإصلاحي عند عبد الله كنون” من الاطلاع على بعض تجليات ممارساته، والتي تجلت في احترام كتاباته للتخصص، وجمعه بين القول والفعل كسلوك، ذم الأنانية، اعتماد الحوار والنقاش والدفع بالتي هي أحسن، الارتكان إلى البساطة، الدفاع عن الإسلام، ضبط المصطلحات، الموضوعية والحكمة في التعامل مع كل القضايا. وكذا اهتمامه بالتفسير، الذي جاء ليواجه افتقار المعلمين إلى فن العرض والتلقين، بغية إعادة العلاقة بين الإنسان وكتاب الله، وهو التفسير الذي اقتصر على المعنى الحقيقي للقرآن. إضافة إلى كتابته للتاريخ، والتي تأسست على قواعد النظر والمقارنة والبحث العلمي الصحيح، بعيدا عن ثنائية الذاتي والموضوعي، وتداخل الإيديولوجي والسياسي والعلمي.

إن واقع الأمة وما تعانيه من حروب حضارية، وهيمنة اقتصادية وسياسية، أفرز لنا شعبا ممزقا يعاني الانفصام نتيجة تصدع هويته، لأن هذا الواقع وضع الأمة أمام خيارين لا ثالث لهما، إما تقليد واستلاب أو استبداد وإخضاع للرقاب. وللخروج من هذا الوضع، دعا كنون إلى “الوعي” باعتباره ركيزة كل عملية تغييرية وإصلاحية، نبذ العنف بجميع أشكاله، خاصة الفكري، مناصرة المستضعفين من أقطار العالم، التعريف بالثقافة المغربية المتمسكة بالعروبة، توحيد العالم الإسلامي، الاشتغال على “الوحدوية” القائمة على الائتلاف بين القاعدة والقيادة، الوحدة الوطنية، محاربة الفرنكوفونية كاستعمار جديد، تفكيرا وسلوكا، التركيز والاشتغال على تحديد المقصود من الوطنية في علاقتها بالقومية، إذ أن الوطنية تعتمد الإسلام في تحرير البلاد من المستعمر، في حين أن القومية تحارب الخلافة بالفصل بين الدين والدولة.

إضافة إلى كل التصنيفات السابقة، يعد كنون من “دعاة الإسلامية”، وهو ما عبر عنه يوسف الكتاني من كون أن أغلب مقالات كنون الإصلاحية تركز على عروبة وإسلام المغاربة، لأن الإصلاح لا يخرج عن هذه الثنائية، وهو “التلاحم” الذي ميز فكره الإصلاحي، ذلك أن المغرب لم يعرف تبعية للخلافة العثمانية، وكذا خلوه من الأقليات باستثناء اليهود.

وختاما، نخلص إلى أن المؤلف ركز بشكل أكبر على الجانب الإصلاحي/التجديدي للفكر الكنوني وذلك بعرضه لجميع تجليات هذا الفكر، الاجتماعية والسياسية والدعوية، حيث ناضل صاحبه من أجل تجديد يتماشى مع روح العصر دون التفريط في الأصول/المرجعية الإسلامية، وبرؤية إنسانية شاملة، بعيدة كل البعد عن سياسة تغريبية تراهن على التحديث ولو أدى إلى تخريب حضارة أمة.

ذة فاطمة الزهراء الحاتمي

باحثة مساعدة بالوحدة البحثية للإحياء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق