مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةمفاهيم

الشعرُ العَرَبيُّ ومَكارمُ الأخلاق (حلقة 1)

أنشدَ الشاعرُ العربي القديمُ أبياتاً كثيرةً في مَكارم الأخلاق، فأضافَ إلى رصيدِ الإنسانيّةِ قيماً ومبادئَ ساميةً حفظها الشعرُ ودوَّنها في ديوان العرب، ومن المصادر الأدبية التي عقَدَت باباً لمَكارم الأخلاق في الشعر العَربي القَديم: كتابُ المَعاني الكَبير لابن قُتيبةَ الدّينوريّ (ت.276هـ)  (1).

قال في آخر باب من أبواب الكتاب:  «الأبيات في مكارم الأخلاق»

قال لبيدُ بنُ ربيعَةَ العامريُّ:

فَاقطَعْ لُبانَةَ مَن تَعَرَّضَ وَصلُهُ   ///    وَلَخَيرُ واصِلِ خُلَّةٍ صَرّامُها

وَاحْبُ المُجامِلَ بِالجَزيلِ وَصَرمُهُ   ///    باقٍ إِذا ضَلَعَت وَزاغَ قِوامُها

واللُّبانةُ الحاجةُ، ومَن تعرَّضَ وصلُه أي لَم يَستقمْ لَكَ، أي اقطَعْ حاجةَ مَن لم يَستقمْ وصلُه وعاملْه بنقيضِ قَصدِه، وذلكَ بوَصلِه، فوَصلُ القاطعِ خيرُ خلُقٍ يُعامَلُ به القاطعُ الصَّرّامُ، ومَعنى البيت: «خَيرُ مَن تَصِلُه مَن يَقْطَعُكَ إذا استوْجَبْتَ ذاكَ منه».

يُريدُ اقْطَعْ لُبانَتَك أي حاجتَكَ منه. ومثلُ قوله: تعَرَّضَ وصلُه – قولُه:

أَو رَجعُ واشِمَةٍ أُسِفَّ نُؤورُها    ///   كِفَفاً تَعَرَّضَ فَوقَهُنَّ وِشامُها

وذلك حين يُدارُ الوَشمُ، إذا ضلعت يريد الخلَّة أي أعوجت، وزاغ قوامُها استقامَتُها، يقولُ: مَن جامَلَكَ فأجزلْ مُكافَأتَه، وصَرْمُه باقٍ عندَك أي تَسْتَبْقيه ولا تَعْجَلْ به أيْ مُعَد عندك إذا مالَ بجملته عنك وعَدَلَ، أي فَحينئذٍ تَصرمُه.

وقال آخر:

الناسُ إخوانٌ وشَتَّى في الشِّيَم   ///    وكلُّهم يجمعُهم بَيْتُ الأدَمْ

بيت الأدَمِ قُبّة الملك يجتمعُ فيها كُلُّ ضَرب يأكلونَ فيها الطعامَ، يقولُ: هم سواءٌ في أنهم بَشرٌ، ثم ضَرَبَ بيتَ الأدمِ مَثلاً، وذلكَ يكونُ فيه الجيدُ والرديءُ والصغيرُ والكبيرُ وكلُّ ضربٍ، فجعَلَ الأدمَ مَثلاً للنّاس في اختلافِ طَبائعِهِم. ويُقال بيتُ الأدم بيتُ الإسكافِ فيه مِن كُلّ جِلدٍ رُقعةٌ. وقالَ آخَرُ:

وإن قِرابَ البطنِ يَكفيكَ مَلأُه /// ويَكفيكَ سَوْءاتِ الأمورِ اجْتنابُها

قِرابهُ أي مُقارَبَتُه أي دونَ مَلئِه، ويَكفيكَ سَوآتِ الأمور أن تَجتَنِبَها. وقالَ جَريرٌ:

 فإني لأسْتَحي أخي أنْ أرى لأحدٍ عَلَيّ نعمةً أو أثراً حسناً لا يَرَى هُوَ لي عَليه مثلَه. وقالَ يزيدُ بنُ خذّاق العَبدي (مِن شَواهدِ المُفضّليّات):

وَلَقَد أَضاءَ لَكَ الطَريقُ وَأَنهَجَت    ///   سُبُلُ المَسالِكِ وَالهُدى يُعدي

أي إبصارُك الطريقَ يُعْديكَ على الهُدى على طريقِك. ومثلُه: أعْداني السُّلطانُ – أي أعانَني. وقالَ آخرُ:

تَوكَّلْ وحَمِّلْ أمرَك اللهَ إنّ ما /// تُرادُ به يأتيكَ أنتَ له مُخْلي

أي في خَلاءٍ منكَ أنتَ له مُصْحِرٌ في صحراء. وقال أبو العيال (في أشعار هُذْيل):

إن البلاءَ لدى المَقاوِسِ مُخرجٌ   /// ما كان مِن غَيبٍ ورَجمِ ظُنونِ

المَقاوس جمعُ مِقْوَس وهو الجَبلُ الذي يمدُّ على صُدور الخيل عند مَدْفَع الغايَةِ؛ أيْ: فَما كانَ عندَ الفَرَس فسَيَظهَرُ حينئذٍ، وإنما هذا مَثَلٌ، أي التَّجربةُ تُخرجُ ما عندَ الإنسان مِنْ خير وشَرّ.

فتلك أبياتٌ في قيم خُلُقية عالية، عَرَفَها الشعراءُ وتَغنَّوا بها ونَقَلوها عن أقوامهم، وجاء الإسلامُ ليُتممَ مكارمَ الأخلاق ويُثبِّتَها، فمَن قَطَعَك فصِلْه ولا تُعاملْه بمثلِ ما عاملَك به، بل اقطَعْ قصدَه الفاسدَ واقطَعْ حاجةَ مَن لم يَستقمْ وصلُه وعاملْه بنقيضِ قَصدِه، وذلكَ بوَصلِه، فوَصلُ القاطعِ خيرُ خلُقٍ يُعامَلُ به القاطعُ الصَّرّامُ.

أمّا مَن جامَلَكَ فأجزلْ مُكافَأتَه أو ادْعُ لَه، وصَرْمُه باقٍ عندَك أي تَسْتَبْقيه ولا تَعْجَلْ به ولا تُقاطعْه وهو إذا مالَ بجُملته عنك وعَدَلَ فلا تُبادلْه بالذي فعلَ، تَكنْ أجودَ الناسِ وأكرمَهُم وأحلَمَهُم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- كتاب المَعاني الكبير في أبيات المَعاني، لأبي محمد عبد الله بم مُسلمبن قُتيبةَ الدّينوريّ، دار الكُتب العلمية، بيروت، ط.1، 1405 – 1984 ، ج:3، ص: 1252

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق