مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراثشذور

السلطان سيدي محمد بن عبد الله: ثقافته، تآليفه، عقيدته

صحيفة : رسالة المغرب في العلم والأدب والاجتماع

العدد السابع 10 صفر 1362 / 15 فبراير 1943  السنة الأولى

السلطان سيدي محمد بن عبد الله

ثقافته     تآليفه    عقيدته

 

«في العلم لا يقعقع له بسنان ولا يجارى في ذلك بعنان، فصيحا بليغا أديبا عالما بالفقه والحلال والحرام وفصل الأحكام ، بحر لا يجارى وفي التحقيق والمعارف لا يمارى قد جمع من دراسة العلم ما تقف العلماء دونه وتود نجوم الأفق أن تكونه، فكملت بذلك منة الله على العباد وأحيا به الله الدين في كل الأرض والبلاد. له تصانيف تقرأ بالمشرق والمغرب الإمام الموهوب لهذه الأمة على رأس المائة مجددا لها دينها».

هكذا يحدثنا عنه من ترجموا له، وبهذه الألفاظ التي لا ينظر لترصيفها وتعديدها يصفونه، فلنرجع لما يحدثنا به عن نفسه في تكوين علمه واتجاه ثقافته وعقيدته:

(إن من أعظم نعم الله علي وأجل مننه لدي أن وفقني للإشتغال بالعلم والبحث عنه والمذاكرة لأهله، وأني بعد أن خضت علم اللغة برهة وحفظت من كلام العرب وأشعارهم جملة صالحة معينة على فهم السنة والقرآن، اشتغلت بعلم الحديث فاعتكفت على قراءة صحيح الإمام أبي الحسن مسلم بن الحجاج النيسابوري ومراجعة صحيح الإمام البخاري وموطأ الامام مالك، إلى أن ورد علي مسند الامام أبي حنيفة النعمان بن ثابت فقرأته حتى ختمته والحمد لله)

ففي أي وقت بدأ اشتغاله بعلم السنة؟ ومن هم رجال مذاكرته؟ وماهو موضوع تلك المذاكرات؟ وما هي تآليفه؟

المصادر التي لدينا لا تثبت لنا بالضبط وقت اشتغاله بعلم السنة، فالزياني وغيره ممن عاصره وصاحب الاستقصاء كلهم متفقون على أنه بعد أن نال الخلافة وتولى أمر المسلمين ترك الاشتغال بالأدب والتاريخ وعكف على دراسة السنة وحل مشكلها والبحث عن غريبها وجلبها من أماكنها.

وإذا كان ينظر إلى الأدب والتاريخ كوسيلة لا غاية أو كالهية من الهيات الحياة الراقية. وكان إقباله عليه ليس أساسيا بل كآلة تعين على ما هو أهم من المقاصد، فليس ببعيد أن يكون توليه الملك وقيامه بشؤون المسلمين -وهو حد فاصل بين مرحلتين خطيرتين في حياته العملية وانتقال من طور التحرر إلى طور المسؤوليات الخطيرة والتبعات العظيمة والتقاليد والتكاليف المتنوعة- باعثا مهما على تغيير اتجاهه وعدوله عن الاشتغال بالوسائل إلى الغايات، أو فرصة سانحة ووقتا مناسبا لتوجه نفسه الوجهة التي كان يهيء نفسه لها والتي تناسب مقامه ومركزه مما يجعله جديرا بما عهد به إليه، ومما يسهل عليه مأموريته العظمى من جهة ويكسبه رفعة عند الناس ويزيدهم ثقة به من جهة أخرى، ولا سبيل لذلك في شعب متدين إلا ما أتبعه من إقبال على السنة والقرآن، أساسي الدين ومصدري الخير والنور والهدى عند المسلمين، وفعلا نجح وأصبح الإمام الموهوب لهذه الأمة على رأس المائة يجدد لها دينها، وأني له بذلك لو لم يسلك هذا السبيل ويوجه نفسه هذا الاتجاه، وظل مع أبي الفرج يتنقل من حكاية إلى قصة. ومن طرفة إلى نادرة ومن قطعة إلى قصيدة أما رجال مذاكرته فهم كانوا قسمين، قسما للتأليف والدراسة والخوض فيما يملي عليهم ويأمر بتدوينه طبق ما يريد، وقد كانت لهم أوقات منظمة منضبطة لا تنخرم، حذا فيها حذو المنصور السعدي في أوقاته المرسومة وهؤلاء كما يقول الزياني في الروضة السليمانية وصاحب الاستقصاء هم: العلامة محمد ابن الامام عبد الله الغربي الرباطي والفقيه العلامة محمد بن المير السلاوي والفقيه الدراكة محمد الكامل الرشيدي والفقيه عبد الرحمان بوخريص، ويزيد عليهم مؤرخ الدولة العلوية مولاي عبد الرحمن بن زيدان: أبا محمد التهامي بن عمرو الرباطي وأبا زيد عبد الرحمن المنجرة وأبا عبد الله محمد بن عبد الصادق وأبا الحسن علي بن أويس الفيلالي وأبا محمد عبد السلام بن بوعز حركات السلاوي.

وقسما لمجرد المذاكرة والمفاهمة يقول الزياني في المصدر نفسه بعد صلاة الجمعة يجلس في مقصورة الجامع مع فقهاء مراكش ومن يحضر عنده من علماء المغرب الوافدين عليه للمذاكرة في الحديث الشريف وتفهمه، ومن هؤلاء المولى عبد الله المنجرة والفقيه الأديب أبو عبد الله محمد بن الشاهد نقلهما من فاس وأبو العباس أحمد بن عثمان نقله من مكناس ومحمد ابن عبد الرحمن الشريف نقله من تدلا وأبو الفضل الطاهر السلوي والشيخ الطاهر بن عبد السلام.

أما موضوع المذاكرات ومدى ما كانت تتناوله من أبحاث، والمذاكرات مرآت العقل ودليل العلم، فالزياني يحددها كما سبق في الحديث وتفهمه وصاحب الجيش العرمرم يحدثنا عن شيخه العلامة الحافظ أبي عبد الله محمد بن عامر التادلي وهو من جلساء المولى محمد أن من عادته مع كتابه وجلسائه أن يمتحنهم بغرائب العلوم، ويحدثنا عن ذلك أيضا ولده أبو عبد الله في كتابه اقتطاف الأزهار من حدائق الأفكار بقوله: وله مع الفقهاء مذاكرات ومحادثات في سائر الأيام وممر الدهور والأعوام فيلقي عليهم من المسائل المشكلات في الحديث والسير والأخبار وضروب من الفنون العربية ونكت من المقطوعات الأدبية فلا يهتدون إليها إلا بعد الاطلاع وسواء في ذلك ذو العارضة أو قصير الباع) .

ولعله يمكننا من كل ذلك مع ما نعلمه عنه من آرائه في التعليم ومواده أن نحدد مجرى هذه المذاكرات، بأنه لا يخرج عن السنة والقرآن ومناقشة النصوص وضبط الغريب وبيان المشكل من الآثار الدينية والأدبية وتصحيح حديث أو تضعيفه، وإثبات نقل أو توهينه، وجمع ما افترق وإلحاق مالم يلحق، مع مطارحات أدبية وأبحاث عربية مما يثبت لنا أن صلته بالأدب والتاريخ وما إليهما لم تنقطع.

فهي لا تتناول الكلام والمنطق وعلوم الفلاسفة وكتب غلات الصوفية وكتب القصص (لأنه لا يتعاطى ذلك إلا الذين لا يدرون أنهم لا يدرون) [من كلام  له في المرسوم المتعلق بالتعليم] ولا تتناول علم الأصول لأنه (أمر قد فرغ منه ودواوين الفقهاء قد دونت ولم يبق اجتهاد والطلبة الموجودون في هذا الوقت كل من أراد منهم أن يتعاطى علم الأصول فإني أقول فيه أراد أن يتزبب قبل أن يتحصرم) [من كلام  له في المرسوم المتعلق بالتعليم].

ولا تتناول الفقه على طريقة المتأخرين أصحاب الحواشي والمختصرات التي يعتبر العكوف عليها بدلا عن كتب الأقدمين (كمن هرق الماء واتبع السراب)[من كلام  له في مرسوم له يتعلق بالافتاء] وتآليفه التي هي ثمرة هذه المجالس ونتيجة هذه المجامع مما يدلنا على هذا التحديد.

تآليفه:

 

فأول تآليفه الفتوحات الصغرى الذي بعثه على تآليفه الحديث الوارد عن الرسول (ص) فيمن حفظ على أمته أربعين حديثا، معتمدا في ذلك مسند الإمام أبي حنيفة والبخاري ومسلم ومسند الإمام مالك.

ولما ورد عليه مسند الشافعي وأحمد واعتكف عليهما، ألف الفتوحات الكبرى أو الفتوحات الإلهية في أحاديث خير البرية، جمع فيه ما اتفق عليه الأئمة الستة أبو حنيفة والشافعي وأحمد ومالك والبخاري ومسلم، ثم ما اتفق عليه خمسة ثم ما اتفق عليه أربعة ثم ما اتفق عليه ثلاثة ثم ما اتفق عليه اثنان ثم ما انفرد به كل واحد من الأربعة ثم ثنائيات البخاري 1516 وفرغ من تأليفه سنة 1198.

ثم بدا له أن يجمع أربعمائة حديث خاصة بالأئمة الأربعة مائة لكل إمام فجمع ذلك وسماه الجامع الصحيح الأسانيد.

ومن بعد ظهر له أن يجمع هذه المصنفات الثلاث الفتوحات الصغرى، والفتوحات الكبرى والجامع الصحيح الأسانيد ويرتبها على أبواب الفقه ويضيف إليها من أحاديث الأحكام ما يكمل به الغرض والمرام ففعل وسمي تأليفه هذا الجامع الصحيح الأسانيد المستخرج من ستة مسانيد.

ومن تآليفه شرح على مختصر خليل اختصره من الخطاب ووجهه إلى علماء مصر ليطلعوا عليه، وكتاب مبسوط في الفقه أعانه عليه علماء مجلسه، وكتاب مبسوط في الفقه أعانه عليه علماء مجلسه، ومواهب المنان بما يتأكد للصبيان.

هذه هي سلسلة تآليفه وهي على العموم لا تخرج عن نزعته التقليدية ولا تتعدى دائرة النقل والرواية والجمع والترتيب والإختصار ولكن مع هذا يجب أن نعترف أنه رغم هذه النزعة التقليدية والثقافة النقلية ورغم رأيه في الاجتهاد، قد نزع إلى نوع من الاستقلال الفكري مهم وطرق بابا من الاجتهاد في المذاهب يعد بالنسبة لعصره شيء خطير.

يدلنا على ذلك ما نراه له من الاختيارات المذهبية وماله من الآراء التي شذ فيها عما لعلماء الفقه، رعاية منه للاصلاح وتلافي الشر وحسم الخصومات؛ من ذلك، منعه للمرأة من توكيل زوجها لأخذ حقوقها إلا إذا كان ابن عمها وأحبت برضاها أن توكله، وهو وإن كان ربما يأتيها من القريب المسموح لها بتوكيله من الضرر ما هو أعظم خطرا مما يأتيها من زوجها البعيد عنها، ولكن هناك مصلحة تأخذ حظا كبيرا من اهتمام المولى محمد ربما تبقى محفوظة عند عدم التوكيل وهي أسمى من المادة تلك هي سعادة الزوجين وهناء البيت، فكثيرا ما كانت المادة وعوارضها بين الزوجين هي مصدر شقاء العائلة وسبب تصدع بنيان الأسرة.

وأمره بنفي المفلس وهو بالنسبة لمن كان إفلاسه حقيقيا ناشئا عن أسباب معقولة لا بد له فيها أن يكون حكما قاسيا، ولكن بالنسبة للمدلسين الذين تنحط ضمائرهم فيعتبرون ذلك من وسائل الحصول على الثروة والاستيلاء على أموال الناس يعتبر حكما جديرا بالتقدير وخصوصا عندما تنحط أخلاق الأمة ويضعف الوازع الديني في نفوس رجالها ومن جهة أخرى كما يعلل ذلك المنشور نفسه ربما قساوة هذا الحكم لا يتحملها من لم يستطع القضاء كشف حقيقة أمره فيظهر ما عنده ويتوصل كل ذي حق بحقه.

وكذلك أمره بتقويم الرهن الذي يغاب عليه بمحضر أولى المعرفة وإمام القاضي وتسجيل ذلك بالعدول حتى لا يحدث نزاع بين المتراهنين بعد الفوات، فهو مما تظهر فائدته ومما يقطع الادعاءات الباطلة بعد حصول التلف، وقد تناول الفقهاء مشكلة التقويم هذه ولكن بعد حدوث التلف ووجود النزاع.

وكتابه الجامع الصحيح المرتب على أبواب الفقه وأمره في برنامجه العلمي بالرجوع لمثل المدونة والبيان والتحصيل ومقدمات ابن رشد كل ذلك مما يعتبر بحق خطوة في سبيل الاستقلال الفكري ورغبة منه في رفع مستوى التقليد، ولو وقفنا على تأليفه المبسوط في الفقه أو على ما كان يروج في مجالس مذاكراته بالتفصيل لربما ظهرت لنا شخصيته بصورة أوضح ولاستطعنا أن نعرف مدى نزعته التقليدية والاستقلالية، وإلى أي حد كان تأثير هذه المجالس في نفسه وتأثيره فيها.

عقيدته:

افتتح كتابه الفتوحات الإلهية في أحاديث خير البرية الذي ألفه سنة 1198 بقوله (قال محمد بن عبد الله المالكي مذهبا الحنبلي اعتقادا) ولعل المولى محمد قد أدرك ما في هذا الافتتاح من الغرابة وما لهذا التصريح بمذهبه الاعتقادي من الأثر فحاول في آخر كتابه أن يعلل ذلك فعقد فصلين حسبما نقل لنا في إتحاف أعلام الناس، علل في الفصل الأول سر عدوله عن مذهب الأشعرية وهو المذهب الحنابلة السلفيين بما ورد عن علماء السلف من الحض على الابتعاد عن علم الكلام، وما كانوا يرونه من أن الخوض فيه من البدع المحدثة في الدين، وبأن طريق الحنابلة في الاعتقاد سهلة المرام منزهة عن التخيلات والأوهام موافقة لاعتقاد الأئمة كما سبق مع السلف الصالح من الأنام.

وإذا أضفنا إلى هذين السببين عدم اشتغاله بعلم المنطق والفلسفة وصلتهما بمذهب الأشعرية مما هو معروف، وثقافته الحديثية يظهر لنا مقدار استعداده لمذهب الحنابلة، أما في الفصل الثاني الذي أراد أن يشرح لنا فيه سر تمذهبه المالكي وهو مما لا يبعث على الاستغراب، فأهم ما أفادنا فيه أنه مالكي ولكن لا على ما يراه متصعبوا المذاهب من المقلدين من أفضلية مذهب على آخر، بل اعتقاده في الأئمة الأربعة «أنهم على هدى وكلهم على التساوي لا يرجح أحدهم على الآخر وكل من تمسك بمذهب من مذاهبهم فقد تمسك بالعروة الوثقى فكلهم والحمد لله آخذون بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم».

وبعد ففي سنة 1171 كانت بيعة المولى محمد بن عبد الله وبعد بيعته كان تغيير وجهته الثقافية من الاتجاه الأدبي الصرف إلى الاتجاه الديني، وكان إقباله المتزايد على الحديث وجلب مصادره الصحيحة ودراسته الدراسة المستفيضة؛ وفي سنة 1198 ألف تآليفه الفتوحات الإلهية الذي أعلن فيه مذهبه السلفي، فهل هناك صلة بين نشأة السلفية بالمغرب وظهور بعض آثارها في شخص السلطان المولى محمد والدور الأول النشيط للدعوة السلفية بالمشرق الذي يبتديء بتكوين حكومة الدرعية وعلى رأسها الأمير محمد بن سعود سنة 1159 تقريبا وينتهي باحتلال المصريين لها سنة 1232، هذا ما ليس لدينا لالآن ما يوضحه.

الهاشمي الفيلالي            

انتقاء: ذة. نادية الصغير            

Science

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق