وحدة الإحياءقراءة في كتابشذور

السرد بقلم عرفاني .. تطريرات في رواية بلاد صاد

 تحاول هذه القراءة المضيئة أن ترتاد بنا العوالم الجمالية والرمزية  لهذا المتن الروائي العرفاني الذي يسعى بلغة جمالية بهية تقريب جمهور قراء “الإحياء” من عوالم حياة الصوفي الكبير أبي الحسن الششتري وسياحاته الروحية.. وهي رواية تمتح عرفانيتها من طبيعة مواضيعها وأزمنتها وفضاءاتها.. مثلما تمتح تلك العرفانية من ماء الحياة القرآنية؛ وتعيينا من الحروف المقطعة في فواتح السور والتي تحتفي بطواسينها وأسرارها ورمزيتها الروحية الباذخة..

     ﴿ص. وَالقُرْءانِ ذِي الذِّكْرِ﴾ (ص: 1).                 

 واجعلْ بصادٍّ وبقافِّ وبنونْ *** ألفَ حِجابٍ من ورائها يَكُونْ[1]

“بلاد صاد” هي ثالث عمل سردي للأستاذ عبد الإله بنعرفة[2] بعد رواية “جبل قاف[3]” التي تمحورت حول حياة ومذاقات ومعارف جبل القرآن الشيخ الأكبر محي الدين بن العربي الحاتمي، و”بحر نون[4]” وهي رواية رمزية تسرد مغامرات ومسارات رحلة البحث اليونسية في بحر الحقائق عن الجزيرة الأطلسية، ومناط هذه الرواية حول حقيقة الإنسان الكامل. أما العمل السردي الثالث موضوعُ لمتنا واحتفائنا[5] فهو”بلاد صاد”؛ ويتعلق الأمر برواية تتناول بالسرد والتأمل والتخييل سيرة وحياة وأحوال ومواجيد أمير المتجردين الصوفي العارف الشاعر أبي الحسن الششتري (668ﻫ/1269م).

لقد اختار الأستاذ بنعرفة لرواياته أن تنتظم في مشروع سردي كان يوازي فيه بين الإبداع والتنظير، بين الكتابة وتوصيفها؛ بحيث يشركنا في ورشته الإبداعية ويتخذ من مناسبة كل إصدار سردي لحظة مراجعة للممارسة السردية السائرة والسائدة. لذلك نجده كلما أضاف عملا جديدا إلا ومهد له بإضاءات وتوضيحات من خلالها يرسم معالم هذا “الأدب الجديد” وملامحه التي يسعى إلى إرسائها وتأصيلها. وقد حدد بنعرفة لهذا الأدب دعامات ثلاث يرتكز عليها:

أ. الأدب العالم الذي قوامه اللغة الرفيعة البعيدة عن الإسفاف والتلهيج، مع توظيف العلوم والمعارف المختلفة طلبا للحقيقة في تعاليها وتماهيها مع طالبها؛

ب. الاستفادة من التراث الروحي الإنساني ووصله بالدين القيم الخاتم المهيمن؛

ج. توظيف “الخيال الخلاق” باعتباره أوسع حضرة للإدراك وأطلقها في الإنسان؛ ذلك أن الخيال هنا ليس “هذيانا” ولا “كذبا مستعذبا”، أعذب الشعر أكذبه” ذاك ما شاع في سائد الشعرية العربية القديمة، ولا نسجا مفارقا للواقع، إنما هو حضرة إدراك ومحضن حقائق تنبجس فيه بما هو برزخ بين عالمي الأجسام والمعاني؛ عالمي الكثافة واللطافة؛ أو قل بما هو مجمع لبحري الأواني والمعاني. هذا “الخيال الخلاق” لا يكشف عن أسراره ولا يفضي بخباياه إلا لمن يتحقق بالعبودية المطلقة بوصفها افتقارا وبالسلوك الروحي بما هو محبة وبالمعرفة الحقة باعتبارها حرية[6].

ضمن هذا الأفق ووفق هذه الأسس يقيم الأستاذ بنعرفة صرح مشروعه السردي، والذي نحتفي اليوم بصدور حلقته الثالثة “بلاد صاد”. هذا العمل الذي يعضده وينضده بمقدمة يواصل فيها البناء النظري لمشروعه من خلال تعيين شجرة نسب هذا الأدب ورصد اشتراطات قراءته؛ ذلك أن “تاريخ قراءة هذا النوع من الأدب محكوم بالسلوك على الطريق كما هو مبثوث في آداب السلوك[7]“، وهو ما يعني أن مفهوم الأدب هنا مفهوم رحب يحيل على دلالة موسوعية وأخلاقية وعرفانية. هكذا يحدد المؤلف في هذا التقديم البعد الإحساني لهذا الأدب وقصديته في أن يُثمر في القارئ تحولا وتحققا بما يجده في مقروئه من معارف وأذواق وأسرار، من هنا يرسم ملامح “القارئ المثالي” الذي يفترضه أدبه، ويسعى من خلال عتبات نصوصه السردية وخطاباته الموازية إلى تمهيد وتعبيد الطريق لإكساب القارئ الحقيقي بعض قدرات القارئ المثالي؛ مثل الانطلاق من مفهوم محدد للسرد كأداة في التربية والترقية الروحيتين؛ والأخذ بعلوم القوم؛ والاستضاءة بعلم الحروف؛ واستبطان المعارف الروحية بالذوق.. إلخ. بهذه المفاتيح يستطيع القارئ الحقيقي الولوج إلى عوالم هذا الأدب والتحقق بحقائقه. إن المؤلف يطلب “قارئا عاشقا سالكا مسافرا[8]” يرتقي من مجرد مستهلك لمادة مكتوبة إلى ذائق لمعانيها ومتحقق بحقائقها، لهذا يشرح في تقديمه لعمله الثالث الأبعاد العرفانية للعروج عبر “جبل قاف” والسباحة في “بحر نون” ثم السياحة في “بلاد صاد”؛ مزودا القارئ في روايته الجديدة بمفاتيح قراءة عرفانية لنص باذخ من نصوص التراث العربي السردي سيستثمره في متنه الروائي؛ ويتعلق الأمر بنص “ألف ليلة وليلة”؛ إذ يفتح المؤلف أفقا عرفانيا إحسانيا للتعامل مع حكايا “ألف ليلة وليلة” بوصفها حكايا رمزية تقتضي قراءة إشارية روحية تحررها من أسر التعامل معها كنص سردي شعبي أو عجائبي[9].

في ضوء هذه الإلماعات نتساءل كيف تحضر وتتجسد هذه الخلفية المعرفية والعرفانية في رواية “بلاد صاد”؟ ثم كيف تسهم “بلاد صاد” في توسيع وتحقيق رهانات المشروع الروائي للأستاذ عبد الإله بنعرفة؟

وأنا أجول في سطور وعوالم “بلاد صاد” راميا التقاط بعض ما به أتلمس الإجابة عن السؤالين السالفين، ألفيت الدهش يطوق قلما تمنى لو صمت ليلتذ بما يقرأ، تمنى لو تَرك متعة جليلة تسري في الأوصال بدل المراهنة أو المقامرة بكشفها، ذلك أن رهانا كهذا مهدد بتضييع لذة القراءة أو تبديدها، كما أنه مهدد بخطر أن لا تصل تلك اللذة في طراوتها ونضارتها وتوهجها إلى قارئٍ قصارى ما تطمح هذه الورقة أن تورطه في النزول سائحا على “بلاد صاد”. ذلك أن هذه الورقة ليست نقدا ولا وصفا ولا تلخيصا للرواية، إنما هي تحريض على القراءة ليس إلا.

بمجرد ما يطالع القارئ عنوان الرواية تلتمع في ذهنه دهشة استثنائية وتتنازع ضميره أسئلة شتى؛ إنها بإيجاز ثمرة تصديع العنوان للوظيفة السيميائية المألوفة للعناوين. ففي السائد السردي العنوانُ دال يكثف دلالة النص أو موجه لتلقيه ومحدد لأفق انتظار القارئ أو هو ثريا معلقة على باب النص تنير مسار عوالمه الخ؛ أما هنا فنحن أمام عناوين أبعد ما تكون عن الإثارة أو أليف الإنارة، إننا أمام ثريات لا تمنح ضوءها لكل مبصر[10]؛ بل تستدعي قراءة النص بمشكاة البصيرة لإنارة دلالات العنوان نفسها، فلا العنوان ولا رسم الغلاف[11] هنا بشارحين للنص، بل يقتضيان نفسهما الشرح. إننا، إذن، أمام إستراتيجية عنونة مغايرة لتلك السائدة والسيدة، عناوين تطلب وتستدعي القارئ لكن تصر أن يأتي إليها كما هي لا كما تقتضي شرائط التداول السائد؛ أو الإسفاف السائد كما تلمز الرواية إلى ذلك تلميحا وتلويحا.

هكذا نجدنا إزاء عنوان يشج بين معجمين متغايرين في الدلالة الوضعية متجاورين في الدلالة الإشارية لعنوان الرواية؛ معجم جغرافي: بلاد وفي الروايتين السابقتين: جبل، بحر؛ وآخر للحروف يمتح من الرمزية القرآنية للحروف المقطعة، وخصوصا المفردة منها. والعنونة بالحروف أسلوب متفرد لم يؤلَف إلا في أعمال الشيخ الأكبر[12] أو تلك المستمدة من أنفاسه؛ هكذا يحضر حرف صاد هنا وفي الروايتين السابقتين حرفا: قاف ونون ليستدعي دلالات قادمة من أغوار أسفار العارفين في تفاعلهم الروحاني مع الحروف القرآنية المقطعة واستبطاناتهم الذوقية لأسرارها.

إن عنوانا بهذه الملامح يفجر أسئلة تتعلق بوظيفة العنوان نفسها كما ذكرنا، ويشي، من جهة ثانية، بفرادة المنحى الذي تنحته هذه الكتابة السردية العرفانية. وهذا الملمح الأساسي المميز لروايات عبد الإله بنعرفة هو ما يفسر شعوره بضرورة التدخل كمؤلف من خلال الخطابات الموازية لترصيع طريق القراءة بعلامات ومعالم دالة تتلاءم مع خصوصية وانفراد هذا الأدب الذي تروم هذه الرواية السير في منحاه. وهذا ما تجسده النصوص الموازية التي تحف الروايات الثلاث أكانت خطابات موازية داخلية مثل التقديم[13] أو التذييل[14] أو لوحة الغلاف، أو خطابات موازية خارجية مثل المقالات[15] والحوارات[16]. ولعل انزياح هذه الأعمال عن المألوف هو أيضا ما يفسر ارتباك النقد في متابعتها، بل قد يفسر أيضا وجها من أوجه “الإعراض” أو”التناسي” أو ربما “التهيب” من مقاربة هذه الأعمال ضمن دائرة السرد والإبداع الروائي العربي إلا من استثناءات قليلة[17].

وبتجاوز عتبة العنوان بأسئلته وإيحاءاته والاقتراب من متن “بلاد صاد” نكتشف أننا إزاء رواية تتعامل مع التاريخ وتشتغل عليه؛ إذ تقوم بـ”تسريد” سيرة شخصية أدبية صوفية تاريخية تناولت المصادر حياتها بالترجمة والتعريف ومسارها بالتقييم والتعليق. فكيف يحضر التاريخ في هذا المتن الروائي؟ ووفق أي منظور يتمفصل التاريخي والإبداعي في “بلاد صاد”؟

استضاءة بهذه الأسئلة ومن خلال إنعام النظر وإمعان التأمل في تضاعيف الرواية وتضاريسها “بلادها”، نتبين أن هذا العمل السردي ليس أبدا استنساخا للتاريخ ولا محاكاة لوقائع وأحداث وردت في مصادر المعرفة التاريخية ووثائقها. إنه بناء مستقل يتحاور مع تلك المصادر ولا يكررها؛ يبسط ما فيها من معطيات وينسج انطلاقا منها ما ليس هي؛ إذ يتوالج ويتواشج في هذا النسيج التاريخ بالخيال؛ الكائن بالمحتمل، ويعاد تسويد المسوَّد بشكل يمنح للبياضات التاريخية معنى ودلالة في مسار السرد الروائي.

 فمن المعلوم اليوم، حتى في علم التاريخ، أن الحدث حين يمضي فهو يمضي للأبد، ولا يمكن أبدا استذكاره واستحضاره كما هو في كامل وشامل كينونته التاريخية، ومن ثم فإن الخيال يتدخل في إعادة بناء صيرورة الماضي ويضفي عليه معقولية معينة لا يمتلكها بالضرورة، معقولية ما تفتأ تتحول وتتغير بحسب تبدل المعطيات وظهور الوثائق وكشوف الحفريات؛ وكذا بحسب آليات وخلفيات ومنطلقات وسياقات التأريخ والمؤرخ. إذا كان هذا ديدن السرد التاريخي فما بالك بالسرد الروائي الذي يشتغل على تشكيل مادته الحكائية من اللغة والخيال، فهذا الأخير إن كان ينفتح على السرد التاريخي فمن أجل توسيع مساحة الخيال فيه وخصوصا من خلال تلك المنافذ والفجوات والكوى والفراغات والبياضات التي تتخلل التأريخ أو على الأقل معقولية صيرورته في لحظة من اللحظات.

ضمن هذا الأفق نفهم طبيعة الحدود المتحركة بين التاريخ والخيال في رواية “بلاد صاد”، فثمة جهد جهيد بالوصول بالمعرفة التاريخية في هذا العمل إلى أبعد مداها؛ ثم بعد ذلك إعادة سبك وحبك هذه المادة التاريخية بشكل يجعل المحكي تاريخيا ولا تاريخيا في آن؛ إذ تنتمي أعلامه وأماكنه وأحداثه الكبرى وشخوصه إلى التاريخ، ولكن تفاصيله وتمفصلاته والبعد الإنساني والشعوري والنفسي والعرفاني تنتمي إلى “الخيال الخلاق” كما حددناه آنفا، وبذلك “يتسلطن ويتبختر” الخيال في هذا العالم السردي لـ”بلاد صاد” كخلق مؤسَّس يقدم حقائق في ذاتها تكتفي بنفسها عن الواقع؛ حقائق ليست بالضرورة تاريخية، بل هي معرفية وعرفانية، وجدانية وثقافية.

إنه اشتغال في غاية الدقة يقتضي كفاءات ومهارات خاصة من أجل إنجاز سردي متفرد واستثنائي. فأن تكتب عملا إبداعيا ينطلق ويتحاور مع التاريخ دون أن يكونه أو يذوب فيه، يتواصل معه ويتفاصل في آن، أمر ليس بيسير ولا في متناول أي قلم إذا لم تتجمع لدى صاحبه ميزات ليس أقلها ميزتا التمهر في البحث والقدرة على الإبداع. إن عملا أدبيا بهذه المثابة سيكون مراقبا بعينِ المؤرخ مثلما هو متلقىً بوصفه أدبا يجري في عروقه خيال دافق له الفجأة والغرابة والمكر بالتوقع وبأفق الانتظار خصائصُ وسمات.

تينك المهارتين تشعان بألق في رواية “بلاد صاد” حيث تتجلى مزايا العمق والجد والجدة والمجادلة العالمة المسنودة بالقرائن والحجج روايةً ودراية في باب البحث التاريخي، وهو من هذه الناحية يمكن اعتباره عملا رائدا في التعرف والتعريف بالصوفي الكبير أبي الحسن الششتري من حيث سياقُ نشأته وظروف تكوينه ومسار حياته وأسفاره الحسية وسياحاته الروحية إلى وفاته وتعيين قبره الذي ظل إلى وقت قريب مجهولا أو مختلفا في تحديده بين الباحثين. هذا فضلا عن عمق في تحقيق النصوص ومناقشة بنياتها ولغتها ودلالاتها وإشاراتها في ثنايا الرواية. وهي علامات دالة استثمر فيها الباحث تكوينه العلمي باعتباره باحثا لغويا ومتمرسا بعلم التحقيق، بل تقمص فيها أيضا دور المؤرخ علاوة عن عمله كمحلل للنصوص ومجادل له دربة بالمناظرة والسجال.

أما من الناحية الأدبية الصرف، فإن هذا العمل أذاب كل تلك العلامات البحثية في نسيج لغوي وسردي “حاز من البها ما يتلف النهى”، حيث نجد النص الروائي متعدد الشخوص والأحداث ذي إحداثيات زمانية ومكانية محددة بدقة، ينتظمها مسار سردي خطي تعدد فيه المستويات اللغوية والمعرفية بشكل تتآنى وتتجاور فيه معاجم ومعارف وعوالم تبدو متنائية، لكن تجاورها ليس تجاور تضام أي تجاور عناصر تتراصف إلى بعضها تراصف تراكم، وإنما تتجاور لتتحاور وتتفاعل. هكذا تنصهر في الرواية سجلات معاجم ومعارف التفسير والفقه والفلسفة والسياسة واللغة والشعر والعرفان بتشعب شعبه مناقب، مناجيات، أحزاب، تربية، علم أسرار الحروف…؛ إضافة إلى الفلك والتاريخ والصناعة العسكرية والمعلومات النباتية والمعمارية… الخ، وذلك في لغة أخذت على عاتقها الالتزام بأناقة القول ودقة الوصف وألق السبك ورقة الإشارة؛ أي دون التفريط في “الأدبية”، كما يعيها ويحددها المؤلف، بل خدمة وتغذية وتأسيسا لها.

إن الرواية، بهذه الملامح والعلامات، تعيد كتابة السيرة الروحية لأبي الحسن الششتري؛ إعادةَ كتابة تصهر وتمزج بين معطيات التاريخ بوقائعه وأحداثه وبين نتائج الأحوال والمقامات والأذواق؛ أو قل هي كتابة تعيد سبك تاريخ الأسفار الروحية لأعلام التصوف بحيث تصل ببهاء بين سفر الأبدان وسفر القلوب؛ بين سفر المسافة والطريق وسفر المعرفة والذوق والتحقيق إذا استعرنا عبارات الشيخ الأكبر[18]، إنها تشج بين مسار التاريخ والحس وعالم الكثافة ومسار الأحوال والمعنى وعالم اللطافة. بهذا المعنى تكون رواية “بلاد صاد” قد نفخت حياة روحية جديدة في أبي الحسن الششتري من جهة، وفي الرواية ذات الاستلهام التاريخي الروحي أو ما يمكن أن نطلق عليه “رواية عرفانية” من جهة ثانية؛ هذه الرواية التي تمتح عرفانيتها من طبيعة مواضيعها وأزمنتها وفضاءاتها المسربلة -في أكثر من موضع- بإهاب النسكية واللطافة؛ ومن طبيعة نصوصها الغائبة الذائبة في نسيجها، مثلما تمتح تلك العرفانية من ماء الحياة القرآنية؛ وتعيينا من الحروف المقطعة في فواتح السور والتي تحتفي بطواسينها وأسرارها ورمزيتها الروحية الباذخة. كما تعزز، أخيرا لا آخرا، هذه العرفانية بروحانية الأعلام والشخوص المستدعاة لـ”مأدبة” السرد[19].

فالششتري هذا العارف، الشاعر، الفقيه، الواجد، الذي تحيى نصوصه، فصيحُها وموشحها وزجلها، بيننا في مدونة الموسيقية الأندلسية المغاربية وديوان السماع الصوفي الإسلامي؛ وتحرك بإشاراتها مواجيدنا وتُطرب بنبضاتها أرواحنا وتُرقص ببلاغة سرها أشباحنا، هذا العارف يُستدعى إلى “مأدبة” في القرن الحادي والعشرين لنتحاور معه ومن خلاله حول أسئلة مفرطة في راهنيتها، أسئلة اللغة والمعنى والإنسان والقيم والشعر والعلاقة بين الأديان وصِلتنا بالموسيقى وعلاقتنا بالغرب والتاريخ والهوية والاختلاف… الخ. من هنا نقول إن “بلاد صاد”، في عمقها المعرفي وباستحضار ما قلناه آنفا عن تمفصلات التاريخي والخيالي فيها، لا تحكي عن الششتري التاريخي؛ بل ربما كانت تمارس في حقه “النسيان” بمعناه الفلسفي؛ أي بما هو طاقة إيجابية لا يمكن إعادة امتلاك الماضي بدونها؛ “نسيان” يبدو ضروريا لبث الحياة في الششتري كمعنى وروح وكينونة متعالية معها نتطارح قضايانا وانهماماتنا المعاصرة. من هذا المنظور تثير “بلاد صاد” مختلف القضايا المشار إليها، ثم عبر كونها السردي ومن خلاله ينطرح في الرواية سؤال الكتابة ومفهوم الأدب ووظيفتهما في السياق العالمي المعاصر بتناقضاته ومفارقاته وتجاذباته، وفي مساقنا الحضاري العربي الإسلامي الخاص.

إن مفهوم الكتابة في الثلاثية السردية لعبد الإله بنعرفة يحضر بشكل يجمع، في زواج عاشق، بين مدلولها كفعل واع يؤسس لمشروع مما يقتضي البذل والإعداد والبحث وإعمال أسباب الكسب والتحصيل، وبين مدلولها كـ”انكتابة[20]؛ أي ككتابة عن فتح غيبي تُصبح فيها اليد مجرد آلة كما قال الحلاج[21]، أو قل هي يد –ظل ما هي يد المؤلف ولا هي لغيره[22]. وخلال هذه الكتابة يُمسي الكاتب مكتوبا به يخط ما نفخت فيه موارد أحواله وما يُملى عليه من منابع الإلهام والوهب الربانيين. ذاك ما يشير إليه بنعرفة حين يكتب عن “بحر نون” أنها: “رواية بالمعنى الأصلي للكلمة، إذ كل ما جاء فيها إلقاء في الروع ونفث في الجنان وإشراقة في العقل المؤيد بنور التقديس[23]“، وهنا تشتغل الكتابة بمفهومها الأكبري بما هي “انكتابة” أو قل بما هي “كتابة بإذن[24]“، بحيث تنتفي أنية “الكاتب” ليصبح مجرد “لسان وترجمان”. ذاك ما نقرأه بصريح الإفضاء في مُستهل “جبل قاف” حين “يكتب” بنعرفة في صفحة الإهداء: “إلى روح الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر… الذي سقاني من رحيق محبوبيته وألبسني خلعة سيادته فلهجت بما أعارني من بنات كشفه فلست سوى اللسان والترجمان[25].”

على أن هذه الكتابة وبقدر ما تحتاج إلى الإذن والنفخ الغيبيين، واللذين هما محض تفضل من المُلهِم، تحتاج إلى البذل والاجتهاد والرياضة والمجاهدة، وهي عوامل تُعد وتهيئ صاحبها لتلك الفتوح والكشوف وإن كانت لا تُفضي ضرورة وحتما إليها. مع تسجيل ملاحظة رئيسة مفادها أن هذه الفتوح المتصلة بإلهام الكتابة متعددة صورها ومسالكها؛ ولعل من بينها ما ضمَّنه المؤلف في تصديره لـ”بلاد صاد” من كونه استعصت عليه الكتابة في إنهاء هذه الرواية ولم “يُفتح” عليه في إتمامها حتى قُدر له زيارة القاهرة واكتشافه فيها لقبر أبي الحسن الششتري بإشارة من هاتف باطني[26].

هكذا يبدو أن هذه الكتابة؛ بما هي كتابة عن إذن وحال ووجد، تنضح بالإبداع؛ لأن الصوفي مُطالب فيها بأن يطعم الناس بلحم طري لا بالقديد كما كان يقول أبو مدين الغوث[27]؛ أي أن يخبرهم بفتوحاته وكشوفه وأذواقه الخاصة لا بالمروي والمأثور مما ذاقه أسلافه وأغياره. وهذا ما يجعل هذه الكتابة جديرة بقراءات شتى[28]؛ إذ هي كلما ازدادت لطافة ازدادت أناقة، وكلما تعتقت في السر والمعنى تألقت وترونقت؛ لأنها تُلهب في القراء شهوة الاكتشاف وتقدح فيهم شساعة الفهم ووسع التأويل والقراءة، ذلك أنها كتابة تعدد من عشاقها لأنها ما تفتأ تنتج الدلالات المتعددة للقارئ المفرد، لا الدلالة الواحدة لقراء متعددين. هي كتابة محدودة الرسم لكنها لا نهائية الفهم، كثيفة المبنى لكنها كريمة المعنى؛ لأن لها القدرة كي تسافر من قارئ لآخر لتُسفر لكل واحد منهما عن إشارات وتأملات وفتوح في الفهم كامنة في الكتابة مثلما هي كامنة في وجد وحال قارئها؛ تحضر بصمت بين الحروف لتلتمع في باطن القارئ وسره. إنها كتابة تجمع بين جمالية السفر والإسفار؛ هذا النمط من الأدب يُحيي فينا الإحساس بجدوى القراءة كمتعة وكفريضة فكرية، ثم كشعيرة لها إهاب روحي نسكي متفرد.

ليس هذا أبدا تحميلا للرواية ما لا تحتمل، بل ربما كان بعضَ ما تحتمل، ولمستقبل القراءة أن يكشف عن سبل وجهات دلالية أخرى لم تشر إليها هذه الورقة، وعن مداخل خبيئة تنفذ منها إلى العالم الروائي العرفاني لعبد الإله بنعرفة؛ هذا العالم المتعدد والثري والواعد والذي يُوقعه صاحبه بأبجدية وجده ورحيق تجربته وفرادة إمضائه.

الهوامش


1. عبد الإله بنعرفة، “بلاد صاد”، بيروت: دار الآداب، 2009.

2. محمد بناصر الدرعي.

3. عبد الإله بنعرفة أديب وباحث مغربي في اللغة والتصوف والتاريخ والأدب، حاز على دكتوراه في اللسانيات (علم الدلالة) من جامعة السربون بباريس، درّس بشعبة اللغة العربية بكلية الآداب بمكناس، ويشغل الآن مهمة خبير ثقافي دولي تابع للإسيسكو. له عدة مقالات وأبحاث ومداخلات أكاديمية منشورة في عدة منابر علمية مغربية وعربية ودولية؛ فضلا عن جملة إصدارات وازنة منها كتابه بالفرنسية عن نشأة المفاهيم الصادر عن دار المنشورات الجامعية بفرنسا؛ وتحقيقه لمؤلف ابن سيدبونة، “كتاب الشهاب موعظة لأولي الألباب”، ثم ثلاثيته السردية: “جبل قاف”؛ “بحر نون”؛ “بلاد صاد”. وآخر إصداراته رواية “الحواميم” (بيروت-الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي) حول مأساة طرد الموريسكيين.

4. عبد الإله بنعرفة، “جبل قاف”، الدار البيضاء: مطبعة النجاح الجديدة،  2002.

5. عبد الإله بنعرفة، “بحر نون”، الرباط: دار الأمان للطباعة والنشر والتوزيع، 2007م.

6. قدمت هذه الورقة في لقاء أدبي باذخ صحبة الأديبة رجاء بنشمسي وبحضور المؤلف وذلك في  إطار أنشطة الدخول الثقافي بمؤسسة “دار الفنون” بالرباط بتاريخ 03-09-2009.  وتجدر الإشارة إلى أن هذا العمل قد تم تقديمه أيضاً بمشاركة وزير الثقافة، ضمن فعاليات المعرض الدولي للنشر والكتاب في الدار البيضاء 2010.

7. عبد الإله بنعرفة، “بحر نون” تقديم، ص6.

8. المرجع نفسه، ص7.

9. المرجع نفسه، ص8.

10. هذه القراءة ظهرت بعض علاماتها في “جبل قاف” ثم في “بحر نون” من خلال الحديث الإشاري عن “مدينة النحاس”، ثم استؤنفت في “بلاد صاد” من خلال القراءة الإشارية التصويفية لحكاية “علي بابا والأربعين لصا”. راجع عبد الإله بنعرفة “بلاد صاد”، م، س، ص11-12.

11. أثناء حفل تقديم الرواية لأول مرة في دار الفنون بالرباط يوم 3-09-2009، وقبل الانطلاق في فقرات اللقاء الثقافي، بادرت صحافية إلى استجواب المؤلف من أجل إنجاز تقرير تلفزي حول اللقاء، فسألته عن الرواية إن كانت تتحدث عن بلاد الغرب التي رمز إليها المؤلف بـ”بلاد صاد” كمقابل للبلاد الناطقة باللغة العربية؛ أي “بلاد لغة الضاد”. و”سوء التوقع” هذا واحد من علامات التوتر الذي تثيره عناوين هذه الروايات مقارنة مع مألوف العناوين السردية السائدة في المشهد الروائي العربي.

12. كل رسوم أغلفة الروايات الثلاث من إنجاز المؤلف مما يكشف عن موهبة في التشكيل من جهة؛ وعن رمزية عرفانية باذخة لتلك الأغلفة من جهة ثانية.

13. مثال ذلك “كتاب الألف وهو كتاب الأحدية” و”كتاب الميم والواو والنون” و”كتاب الياء”… ضمن “رسائل ابن العربي”، دمشق: دار المدى للثقافة والنشر، 2001.

14. عبد الإله بنعرفة، “بحر نون”، م، س، ص5-12؛ “بلاد صاد”، م، س، ص7-21.

15. عبد الإله بنعرفة، “جبل قاف”، م، س، ص378-379؛ “بحر نون”، م، س، ص217-223؛ “بلاد صاد”، م، س، ص326-327.

16. راجع مثلا: عبد الإله بنعرفة، “رواية في مقال: رواية جبل قاف”، مجلة “مدارك”، ع1-2005، ص52-54.

17. راجع تمثيلا الحوار الذي أجراه معه عبد الصمد غازي  في مجلة “عوارف”، ع2-2007، ص105-123.

18. من ذلك: “الجبال المعرفية في الرواية الصوفية، قراءة في رواية “جبل قاف” “ضمن كتاب د. علي القاسمي، “الحب والإبداع والجنون”، الدار البيضاء: دار الثقافة، 2006، ص155-164؛ انظر مقال أحمد السعيدي، “سفر الخبايا” عن رواية “بحر نون”، منشور في عدة مواقع إلكترونية أدبية.

19. محي الدين بن عربي، “الإسرا إلى المقام الأسرى”، تحقيق سعاد الحكيم، بيروت: دندرة للطباعة والنشر، 1988، ص53.

20. للوقوف على الاستثمار السردي للتراث النقدي العربي وإعادة تشغيل بنعرفة لعلاقة الأدب بالمأدبة وإحيائه لصلة هذه الأخيرة بالمرجعية القرآنية التي يصوغ منها أفقه الأدبي العرفاني، راجع مشهد “على مائدة قاف” ضمن رواية “جبل قاف”، م، س، ص241-249.

21. محمد الشيخ، “كتاب الحكمة العربية، دليل التراث العربي إلى العالمية”، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2008، ص429-431.

22. المرجع نفسه، ص429.

23. خالد بلقاسم، “الكتابة والتصوف عند ابن عربي”، الدار البيضاء: دار توبقال، 2004، ص228.

24. عبد الإله بنعرفة، “بحر نون”، م، س، ص8.

25. خالد بلقاسم، “الكتابة والتصوف عند ابن عربي”، م، س، ص89-93.

26. عبد الإله بنعرفة، “جبل قاف”، م، س، ص3.

27. عبد الإله بنعرفة، “بلاد صاد”، م، س، ص 13-15.

28. محي الدين ابن عربي، “الفتوحات المكية”، دار الفكر، د. ت، المجلد الثاني: ص231؛ عبد الإله بنعرفة، “جبل قاف”، م، س، ص97-98.

29. من فريد القراءات التي حظيت بها “بلاد صاد” تلك “القراءة السماعية الصوفية” التي أنجزتها وقدمتها لأول مرة بدار الفنون بالرباط يوم 04-09-2009 “مجموعة الذاكرين” لفن السماع الصوفي تحت عنوان “تشنيف أذن الفؤاد بنفحات من بلاد صاد”، حيث عمدت المجموعة إلى تقديم حصة موسيقية صوفية اقتصرت فيها على إنشاد أشعار أبي الحسن الششتري،  وأجملت فيها أبرز اللحظات العرفانية لتجربته الروحية كما تبلورت سرديا في رواية “بلاد صاد”.

Science

د. محمد التهامي الحراق

• دكتوراه في الآداب من جامعة محمد الخامس بالرباط.
• المسؤول الثقافي والفني عن مؤسسة الذاكرين للأبحاث الصوفية وموسيقى السماع ـ الرباط
• عضو في مركز خديجة لنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
• نائب رئيس مؤسسة مولاي عبد الله الشريف للدراسات والأبحاث ـ فرع الرباط.
• مشرف ومعد للعديد من البرامج التلفزية والإذاعية حول التصوف، منها:”عباد الرحمن”، و”ذكر ومذاكرة”، و”مرحبا بالمصطفى”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق