وحدة الإحياءشذور

الرحلات المغربية الداخلية.. زيدانية سكيرج نموذجا

البحث في الرحلة عامة تكتنفه صعوبات ومعيقات منهجية؛ فالدارسون ظلوا ينظرون إلى الرحلة على أنها من الكتابات الموسوعية التي لا تنغلق في تخصص علمي معين، بل اعتبرت منبعا ثريا للمعلومات الجغرافية والتاريخية والأثنولوجية والسوسيوغرافية والأوتوبيوغرافية والفهرسية… ومن هنا وقع تناول الرحلات من هذا الجانب أو ذلك من لدن الباحثين مستشرقين وعربا[1].

وأرى أن الرحالة في انفتاحه على هذه المجالات المعرفية المختلفة، بما يسوقه من أخبار ومعلومات وبما يتوقف عنده من قضايا علمية واجتماعية وتاريخية… لا يلتزم بمنهج الدارسين المتخصصين في تلك الحقول المعرفية، فلا يتناول مضامينها تناولا موضوعيا صارما بعيدا عن ذاتيته ومزاجه وأحواله الخاصة، بل إن ما يسوقه في رحلته هو ألصق بوجدانه إلى حد اعتماد الرحلة مصدرا للتعرف على أحوال الرحالة، وميوله، وجوانب شخصيته، وروافد تكوينة، وإنتاجه تأليفا وفهرسة وإبداعا…

ثم إن مصادر معلومات الرحالة، في الغالب، تعتمد على اللقاء، والمشاهدة، والمجالسة والمشافهة، وسبر أغوار المجتمعات، وتأمل الظواهر الطبيعية… فالتناول هنا لا يتسم بالتجرد والموضوعية كما يفترض المنهج العلمي، ولكنه تناول متأثر بذاتية الرحالة وظروفه وأحواله، مما يجعل ما دونه حينئذ أقرب إلى ما يعرف بالكتابات الأوتوبيوغرافية[2]، ومن هنا انتصر كثير من الباحثين لأدبية الرحلة، فاعتبروها جنسا أدبيا وفنيا له سماته وخصائصه، فقالوا “أدب الرحلة” أو فن الرحلة[3]“.

ومن المعلوم أن الرحلة متجذرة في أنماط الكتابة بالمغرب، بالرغم من أن ما نعرفه من الرحلات المغربية المدونة لا يمكن أن نرتقي به فوق القرن السابع الهجري –حسب علمنا- فرحلات كل من العبدري، والتجيبي، وابن رشيد؛ أقدم ما هو مدون من الرحلات المغربية[4]. لذلك فالفترة الزمنية التي يتحرك البحث في إطارها، يمكن وصفها بالخصوبة والغنى والتنوع في الكتابة الرحيلة بالمغرب؛ فمن خلال فهارس المخطوطات، ومعاجم المطبوعات، وكتب التراجم، يتبين أن هذا النوع من الكتابة –في النصف الأول من القرن العشرين- شهد ازدهارا لا مثيل له من قبل، إذ أمكننا الوقوف على حوالي ثلاثين ومائة رحلة، تشكل الرحلات الداخلية منها أكثر من الثلث، والباقي تتوزعه الرحلات المنطلقة من المغرب نحو المشرق والمغرب العربيين بصورة عامة، وتركيا، والهند، وأوربا والولايات المتحدة… وهذا يبرز المكانة التي أضحت الرحلات الداخلية تحتلها ضمن هذا التراث الغني.

وتجدر الإشارة إلى أن الكثير من أعلام هذه الفترة لا نعرف لهم في هذا المجال غير الرحلات الداخلية، وأن العديد منهم تميزوا بكثرة هذه الرحلات في المناطق المغربية المختلفة[5].

رحلات أحمد سكيرج

يعد أحمد بن العياشي سكيرج الفاسي[6] (1295-1363ﻫ/1874-1944م) من أهم أدباء وفقهاء ومتصوفة النصف الأول من القرن العشرين، لا لما تقلده من مناصب علمية وقضائية وإدارية سامية فحسب، ولكن لما كان يحظى به من مكانة علية وثقافية وأدبية؛ فتآليفه ناهزت أربعين ومائة تأليف في حقول معرفية مختلفة، والذي يهمنا هنا أن لأحمد سكيرج تراثا رحليا هاما يتمثل في نحو عشر رحلات وهي:

  1. الرحلة الزيدانية –موضوع هذا البحث– قام بها من مسقط رأسه فاس إلى زيارة عبد الرحمن بن زيدان بمكناس عام 1326ﻫ/1908م.
  2. غاية المقصود بالرحلة مع سيدي محمود، سجل فيها مشاهداته من فاس إلى الرباط، رفقة شيخ الطريقة التجانية عام 1329ﻫ/1911م.
  3. الرحلة الحبيبية الوهرانية الجامعة للطائفة العرفانية لخديم الحضرة التجانية ذات المواهب الربانية، قام بها عام 1329ﻫ/1911م، لزيارة الحبيب العلوي الوهراني التجاني.
  4. الرحلة المكية الحجازية، قام بها عام 1334ﻫ/1916م على رأس الوفد الرسمي لتهنئة شريف مكة بالاستقلال، والإشراف على تأسيس رباطين مغربيين هناك.
  5. رحلة إلى فرنسا عام 1334ﻫ/1916م أثناء عودته من أداء فريضة الحج في سفارة للثناء على الدولة الحامية.
  6. شحذ الأذهان فيما رأيته بوهران وأبي العباس وتلمسان.
  7. رحلة إلى باريس عام 1345ﻫ/1926م لتدشين المسجد هناك، وهي رحلة منظومة.
  8. تاج الرؤوس بالتفسح في نواحي سوس، وهي رحلة منظومة قام بها في أواخر حياته إلى جنوب المغرب مرورا بالمدن التي في طريقه من سطات.
  9. إيقاظ القرائح لتقييد السوانح، مذكرات الرحالة بداخل المغرب العام 1328ﻫ/1910م.
  10. النتائج اليومية في السوانح الفكرية، مذكراته أيضا بداخل المغرب عام 1330ﻫ/1912م.

فالتآليف الرحلية عند أحمد سكيرج لها أهميتها بين بقية تآليفه التي تناهز أربعين ومائة كتاب[7] كما سبق الذكر، موزعة على مجالات وحقول معرفية مختلفة.

الرحلة الزيدانية

يبدو من خلال استعراضنا لتواريخ رحلاته، أن الزيدانية هي أول هذه الرحلات، كما يتأكد من قوله وهو متردد في قبول دعوة ابن زيدان إلى مكناس: “فاعتذرت إليه بأني ما تعودت السفر، ولا فارقت الحضر، ولم أقدر على مغادرة فاس[8]“، وتأكد هذا الارتباط بمسقط رأسه فاس حين تهيأ للعودة في قوله: “ولما طال بنا المقام، وما كان في ظني أن أقيم عنده عدة أيام، لكوني لم أعهد من نفسي أني فارقت فاسا قبل هذه الرحلة ولا عرفت معنى للسفر قبله[9]“.

والرحلة مصورة على الشريط بالخزانة العامة بالرباط تحت رقم 1030 في 150 لوحة، أما النص المعتمد في هذا البحث فهو المرقون المحقق من طرف الأستاذة فدوى بنخليفة لنيل دبلوم الدراسات العليا من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، والنص المرقون محفوظ بمكتبة نفس الكلية.

الرحلة بين السياحة والفهرسة:

أول ما يواجهه الباحث هو عملية تصنيف الرحلة، فمحققتها أدرجتها ضمن “الرحلات السياحية الأدبية ذات الطابع الإخواني”، إلا أن قارئ الرحلة يجدها حافلة بالإفادات والإنشادات، ولقاءات العلماء والأدباء، وزيارة أضرحة الأولياء والعظماء وحضور المواسم والحفلات، والمساهمة في المذكرات والمسامرات والمساجلات، والحرص على تسجيل التقييدات ونصوص الأشعار والمراسلات… فطابعها إذن سياحي، علمي، فهرسي، زياري، مما يجعلها خارجة عن التصنيفات المعروفة لدى الباحثين[10]. وإن كان الطابع الفهرسي أكثر وضوحا من خلال حرصه على لقاء العلماء والأدباء، وتدوين الفوائد، بل إن روض ابن زيدان الذي لازمه سكيرج مدة الرحلة، كان طابعه هو: “العكوف على دراسة الأدب مذاكرة، ومطالعة، ومحاضرة، ومناظرة في مسائل علمية فرعية وأصولية[11]” ومن هنا فإن قيمة هذه الرحلة في –نظر الرحالة نفسه- ما تضمنته من الأعلام وآثارهم العلمية والأدبية (11مكرر).

ثم إن القيام بهذه الرحلة لم يكن غير تلبية دعوة صديقه ابن زيدان لزيارة مكناس، بالرغم من أن صاحب الرحلة سلك فيها خطى باقي الرحالين من الاستعداد للرحلة بتوديع الأهل والإخوان، وزيارة الأضرحة، والخروج في الصباح، والتعلق بالمكان، والإسراع في قطع المراحل[12].

تدوين الرحلة

لاشك في أن هذه الرحلة لم يدونها صاحبها حين القيام بها، وإنما تم ذلك بعد مرور عشر سنوات على الأقل، كما يتضح من المعطيات التالية:

  1. يحيل سكيرج في هذه الرحلة إلى رحلة “غاية المقصود[13]“مع أنها متأخرة عنها بثلاث سنوات، وهذا يدل على أنه أخرج رحلته الثانية قبل الأولى.
  2. تتضمن “الزيدانية” نص رسالة بعث بها عبد القادر العرائشي إلى الرحالة حين كان قاضيا بوجدة (1917-1920)؛ أي بعد مرور أكثر من عقد على القيام برحلته الزيدانية[14]، كما تشتمل على تقريظات ورسائل متأخرة عن زمن الرحلة[15].
  3. يعلن سكيرج، في مرات عديدة وسياقات مختلفة –أن نصوصا ضاعت منه فتعذر إثباتها في الرحلة[16]، ويقول متحدثا عن عبد القادر العرائشي: “ولما رجعت إلى فاس أعلمته بوصولي بسلامة، وكتبت له قصيدة ضمن الكتاب، وفاتني إبقاء نسخة منها لأثبتها في هذا المحل، كما ضاع من يدي ما كنت أعددته لإخراجه من مبيضته جملة وافرة[17]“.
  4. جاء في خاتمة الرحلة قوله: “ولنحبس القلم عن الجولان في تسطير ما بقي مما جرى في هذه الرحلة[18]“؛ فهذه الخاتمة القسرية مؤشر على أنه لم يدون كل السماعات، والمناقشات، والإنشادات، والمسامرات، والمساجلات… فتدوينه للرحلة إذن كان استعادة لوقائع ومشاهدات، وتذكرا لنصوص في ظروف وأزمنة يندر أن تسلم فيها الذاكرة من النسيان، كما يتعذر تجنيب المادة العلمية ما يمكن أن يلحقها من بتر أو اضطراب.

وارتباطا بعملية التدوين ونتيجة لها كذلك، بدت الرحلتان (غاية المقصود، والرحلة الزيدانية) متكاملتين في التعريف بمكناس عمارة ومجتمعا وثقافة وتصوفا ونشاطا فكريا وأدبيا… فما ذكره الرحالة مجملا في غاية المقصود، عمد إلى ذكر جزئياته وتفاصيله في الرحلة الزيدانية، وقد يكتفي بالإحالة على ما أثبته هناك بهدف الإيجاز وتلافي التكرار، وإفساح المجال لنصوص أخرى وفوائد لم يثبتها من قبل. قال وهو بصدد تدوين رسائل الغالي السنتيسي “وقد تعرضت في كشف الحجاب وتأليفي بلوغ المقصود وغيرهما لبعض فوائده[19]؛ وقد يكتفي كذلك بالإحالة إلى مظان نصوص معينة في كتبه الأخرى، كقوله: “وقد نقلت التقييد السائحي في كتابنا كشف الحجاب فلنكتف بذكره هناك على نقله هنا[20]“.

ونلمح هذا التكامل أيضا في تعامله مع الأعلام الذين التقى بهم الرحالة بمكناس في الرحلتين معا، إذ لا يشير في الرحلة الزيدانية إلا لمن أغفل ذكرهم في “غاية المقصود” أو لم يتمكن من الإلمام بأخبارهم ونصوصهم فيها، والأعلام الذين تكررت ترجمتهم هم[21]: الحسين العرائش، وعبد القادر العرائشي، ومحمد بن أحمد السويسي، والمختار البخاري، والغالي السنتيسي، وعبد الله العلوي، والطيب العلوي.

كما تحقق هذا التكامل أيضا في وصف بعض معالم المدينة ومنتزهاتها[22]، مثل صهريج السواني، وأكدال… لكنه يبدو أكثر جلاء ووضوحا في انطباع كل من الرحلتين بالطابع الصوفي؛ وذلك بذكر مجالس التصوف وأعلامه، وحلقات الذكر، وزيارة أضرحة المتصوفة، والسعي للقاء الأحياء منهم، ولا غرابة في الاهتمام بكل ما له صلة بالتصوف؛ فأحمد السكيرج من أهم المنافحين عن الطريقة التجانية؛ إذ ألف فيها وفي مبادئها وأذكارها وأعلامها ما يناهز تسعة وثلاثين كتابا. فتشابه مضموني الرحلتين وتكاملهما أظهرا العملين وكأنهما رحلة واحدة على مرحلتين، كما أن أدراجه في الزيدانية خاصة نصوص بعض القصائد والرسائل التي كتبت في فترات متأخرة عن الرحلتين معا، جعل هذه الرحلة وكأنها مختارات شعرية، بل إنه نفسه يطلق على مدونته كتابا[23].

المضمون التاريخي:

لاشك في أن الرحلة الزيداني تمت في فترة حرجة اتسمت بالغليان السياسي، واضطراب أرجاء البلاد، وتفشي الفتن، وبداية التدخل الأجنبي بوصول طلائع قوات الغزو الفرنسي… كما تزامنت مع أحداث كان لها أثرها في الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية بالمغرب، من مثل[24] عزل السلطان عبد العزيز وبيعة عبد الحفيظ في 6 رجب عام 1325، واحتلال وجدة في 14 صفر عام 1325، واستمرار ثورة الجيلاني الزرهوني المدعو بوحمارة، والمطالبة بوضع الدستور…

فهذه الأحداث وغيرها لم يعرها الرحالة الاهتمام المناسب باستثناء إشارات مقتضبة هنا وهناك، كسعي محمد بن عبد الكبير الكتاني في حشد الجموع لنصرة عبد الحفيظ على أخيه المخلوع[25]، واهتمام خطب الجمع بالترغيب في الجهاد، والحث على الدفاع عن البلاد[26]، وكإشارته إلي تفشي الفوضى والفساد، واستفحال ظاهرة قطع الطرق بين فاس ومكناس[27].

ومن أهم هذه الإشارات القليلة، حديث سكيرج عما شاهده بعزيب الأمراني من حشود ضخمة لجماعات وطوائف عيساوية في طريقها للاحتفال في مكناس بالمولد النبوي[28]، ومن الإشارات كذلك وصفه لطريقة الاحتفال بهذا العيد في الضريح الإسماعيلي[29].

المضمون الأدبي:

سبقت الإشارة إلى أن الرحلة الزيدانية أهم ما يسمها هو الطابع الأدبي عامة والشعري على الخصوص، لتميز كل من الرحلة والرحلة برهافة الحس، وتوفر كل منهما على ملكة نظم الشعر؛ ومن هنا تكاد تكون الرحلة صدى لمجلس ابن زيدان تلتقط ما يتداول فيه من مطارحات، ومسامرات، ومساجلات، وإخوانيات، وتقريظات، واستجازات، ومناظرات، ومحاضرات، ومذاكرات… لذلك كثر الالتفات إلى هذا المجلس (الروض) في ثنايا الرحلة، كقوله: “وقد جلسنا مع سيادة النقيب بروضه الأنيق أياما، ونحن في تمتع بالنعيم الذي انتعشت به الأرواح، والأشباح، مع العكوف على دراسة الأدب مذاكرة، ومطالعة، ومحاضرة، ومناظرة في مسائل علمية فرعية وأصولية معه، ومع زائريه[30]“.

فالنادي الزيداني وما أثير فيه من قضايا أدبية، وما أنشد فيه من أشعار إخوانية ووصفية، وما اقترح فيه من مواضيع للسجال والمطارحة، جعل المضمون الأدبي في الرحلة يتصدر اهتمام الرحالة ومن هنا يمكن التمييز في هذه الرحلة بين جانبين أولها حديث عن تجربة الرحالة، ومشاهداته وأخباره ورواياته، وثانيهما ما يمكن اعتباره ملحقا أو ذيلا سمح بإيراد النصوص الصادرة عن الرحالة والوافدة عليه أثناء الرحلة وبعدها، فقيمة الرحلة إذن تتجلى في هذه النصوص الشعرية والنثرية المختلفة، وفي أولئك الأعلام الذين صدرت عنهم تلك النصوص أو وجهت إليهم.

أعلام الرحلة:

أول ما يحسن أن نشير إليه هو أن مجلس ابن زيدان كان ناديا أدبيا مرموقا، يقصده علية الأدباء والشعراء والمثقفين عامة، لأهمية هذا ومكانة صاحبه، ثم إن وجود سكيرج في ضيافة صاحب النادي زاد من الإقبال على حضور جلساته والإسهام فيها، فتوارد عليه “أعيان ونجباء وعلماء وأدباء” احتفاء بالضيف والمضيف، يقول عبد القادر العرائشي مرحبا بوفد فاس الذي كان الرحالة من أبرز أعضائه[31]:

   لاسيما منهم الفقيــه أحمد من          يسمو على كل ما يسمو من الرتب

يدعى سكيرج من قد حل منزلنا          فاهتز شوقا له بالبشر والطــرب

    يا حسنه من فقيه زانـه أدب           وصــار رقا له في أي ما طلب

فالوافدون على النادي لمجالسته كثيرون منهم التهامي الحداد الذي يقول عنه الرحالة نفسه إنه “جاء لمحاضرتنا صحبة بعض الأدباء[32]“، بل هناك من الشعراء المكناسيين من أبدى رغبته في الاجتماع به ومجالسته[33]، ومن هنا فالذين قصدوا المجلس آنذاك كثيرو العدد متنوعو الثقافة مختلفو المشارب، مما لم يكن ممكنا الإلمام بكل هؤلاء الأعلام والتعريف بهم في الرحلة، فاكتفى سكيرج أحيانا باستعمال صيغ دالة على الكثرة[34]، من مثل: جماعة الأدباء، الأجلة، الأفاضل، العلماء الأعلام…

والجلسات الأدبية التي كانت تلتئم حول رحالتنا لن تقتصر على فضاء النادي، وإنما نال بعض أعضائه هذه الخطوة، كعبد القادر العرائشي، ومحمد بن أحمد السوسي، إلا أن مقر النادي ظل كعبة الأدباء والشعراء والعلماء يرتادونه بانتظام، وينهضون بما أسند إليهم من مهام لإنجاح جلساته العلمية والأدبية، فعبد الله العلوي هو مقرر النادي الذي يدون محاضره، ويكتب ما سنح من السوانح الأدبية في هذا الروض الأنيق[35]“، وأبو بكر محمد الغالي السنتيسي يسرد الشمائل المحمدية[36]، ومولاي الطيب العلوي وابن أخيه عبد الله كانا يكتبان الرسائل الصادرة عن عميد هذا النادي، ويستخرجان مبيضات تآليفه[37].

ومع ذلك فلم تكن لقاءات سكيرج مقصورة على من يفد على “الروض الزيداني”، أو متروكة للصدفة، إنما كان هو أيضا يسعى للقاء بعض أعلام التصوف والأدب[38]، لذا فإن إقامته بمكناس –وإن لم تتعد خمسة عشر يوما- أتاحت له مجالسة عدد مهم من خاصة أهل مكناس، وتركت لديه ذكرى طيبة، حببت إليه المدينة وأهلها، أعرب عن ذلك في قوله[39]:

   يا أهل مكناسة الزيتون إنكم                    والله بين الورى كالروح للذات

في الأنس لست بناس حسن أنسكم                     لم لا ومن فضلكم نحظى بلذات

وعلى أي حال، فقد أفسح سكيرج في رحلته الزيدانية لاثني عشر علما[40]، إضافة إلى الشخصية المركزية عبد الرحمن بن زيدان. وهؤلاء الأعلام كما وردوا مرتبين في الرحلة هم:

– محمد بن الحسين العرائشي.

– محمد بن يحيى الصقلي.

– محمد بن كبور ابن الحاج.

– محمد بن عبد السلام الطاهري.

– عبد القادر العرائشي.

– محمد بن أحمد السوسي.

– المختار بن عبد الله البخاري.

– أبو بكر الغالي السنتيسي.

– المعطي بن عبود.

– مولاي عبد الله العلوي.

– مولاي الطيب العلوي.

– التهامي الحداد المكناسي.

اهتمام سكيرج بمن التقى بهم من الأعلام للتعريف بهم، والوقوف على بعض آثارهم ومؤلفاتهم، سمة لازمته في مسيرته العلمية، يدل على ذلك أنه حبر أربعة عشر كتابا في الترجمة لأعلام عصره عامة، وأتباع الطريقة التجانية على الخصوص.

ويبدو من لائحة الأعلام الذين احتفى بهم سكيرج في رحلته، أن بعضهم كان على صلة به قبل الرحلة بمدينة فاس[41]؛ كأبي الفتح محمد بن يحيى الصقلي، وأبي الفتح محمد بن كبور ابن الحاج، وأبي بكر محمد الغالي السنتيسي. وأن ستة من هؤلاء الأعلام اجتمع بهم في رحلتيه معا إلى مكناس، وهم[42]: محمد بن الحسين العرائشي، وعبد القادر العرائشي، ومحمد بن أحمد السوسي، والغالي السنتيسي، وعبد الله العلوي، والطيب العلوي.

وأرى أن ما كتبه عن هؤلاء الأعلام جميعهم –وإن أطلق عليه هو نفسه “ترجمة”[43]– إلا أنه في نظر الباحث المدقق لا يستوفي جميع العناصر التي تدخل في بناء التراجم، فعمله لا يعدو تحلية العلم، وذكر بعض أوصافه وأخباره، وإثبات بعض النماذج من آثاره الأدبية. وحتى التحليات التي يضيفها على المترجمين تبدو قاصرة عن إبراز الفروق بين هذا العلم أو ذاك، لافتقارها إلى الدقة والوضوح؛ فابن زيدان “مهفهف الأطراف الأريحي، وغطريف الأشراف المضرحي[44]“، ومحمد بن الحسين العرائشي “الفقيه العلامة[45]“، ومحمد بن يحيى الصقلي “الأديب النجيب[46]“، ومحمد بن عبد السلام الطاهري (الخطيب المصقع العلامة المتضلع) وعبد القادر العرائشي “الأديب الشاعر الناظم الناثر، نابغة زمانه، وجرير وقته في إبانه[47]“…

وهكذا يمضي في تحلية باقي الأعلام بكلمات وصفات تراثية فضفاضة قد تتسع لتشمل الجميع، وقد لا تزيد العلم تعريفا وتمييزا. أما النماذج التي ساقها من آثارهم الأدبية فكانت متفاوتة –من حيث الكم- تتوزع كما يلي:

– ثمانية عشر نصا لعبد الرحمن بن زيدان.

– أحد عشر نصا لكل من محمد بن كبور، والغالي السنتيسي.

– ثمانية نصوص لكل من محمد بن يحي الصقلي، وعبد القادر العرايشي.

– نصان لكل من محمد بن أحمد السوسي، ومحمد بن عبد السلام الطاهري، ومحمد بن الحسين العرائشي، وعبد الله العلوي.

– غياب التمثيل النصي في ترجمة كل من المختار البخاري، والمعطي بن عبود، والطيب العلوي، والتهامي الحداد.

الاحتفاء بالنصوص الأدبية:

أول ما ينتبه إليه قارئ الرحلة الزيدانية هو ذلك الحضور الشعري القوي في جميع الصفحات، مما جعلها شبيهة بالمجاميع الأدبية وكتب المختارات الشعرية، فلم يأل الرحالة جهدا في إثبات كل ما وقف عليه من نصوص، وتدوين كل ما استطاع جمعه أو تذكره من قصائد ومقطوعات صدرت عن الوافدين على النادي الزيداني في الجلسات والمسامرات والمساجلات التي تمت في رحابه، أو توصل بها في طي ما تبادله معهم من مراسلات ومكاتبات؛ أكد على ذلك مرات عديدة من مثل قوله: “وقد سنح لي أن أذكر هنا جملة من الأدبيات المشار لها حفظا لبنات الأفكار، من غير اعتبار تاريخ ولا ترتيب في هذا المضمار[48]“.

ويتألف هذا الديوان الشعري (الرحلة) من نحو مائة وألفي بيت، يستأثر ابن زيدان وسكيرج بأكثر من ثلثيه، بينما الباقي يتوزعه أعلام الرحلة الآخرون وهم: محمد بن كبور، والغالي السنتيسي، وعبد القادر العرائشي، ومحمد بن يحيى الصقلي.

ويعزى هذا التوجه الشعري إلى طبيعة فضاء النادي؛ فالوافدون عليه أدباء شعراء يتسمون برهافة الإحساس، والقدرة على الارتجال، وامتلاك ناصية اللغة، فلا عجب إن التف هؤلاء حول مائدة الشعر، وتذوقوا ما يقدم لهم عليها من اقتراحات بالوصف أو الإجازة أو التخميس أو التشطير… فيقع التباري، ويتطلع الكثيرون إلى التفوق. ومن هنا فإن المتن الشعري يغلب عليه الطابع الإخواني من ترحيب، وتهنئة، وتقريظ، وعتاب، ومدح، وغزل، ووصف، وتخميس، وتشطير…

ومن نماذج أشعار هذا النادي ما تبادله عبد القادر العرائشي وسكيرج في معرض التواجد والتودد[49] يقول الأول في قصيدة خاطب بها الرحالة:

أيا من قد رقى درج المراقي                      وفخر ذوي العلوم بلا شقاق

فكم وقت يكون لنا التلاقي                        بحب في سما الإسعاد راق

أديب زماننا وفقيه فاس                           سكيرجنا الذي للقلب راق

شغفت به وفارقني رقادي                        وهمت به وأقلقني اشتياق

فيجيبه سكيرج بقصيدة جاء فيها:

 إليك أبا العلى دام اشتياقي                      جد لي يا حبيبي بالتلاق

    فإني قد جفا جفني منامي                      وكادت تبلغ الروح التراقي

بفضلك فرحمن صبا غريما                      لقد رقت عداه لما يلاقي

     فأنت البدر في نور وحسن                     علوت على على كل الحذاق

وهكذا تبادل الرحال أشعارا إخوانية كثيرة مع كل من محمد السوسي، والطيب العلوي، ومحمد بن كبور، ومحمد الطاهري، والغالي السنتيسي… إلا أن أكثر أشعاره في هذا الباب هي التي خص بها ابن زيدان مبادرا ومجيبا معا، ويكفي في هذا السياق التمثيل بإحدى المقطوعات[50] التي ضمنها عبد الرحمن بن زيدان تأثره ومعاناته وقد غادره ركب صديقه عائدا إلى مدينة فاس، جاء في هذه المقطوعة التي بعث بها إليه:

خليل الروح روح ذا فؤاد                           كليم من لواحظ كالرماح

وعلل باللمى قلبا عليلا                        يقلب في الجحيم بلا ارتياح

ودارك بالوصال بلا انفصال                  وهين العظم يا مولى الملاح

هوانك في هواك لديه هون                   وأشهى للفؤاد من المراح

ففيك مكارم الأخلاق تمت                    وفي فيك المليح بدا انشراحي

فيجيبه سكيرج قائلا:

خليلي عن سواك القلب صاح               وفيك متيم يجفو اللواحي

وحقك ما بغيرك لي سلو                ولا بسواك في عمري ارتياحي

لقاؤك منعش للروح مني                وذكرك في النوى روحي وريحاني

أرى صدري يضيق بحال بعدي                وما بسوى لقاك يرى انشراحي

أنا المملوك من غير اشتراء               قبولك لي به عين الفلاح

فحضور الشعر بكثافة في هذه الرحالة، يكشف عن الميل الشديد إلى القريض إبداعا وجمعا وتأليفا، تذكر كتب التراجم أن لرحالتنا ما يناهز أربعين كتابا في الشعر والنظم[51] من أهمها مجموعاته الشعرية في المديح النبوي والتصوف، وأعماله النظمية في العلوم المختلفة وفي بعض الرحلات.

وانطباع شعره في الرحلة بالطابع الإخواني منسجم مع ما أتاحته هذه الرحلة من مجالس جمعته بثلة من الإخوان، ونخبة من الأدباء والشعراء، في تودد وتواجد؛ فخاطبوه مرحبين ومعاتبين ومسامرين ومساجلين، ولم يكن بد من أن يرد سكيرج التحية بأحسن منها، مما جعل أشعاره تتحرك ضمن هذا الإطار ولا تتعداه، وحتى قصائده الثلاث في المدح السلطاني[52] يمكن اعتبارها داخلة في هذا السياق كذلك، لأنه نظمها على لسان أحد هؤلاء الإخوان وهو التهامي الحداد إسعافا له ومساندة.

ولم يكن الإنتاج الشعري السكيرجي مقصورا على ما أثبته في رحلته من أغراض وموضوعات، ولكنه -في مجموعاته الشعرية- طرق أغراضا أخرى في التصوف والحكمة، والموضوعات العلمية والتربوية والاجتماعية والحضارية[53]، ولعل هذه الأغراض الجديدة هي التي يقصدها ابن تاويت حين يعد الشاعر “من الأدباء الذين ظهروا بالتجديد بعد العهد الحسني[54]” ومن هذا المنحى أيضا يضعه الأستاذ الطريسي في خانة الذين برز في شعرهم، “تحول طفيف في الأغراض الشعرية[55]“، إلا أن أحمد سكيرج وإن حاول الانفلات من أسر التقليد بطرقه لموضوعات جديدة، فإنه على مستوى الصياغة ظل مشدودا إلى التقليد كما يرى الباحثان المذكوران[56].

أما النصوص النثرية التي تتضمنها الرحلة، فهي وإن كانت في الدرجة الثانية بعد الشعر من حيث الكم، إلا أن لها أهميتها في التعرف على ما كان يشغل الطبقة النيرة من قضايا أدبية واجتماعية آنذاك بالإضافة إلى أنها تلقي الضوء على مستوى الكتابة لغة وأسلوبا في تلك الفترة.

وتتمثل هذه النصوص النثرية في قسمين:

  1. تقييد لمحمد بن عبد السلام الطاهري في قضية فقهية أدبية عنوانه “بهجة الفكر في اشتمال خطبة الجمعة على أبيات الشعر[57]“، ولعل المسألة كانت أثارت نقاشا فقهيا وأدبيا على نطاق واسع في بدايات القرن العشرين، فتضاربت المواقف من توظيف الشعر في خطب الجمع بين مؤيد ومنكر، بل برزت آراء تنتقد تعاطي الشعر وتتحامل عليه، ولمواجهة هذا التيار المعادي للإبداع الشعري نظمت أشعار وألفت كتب في الانتصار للشعر وتفنيد حجج خصومه[58] ككتاب ابن زيدان “تغيير الأسعار على من عاب الأشعار”، وكأشعار سكيرج وابن زيدان والغالي السنتيسي… جاء في تقريظ سكيرج للكتاب المذكور قوله:

          ولقد عجبت لمن يعيب الشعر إن           يك في القريظ يرى أخا استصغار

              والشعر ينبئ عن نباهة قائليــ               ـه لأنه المعيار للأفكـــار

      ما عابه من كان يحسن وزنه                   أو كان يعرفه مع استبصار

  1. مجموعة[59] رسائل تبادلها الرحالة مع الأعلام الذين اجتمع بهم في رحلته، وتتضمن ثمان عشرة رسالة تتوزع كالتالي:

– خمس رسائل بعث بها ابن زيدان لسكيرج.

– ست رسائل خص سكيرج ابن زيدان منها، بينما بعث بالسادس لعبد القادر العرائشي.

– ثلاث رسائل للسنتيسي وجه اثنتين منها إلى سكيرج، وبعث بالثالثة إلى زيدان.

– رسالتان بعث بهما عبد القادر العرائشي إلى سكيرج.

– رسالتان لمحمد بن كبور بعث بهما إلى ابن زيدان.

ولقد كان للشعر في هذه الرسائل موقعه المتميز، احتل حيزا هاما قد تختلف رتبته تقديما وتأخيرا، ولكنه من أهم العناصر في بناء الرسالة، أما أسلوب هذه الرسائل فيمكن تصنيفه ضمن الكتابات البديعية من التزام بالصنعة، واتكاء على المحسنات من سجع وجناس وطباق، وميل إلى التشخيص باستعمال المجاز والاستعارة، ومن هنا لا يبدو تأثر كبير بالصحافة المشرقية الوافدة على المغرب حينئذ…

الوصف في الرحلة

من أهم ما يطبع الرحلات عامة اهتمامها بوصف الطرق التي سلكها الرحالة، ورصد الجوانب الاجتماعية التي استوقفته، وذكر المشاهدات التي أثارت انتباهه وفضوله، إلا أن رحالتنا هنا أولى الجانب الأدبي اهتماما خاصا، مما جعل الوصف فقيرا أو يكاد يكون غائبا في هذا العمل، وهكذا لا يمكننا التعرف بدقة على الطريق التي سلكها وهو متوجه إلى مكناس، باستثناء إشارات بسيطة لا تبدد ما يستشعره القارئ من غموض وإبهام لانعدام الدقة والوضوح، ولإغراقه في الصناعة البديعية. يقول وقد غادر ركبه مدينة فاس: “وعنها صرنا راحلين، نرى في الطريق الناس راكبين وراجلين، وسرنا من سايس نقطع تلك المسافات، خوف الوفاة قبل الموافاة، وكلما جبت مفازه، قلت هذه لي مفازه، فلم أقطع بعض تلك المسافات، حتى قلت هذا المسافات[60]“.

وهكذا تضيع المعاني في غمار البحث عن الأسجاع والجناسات، فتتحول التضاريس الطبيعية بين فاس ومكناس إلى صحاري ومفازات وقفاز، وواقع الأمر خلاف ذلك. ويغيب الوصف كلية في طريق الإياب، فليست هناك إشارة واحدة إلى معالم الطريق ومراحله ومشاهداته حين مروره به، ذلك أن الرحلة تنتهي باستئذانه ابن زيدان في العودة[61].

ومع ذلك فالرحلة لا تخلو من لوحات وصفية قصيرة خص بها سكيرج بعض مشاهداته في زياراته ونزهه داخل مكناس، لزعمه أن الوصف لا يغني عن المعاينة نظرا لقصور اللغة عن إبراز دقائق الموصوف، ونقل الأحاسيس؛ فالمآثر الإسماعيلية “لا يفي في شرحها سوى المشاهدة لمن يشهد الغرائب، ويحار في وصف ذلك مثلي بين سكان المشارق والمغارب[62]“.

ومن المعالم والآثار التي نالت اهتمامه فوصفها بطريقته، نذكر:

– الأضرحة[63] [الضريح الإسماعيلي، ضريح عبد الرحمان المجذوب، ضريح قدور العلمي، ضريح سيدي سعيد، ضريح الشيخ الكامل]

– المسجد الكبير[64].

– سجن قارة[65].

– جنان ابن حليمة[66].

– ألعاب الفروسية قرب ضريح سيدي سعيد[67].

وبالرغم من قلة أوصافه وإيجازها الشديد، فإنه كان يتكئ فيها –غالبا- على الشعر، وكأنه يجد التعبير الشعري أقدر على نقل أحاسيسه وعواطفه وتقريب موصوفاته إلى القارئ.

منهج كتابة الرحلة:

يبدو من قراءة الرحلة أن الطريقة التي دونت بها تأثر فيها صاحبها بمنهج العلماء المسلمين بصفة عامة، ومنهج رواة الحديث على الخصوص، في التقيد بالنص حرفيا، والتأكد من صحته متنا ورواية، واعتماد حلقات السند في الحصول عليه، والتدقيق في عباراته… ويتجلى هذا المنهج العلمي الصارم في العناصر التالية:

  1. استعمال عبارات دقيقة تنفي أي أثر للشك أو التردد في صحة ألفاظ النص ومعانيه؛ بالتأكيد على سلامة نسبته إلى صاحبه، وروايته عنه دون واسطة، وهكذا تنتشر في ثنايا الرحلة عبارات من مثل[68]: وقفت بخطه، وكتبه لي بخطه، وسمعت منه، وأنشدني من حفظه، حرره بخط يده…
  2. الإشارة إلى نصوص مختلفة دون إثباتها في الرحلة لتصريحه بضياعها، أو لشكه في سلامة ألفاظها وصحة معانيها، فقد يشير المؤلف إلى نص معين وظروف كتابته وتحريره، ولكنه لا يورده ضمن ما دونه في رحلته لعدم اطمأنانه إلى صيغ جمله وسلامة تعبيراته كما حرره به صاحبه، جاء في معرض حديثه عن عبد القادر العرائشي قوله: “ولما رجعت إلى فاس أعلمته بوصولي بسلامة، وكتبت له قصيدة ضمن الكتاب وفاتني إبقاء نسخة منه لأثبتها في هذا المحل، كما ضاع من يدي ما كنت أعددته لإخراجه من مبيضته جملة وافرة[69]“، ومثل هذا التثبت والتحري يتكرر في مواطن كثيرة[70].
  3. التنبيه على ما اعترى النص أثناء التداول، أو ما يمكن تسميته بحياة النص، فيشير إلى ما أقيم حوله[71] من شروح وتعليقات، وتخميسات، وتشطيرات، وتقريظات…

كما يشير إلى تاريخ الطبع ومكانه إن كان النص مطبوعا[72]؛ ولا شك في أن هذا العمل هو من متممات المنهج التحقيقي التوثيقي.

  1. الاهتمام بالنصوص التي وقف عليها الرحالة منقوشة على المآثر التاريخية المختلفة[73]، والعمل على قراءتها، وفك ألغازها، ونسبتها إلى صاحبها، والإرشاد إلى موقعها، وكيفية نقشها على الأسوار وفي القبب، وكأنه عالم آثار يدون اكتشافاته ويعلن استنتاجاته؛ وبهذا المنهج الدقيق دون ما وجده منقوشا في قبة الضريح الإسماعيلي وجدارنه، وفي مدخل ضريح عبد الرحمن المجدوب، وعلى عنزة المسجد الكبير بالقصبة، ورخامته بالصحن، وساقيته، وفي البناءات الشاهقة بجنان ابن حليمة…

وهكذا وبعد استعراض مضمون وأسلوب الرحلة الزيدانية، تتضح لنا أهمية هذه الرحلة في الإشارة إلى قضايا سياسية واجتماعية وثقافية وأدبية، وفي إنارة زوايا في تراجم أعلام فقهاء وأدباء زمن الرحلة، وفي حفظ النصوص الشعرية والنثرية المختلفة للرحالة نفسه ولغيره ممن تحدث عنهم من العلماء والأدباء…

المراجع

ـ إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس، عبد الرحمن ابن زيدان، الرباط، 1352ﻫ/1933م.

ـ الاثنوغرافيا والسوسيوغرافيا، د. رشدي فكار، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط1، 1988. أدب الرحلة، د. حسين نصار، الشركة المصرية العالمية للنشر، القاهرة، 1991.

ـ أدب الرحلة حسين فهيم، سلسلة عالم المعرفة، عدد 118.

ـ أدب الرحلة بالمغرب، الحسن شاهدي، عكاظ، الرباط، 1990.

ـ الأدب العربي في المغرب الأقصى، محمد بن العباس القباج، المكتبة المغربية، الرباط، 1347ﻫ/1929م.

ـ الإكسير في فكاك الأسير، ابن عثمان المكناسي، مقدمة التحقيق، محمد الفاسي، الرباط، 1965.

ـ تاريخ الأدب الجغرافي، للمستشرق كراتشوفسكي، ترجمة صلاح الدين هاشم، القاهرة، 1963.

ـ تاريخ الجغرافية والجغرافيين، لحسين مؤنس، مدريد، 1386ﻫ/1967م.

ـ التأليف ونهضته بالمغرب في القرن العشرين، عبد الله بن العباس الجراري، مكتبة المعارف، الرباط، 1406ﻫ/1985م.

ـ الجغرافية والرحلات عند العرب، نقولا زيادة، بيروت، 1980.

ـ دليل مؤرخ المغرب الأقصى، عبد السلام بنسودة، البيضاء، 1965.

ـ الرحلات، د. شوقي ضيف، ط3، القاهرة، د، ت.

ـ الرحلة الزيدانية، أحمد سكيرج، مصورة على الشريط بالخزانة العامة، بالرباط، رقم 1030. حققتها الأستاذة فدوى بنخليفة لنيل د.د.ع بكلية آداب الرباط.

ـ الرؤية والفن في الشعر العربي الحديث بالمغرب، د. أحمد الطريسي أعراب، البيضاء، ط1، 1987.

ـ شذرات تاريخية، عبد الله الجراري، ط1، البيضاء، 1396/1976.

ـ غاية المقصود بالرحلة مع سيدي محمود، أحمد سكيرج، مخطوط الخزانة العامة، بالرباط، رقم د.3847.

ـ كتابات مضيئة في التراث الجغرافي، د.شاكر خصباك، بغداد، 1979.

ـ المصادر العربية لتاريخ المغرب، محمد المنوني، الجزء الثاني، نشر كلية آداب، الرباط، 1410ﻫ/1989م.

ـ معجم المطبوعات المغربية، إدريس بن الماحي، مطابع سلا، 1988. المغرب عبر التاريخ، إبراهيم حركات، البيضاء، 1398ﻫ/1978م.

ـ الوافي بالأدب العربي في المغرب الأقصى، محمد بن تاويت، البيضاء، 1981م.

ـ وحي البيئة، محم الفاسي، دار الكتاب، البيضاء، 1970.

ـ Extraits des principaux géographes Arabes, blachére( R) paris 1932.

ـ Recherches géographiques.Walcknaer (c.a) paris 1821.

الهوامش

  1. من الباحثين نذكر: كراتشوفسكي، بلاشير، ولكنار، نقولا زيادة، حسين مؤنس، شاكر خصباك، رشدي فكار…
  2. محمد الفاسي، وحي البينة، ص70.
  3. من هؤلاء الباحثين:

– حصين نصار، أدب الرحلة، مصر 1991. الحسن شاهدي، أدب الرحلة بالمغرب، عكاظ، 1990.

– حسين فهيم، أدب الرحلة، سلسلة عالم المعرفة، عدد 118. شوقي ضيف، فن الرحلات، مصر، 1979.

شاهدي، أدب الرحلة بالمغرب، 1: 48، 59.

من هؤلاء أحمد سكيرج وعبد الله الجراري وعبد الرحمن بن زيدان ومحمد المختار السوسي…

  1. يرجع في ترجمته ورحلاته إلى ما يلي: معجم المطبوعات المغربية لإدريس بلمليح، دليل مؤرخ المغرب لعبد السلام بنسودة، الأدب العربي في المغرب الأقصى لمحمد بن العباس القباج، التأليف ونهضته بالمغرب لعبد الله الجراري، المصادر العربية لتاريخ المغرب لمحمد المنوني، فهارس المخطوطات بالخزانة العامة، والخزانة الحسنية، والخزانة الصبيحية، والخزانات الوقفية…
  2. الجراري، التأليف ونهضته بالمغرب، ص42.
  3. الرحلة الزيدانية، مرقونة بكلية آداب الرباط، ص421.
  4. المصدر نفسه، ص604.
  5. يرجع مثلا إلى الفاسي، الإكسير، ص خ . شاهدي، أدب الرحلة بالمغرب، 64-106. نصار، أدب الرحلة، 19-49.
  6. الزيدانية، ص444.
  7. مكرر، نفسه، ص653.
  8. نفسه، ص421.
  9. نفسه، ص529-607.
  10. نفسه، ص507.
  11. نفسه، ص593.
  12. نفسه، ص515،593، 631.
  13. نفسه، ص502.
  14. نفسه، ص653.
  15. نفسه، ص529، وبلوغ المقصود هو غاية المقصود.
  16. نفسه، ص520.
  17. انظر الرحلة الزيدانية، ص427-493-511-513-514-535-586.
  18. غاية المقصود مخطوط، خ.ع. د 3847، 40-44-45-49-51.
  19. انظر الزيدانية، ص446. غاية المقصود، ص 27-29.
  20. الزيدانية، ص653.
  21. يرجع إلى: الإتحاف، لابن زيدان، 1: 416. شذرات تاريخية، الجراري، ص 25، المغرب عبر التاريخ، حركات، 3: 291-325-333.
  22. الزيدانية، ص431.
  23. نفسه، ص438.
  24. نفسه، ص631.
  25. نفسه، ص436-448.
  26. نفسه، ص429.
  27. نفسه، ص444.
  28. نفسه، ص493.
  29. نفسه، ص488.
  30. نفسه، ص495.
  31. نفسه، ص427-436-444-465.
  32. نفسه، ص536.
  33. نفسه، ص525.
  34. نفسه، ص588.
  35. نفسه، ص444.
  36. نفسه، ص512.
  37. نفس، ص427-436-448-465-493-511-513-514-532-535-586-588.
  38. نفسه، ص 436-448-514.
  39. انظر “غاية المقصود، خ.خ.ع. رقم .د 3847 ص40، 44، 45، 49، 51.
  40. الرحلة الزيدانية، ص537-538.
  41. نفسه، ص418.
  42. نفسه، ص427.
  43. نفسه، ص436.
  44. نفسه، ص493.
  45. نفسه، ص610.
  46. نفسه، ص495.
  47. نفسه، ص605-606.
  48. الرحلة الزيدانية، مقدمة التحقيق، ص98-109.
  49. نفسه، ص590-601.
  50. الأدب العربي في المغرب الأقصى، 1: 57.
  51. الوافي، 3: 943.
  52. الرؤية والفن، ص96.
  53. الوافي، 3، 944، الرؤية والفن، ص96.
  54. الرحلة الزيدانية، ص468-490.
  55. نفسه، ص642-647.
  56. نفسه، ص614-636-606-527-520-506-453-448.
  57. نفسه، ص422.
  58. نفسه، ص604.
  59. نفسه، ص444.
  60. نفسه، ص439-445.
  61. نفسه، ص463.
  62. نفسه، ص446.
  63. نفسه، ص447.
  64. نفسه، ص436.
  65. نفسه، ص 455-530-586-587-588.
  66. نفسه، ص 502.
  67. نفسه، ص 515 مثلا.
  68. نفس، ص 434-459-491-496-569-582-587-592-642.
  69. نفسه، ص 530 مثلا.
  70. نفسه، ص 439-443-447-463.
الوسوم

د. الحسن شاهدي

أستاذ بكلية الآداب-القنيطرة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق